على مدار أكثر من سبعة عقود لا يكاد يخلو عمل درامي أو سينمائي من حضور لافت للمشايخ ورجال الدين، يظهرون تارة بالزي الأزهري المعهود، وتارة بجلباب أبيض ولحى كثيفة، ووجوه متجهمة، وعنف لا ينفك على أقوالهم وأفعالهم، وبعد كل عمل تتابين الآراء ويكثر الجدل، ويحتدم النقاش بين من يرى أن الأعمال الفنية تظهر الوجه الحقيقي لرجال الدين وتجلي ممارستهم السلبية في ضوء الحق المكفول لأصحاب الرأي، ومن يرى أن هذه الأعمال تشوه رجال الدين وتنتقص من قدرهم.. أين الحقيقة؟!
البداية من الشيخ حسن
في العهد الملكي، لم تكن السينما أداة في يد السلطة، على خلاف المسرح مثلاً، فقد استعان الخديوي إسماعيل بالمسرح في ترسيخ الثقافة الغربية في مصر، وإظهار مصر على أنها بلد حضاري يستوعب كل الثقافات من خلال جلب الفرق الأجنبية بأجور مرتفعة للغاية لعرض أعمالهم الفنية على مسارح مصر، وأشهرها مسرح «زيزينيا» بالإسكندرية، ولم تكن السينما مهتمة بشكل كبير بشخصية الرجل المتدين وإظهار سلوكه في المجتمع، بل تمحور اهتمامها على محاكاة النمط الأوروبي من خلال عرض روايات الأدباء الإنجليز والفرنسيين، والميل نحو الفكاهة بعيداً عن اعتمادها كأداة في تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية ونقدها.
وقبل أشهر قليلة من مجيء الضباط الأحرار إيذاناً بانتهاء الحقبة الملكية، برز فيلم «ليلة القدر» الذي تم تغيير اسمه لاحقاً إلى «الشيخ حسن» الذي قام ببطولته الممثل حسين صدقي الملقب بـ«الفنان الملتزم»، وأثار وقتها حالة كبيرة من الجدل، بسبب حزمة القيم الموجهة من بطل العمل ومؤلفه ومخرجه، حيث تجلت النشأة الدينية التي نشأ عليها الفنان حسين صدقي وقربه من الشيخ محمود شلتوت، والشيخ عبدالحليم محمود في إظهار مجموعة من القيم الدينية النبيلة التي فاجأت الرأي العام المصري؛ فقد جسد صدقي شخصية شيخ أزهري شديد الإيجابية والتأثير في المحيطين به، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، مستشهداً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، داعياً زوجته النصرانية إلى الإسلام بعد أن أبرز لها جمالياته، وقيمه الأصيلة المتوافقة مع الفطرة البشرية.
تحولات سينما ودراما 23 يوليو
أول ما قام به رئيس الجمهورية الوليدة منع عرض فيلم «ليلة القدر»؛ لأنه سلط الضوء على قدرة الإسلاميين الذين يحملون هَمَّ الدين على التأثير في المجتمع.
ونظراً لعلاقته الوثيقة ببعض كبار رجال الدولة حاول صدقي عرض الفيلم مرة أخرى، وقد نجح في ذلك بالفعل بعد تغيير المسمى من «ليلة القدر» إلى «الشيخ حسن»، وكان هذا الفيلم أول وربما آخر فيلم يقدم الشيخ في صورة إيجابية ناصعة، حيث أدرك الضباط الأحرار الذين دخلوا في عداء مع التيار الإسلامي قيمة الدراما والسينما في توجيه الشعب، فوظفوا هذا السلاح الناجع في خدمة أفكارهم.
صحيح أن السينما في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لم تلق بثقلها في تشويه الإسلام السياسي ورموزه المناهضة لحكمه بشكل مباشر ومركز، لكنها سعت لتشويه صورة الشيخ بطرق ملتوية خبيثة، ففي فيلم «جعلوني مجرماً» الذي تم إنتاجه عام 1954م، جسد الفنان يحيى شاهين شخصية الشيخ والداعية الطيب الذي يقف في صف المظلوم، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون اسمه «حسن»، لكنه حسن مغاير لحسن بطل «يلة القدر»، فهو الذي يرشد ويعظ ويدل على طريق التوبة والصلاح، لكنه في ذات الوقت متسامح للحد الذي يجعله يعيش مع راقصة في بيته دون سند شرعي.
وفي فيلم «الزوجة الثانية»، الذي أنتج في عام 1967م، بدا الشيخ ورجل الدين داعماً قوياً للسلطة المستبدة، من خلال توظيف النصوص الدينية في سبيل خدمة من يملك زمام الأمور، حيث أفتى الشيخ بصحة زواج المكرهة، وبدا الشيخ المعمم ضعيفاً هشاً أمام السلطة المستبدة.
