فتحت معركة «طوفان الأقصى» التي أطلقتها «كتائب الشهيد عز الدين القسام»، الذراع العسكرية لحركة «حماس»، في 7 أكتوبر 2023م، مرحلة جديدة في القضية الفلسطينية، ورغم الإنجازات البارزة التي حققتها الحركة في اليوم الأول، فإن الأيام والأسابيع التي تلت ذلك شهدت حرباً «إسرائيلية» تخللتها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد قطاع غزة.
خلال 3 أسابيع على بدء العدوان الصهيوني على قطاع غزة، حتى كتابة هذه السطور، تجاوز عدد الشهداء 8 آلاف، وأضعافهم من الجرحى، فضلاً عن مئات الآلاف من النازحين، وقد استفاد الاحتلال من الدعم غير المسبوق للولايات المتحدة الأمريكية ليضرب عرض الحائط القانون الدولي والإنساني وأعراف الحرب.
لقد هزت الضمائر جرائم مروعة ارتكبها الاحتلال مثل قصف مستشفى الأهلي المعمداني الذي ارتقى نتيجته ما يقرب من 500 شهيد، كما كان يوم 24 أكتوبر أحد أقسى أيام العدوان؛ حيث سجل أكثر من 700 شهيد في يوم واحد منهم زهاء 305 أطفال.
إزاء هذه الوحشية غير المسبوقة في العدوان، ومحاولة إشباع غريزة الانتقام وإراقة أكبر كمية ممكنة من الدماء لتسكين الجبهة الداخلية وإطالة أمد الحياة السياسية لرئيس وزراء الاحتلال «بنيامين نتنياهو»، كان ثمة أهمية كبيرة للمواقف الدولية والإقليمية والعربية، وفي ظل تخندق الغرب عموماً خلف سردية الاحتلال وآلة قتله، ازدادت أهمية المواقف العربية والإسلامية، لكن الكثير منها لم يكن على قدر الموقف، أو مرضياً للجانب الفلسطيني.
كانت تركيا في أكثر من عدوان سابق للاحتلال على غزة ذات موقف متقدم، وتعدُّ نفسها صوتاً لأهل غزة المحاصَرين والمعتدى عليهم، لكن حرب «سيف القدس» في عام 2021م شهدت موقفاً مختلفاً نسبياً عبرت عنه شخصيات قيادية في المقاومة الفلسطينية أنه كان أقل من المتوقع والمأمول والممكن تركياً.
فقد جاءت تلك الحرب في ظلال تغيير بوصلة السياسة الخارجية التركية لتدوير زوايا الخلاف مع عدد من القوى الإقليمية من بينها دولة الاحتلال، حينها قال الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»: إن بلاده ستفصل في المستقبل بين علاقاتها مع «إسرائيل» وسياسات الأخيرة تجاه الفلسطينيين، ويبدو أن هذا ما حدث في معركة «طوفان الأقصى».
لقد كانت المعركة مفاجئة من جهة، واستثنائية من جهة أخرى؛ استثنائية من حيث حجم إنجازات المقاومة الفلسطينية وخصوصاً ما يتعلق بكسر هيبة «الجيش الذي لا يُقهر»، ومن حيث الإجرام الصهيوني غير المسبوق، مقابل ذلك كان الموقف التركي، وعدد من الدول الأخرى، تقليدياً إلى أبعد الحدود في حالة تكرار واجترار لأحاديث السلام وحل الدولتين وما شابه.
«أردوغان»: «حماس» حركة تحرر وطني تناضل لحماية مواطنيها وأرضها.. و«إسرائيل» دولة إرهاب
أكثر من ذلك، فقد حمل الموقف التركي الرسمي الأولي نبرة اقتربت من نقد المقاومة الفلسطينية وتحميلها مسؤولية ما يحصل، من خلال التركيز على رفض استهداف المدنيين، وضرورة إطلاق «حماس» سراح «الرهائن»، وهي صياغات بعيدة عن الفهم العميق والدقيق للقضية الفلسطينية وارتباط المعركة الحالية بها من جهة، وأقرب للمواقف الغربية التي ركزت على هذه المضامين من جهة أخرى.
لقد غابت الانتقادات الواضحة للاحتلال في الأيام الأولى، واحتفت الأوساط السياسية والإعلامية التركية بما أسموه «الحياد» في المعركة ومحاولة لعب دور الوسيط لإطلاق سراح الرهائن، ودعوة جميع الأطراف للهدوء والحكمة، والسعي لإطلاق عملية سياسية بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين».
كثيرون صُدموا بهذا الموقف التركي المختلف تماماً عن سابقيه، وكذلك عن المأمول من أنقرة والرئيس «أردوغان» تحديداً، وتعددت التفسيرات لهذا المتغير المهم، في ظننا أن المتغيرات في الموقف التركي مدفوعة بعدة عوامل تضافرت لتحدث هذه النتيجة، في مقدمة هذه العوامل طي أنقرة صفحة الثورات العربية والمواقف المتقدمة فيها التي يبدو أنها باتت مقتنعة أنها أخسرتها، وكان ذلك من ضمن العوامل الدافعة لتطوير العلاقات وتحسينها مع مصر والسعودية والإمارات والبحرين ودولة الاحتلال، وليس خافياً أن الأوضاع الاقتصادية في البلاد من ضمن أهم الأسباب لهذا التوجه، إذ يبحث الاقتصاد التركي عن استثمارات خارجية وأموال ساخنة يعرف أن دول الخليج يمكن أن تؤمنها.