صورة المتطرف والإرهابي
وفي حقبة الرئيس الراحل محمد أنور السادات، خفتت موجة التشويه المتعمد لرجال الدين والمشايخ في الدراما والسينما، غير أن الصراعات التي نشأت بين السلطة والتيارات الإسلامية من جهة، والتيارات الإسلامية والشيوعيين من جهة، مهدت لاحقاً لإعطاء مساحة أكبر لتشويههم.
وقد تناول الكاتب الكبير «أ. أ. ع» في العديد من مسلسلاته صورة الشيخ والداعية بكثير من الإهانة والتحقير، فهو الذي يعتدي جسدياً على خالته لعدم ارتدائها الحجاب كما في مسلسل «ليالي الحلمية»، وهو الفاسد المنحرف سلوكياً زير النساء كما في مسلسل «امرأة في زمن الحب»، وظهر رجل الدين على أنه نصاب ومنافق كما في شخصية «الحاج ناجي» في فيلم «كراكون في الشارع»، وصورة الموظف المتكاسل الممعن في تطبيق البيروقراطية المنشغل بالعبادة على حساب العمل الذي يتقاضى عليه راتباً، وفي ذات الوقت المفتون بالنساء العاريات كالشخصية التي جسدها الفنان أحمد عقل في فيلم «الإرهاب والكباب»، فقد حاول كاتب العمل «و. ح» أن يقنع المشاهد أن المتدين الملتحي هو سبب التخلف الذي يعيش فيه البلد، فقد ترك الموظف عمله لأداء صلاة في غير وقت الفريضة، ويتهم الناس بالكفر لأن أحداً نصحه بأن قضاء حوائج الشعب أهم من الصلاة في وقت الضحى.
وصورة الإرهابي كما هي شخصية كل من «أ. ح»، و«ع. إ» في فيلم «الإرهابي» الذي يقتل الناس ويستحل دماءهم، وعينه لا تكف عن التطلع لمفاتن النساء حتى في أحلامه، وهو الذي يتخذ من الدين ستاراً لتحقيق أهداف خبيثة كما هو الحال في مسلسل «عد تنازلي»، ومسلسل «تفاحة آدم»، وهو المخادع المنافق الذي يصل إلى غرضه بطرق غير شرعية كالرشوة وغيرها كما في «طيور الظلام».
وهو الداعية المتاجر بالدين الباحث عن الشهرة كما في فيلم «مولانا»، وهو الشهواني الذي يأكل بنهم في منظر مقزز كما في فيلم «الثلاثة يشتغلونها»، وهو المغتصب البارع في هتك الأعراض كصورة الشاب المتدين الذي وصلت به الحال لتحرك شهوته تجاه أمه كما في فيلم «الأبواب المغلقة»! وهو الشيخ المائع المنحل في التعامل مع المرأة، الحافظ لا الفاهم كما في مسلسل «الداعية»، ومسلسل «فاتن أمل حربي» الذي ألفه المحارب لكل فضيلة «إ. ع»، وهو المتخبط غير المتزن نفسياً كما في فيلم «شيخ جاكسون»، وهو المتناقض الضعيف والعنيف كما في فيلم «حين ميسرة»، وفيلم «كباريه»، وفيلم «دم الغزال».
تشويه سوداني سوري مغربي
وفي السودان الذي يوصف بالبلد المحافظ، لم تدخر الدراما وسعاً في تشويه صورة المتدين، فقد أثار المسلسل السوداني «ود الملك» ضجة عبر مواقع التواصل بعد إظهاره إمام مسجد بصورة شخص منحرف وغير سوي، وسط اتهامات للقائمين على العمل بمحاولة تشويه صورة المتدينين.
وفي المغرب أيضاً أثار فيلم «الإخوان» جدلاً بين الإسلاميين وصناع الفيلم، حيث سعى الفيلم لتشويه صورة المتدينين والإساءة البالغة لهم، حيث يصور الفيلم ثلاثة من الشباب المتدين، يقعون في يد شاب آخر متطرف يجذبهم إلى جماعة إرهابية ويتدربون على حمل السلاح وترويع الآمنين.
وكذلك لم تبعد الدراما السورية عن خط تشويه صورة المتدين، فقد ركز مسلسل «أحقاد خفية» على صورة المتدين الذي يتخذ موقفاً متشدداً من استكمال تعليم زوجته، ويحلو له دوماً الاعتداء عليها، وحبسها في بيتها وعدم السماح لها بالخروج، ثم يأتي بعد إنتاج هذا العمل بـ4 سنوات مسلسل آخر يحمل اسم «ما ملكت أيمانكم» لا يدخر وسعاً هو الآخر في تشويه صورة رجل الدين حيث أظهره على أنه مخرب مفسد في الأرض.