وهناك أولوية ملف غاز شرق المتوسط بالنسبة لتركيا، حيث تأمل الأخيرة في خلخلة المحور المناوئ لها فيه بقيادة اليونان وتسعى لإقناع «إسرائيل» بتصدير غازها عبر تركيا إلى أوروبا والعالم، وهو سعي مبالغ في توقعات جدواه قبل المعركة فما بالنا بعدها! وهناك أيضاً حرص أنقرة على تجنب أي أزمة كبيرة مع واشنطن حماية للاقتصاد من أي هزات على بعد أشهر قليلة من الانتخابات البلدية، ومحاولة لضمان إبرام صفقة «إف 16» التي ماطل بها الكونغرس طويلاً.
تطور نسبي
مع امتداد أيام العدوان واستمرار الآلة العسكرية «الإسرائيلية» في حصد أرواح المدنيين بالآلاف، بدأت ملامح الموقف التركي تتطور شيئاً ما بطريقة متدرجة وبطيئة، صحيح أن تصريحات الرئيس التركي غابت إلى حد كبير، إلا أن الدبلوماسية التركية بقيادة الوزير الجديد «خاقان فيدان» رفعت سقف خطابها باتجاه تحميل «إسرائيل» مسؤولية الأرواح المزهقة وتجاهل القوانين والأعراف الدولية.
دعمت أنقرة موقف القاهرة الرافض لتهجير سكان غزة نحو سيناء، ونددت بالمجازر التي ارتكبتها قوات الاحتلال ضد المدنيين وخصوصاً مجزرة المستشفى الأهلي التي تدخل في إطار الجرائم ضد الإنسانية، وفي «قمة السلام» التي نظمتها القاهرة في 21 أكتوبر، أكد «فيدان» ضرورة وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع المحاصر، كما طرح فكرة «الضامنين» لتأمين حالة من الهدوء والاستقرار في المدى البعيد.
ما زالت أنقرة تمني النفس بأن تمارس دور الوسيط كما فعلت في الحرب الروسية الأوكرانية
وفي خطاب له أمام كتلة حزبه البرلمانية، رفض «أردوغان» وصم حركة «حماس» بالإرهاب، ووصفها بأنها «حركة تحرر وطني ومجاهدين تناضل لحماية مواطنيها وأرضها»، وقد تعرضت تركيا لانتقادات لاذعة بسبب هذا التصريح من دولة الاحتلال وبعض الدول الأوروبية مثل إيطاليا، وأكد الرئيس التركي، في كلمته، أن بلاده لا يسعها الصمت إزاء ما يحصل في غزة، وأنها ستفعل كل ما بوسعها سياسياً وإنسانياً وعسكرياً إن اقتضى الأمر، فيما بدا إحالة على فكرة الدول الضامنة التي تطرحها أنقرة مؤخراً.
وفي 28 أكتوبر؛ أي قبل يوم واحد من ذكرى تأسيس الجمهورية، نظم حزب العدالة والتنمية الحاكم مظاهرة حاشدة في إسطنبول دعماً للفلسطينيين ورفضاً للجرائم التي ترتكب بحقهم، وفي كلمته، وصف «أردوغان» «إسرائيل» بأنها «دولة إرهاب» كما فعل قبل سنوات، وهدد بسعي بلاده لفضحها أمام العالم، لكن كلمته لم تتضمن الإشارة إلى أي مسار عملي يتعلق بالعلاقات الثنائية معها أو الضغط عليها باستثناء إلغاء زيارة مفترضة له إليها.
وهكذا، شهدت الأسابيع التالية للعدوان على قطاع غزة تصريحات تركية أعلى سقفاً من السابق، ولا سيما لجهة تحميل «إسرائيل» مسؤولية ما حصل من باب رفضها للحل السياسي، والمقصود هنا القبول بقيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967م (وهو الموقف التركي الرسمي بخصوص الحل).
وفي الخلاصة، فإن النبرة التركية المتعلقة بالعدوان «الإسرائيلي» على قطاع غزة تطورت نسبياً مع استمرار آلة الحرب في سكب الدم الفلسطيني بغزة، إلا أن تطوراً جوهرياً وعملياً لم يطرأ حتى لحظة كتابة هذه السطور، ما يبقيه بعيداً عن مواكبة المعركة والتداعيات المتوقعة لها على المدى البعيد.
ما زالت أنقرة تمني النفس بأن تمارس دور الوسيط كما فعلت في الحرب الروسية – الأوكرانية، بينما ما زال منتظراً ومأمولاً منها أن تكون داعمة كما فعلت مع أذربيجان في مواجهة أرمينيا، فالقضية الفلسطينية قضية حق وعدالة جوهرها تحرير أرض محتلة كما كانت قضية أذربيجان، فضلاً عن وشائج العلاقة والقرب بين تركيا وفلسطين مما لا يتوفر في الحالة الأوكرانية.