من وايزمان إلى روتشيلد، كيف صيغ «وعد بلفور»؟ ومن شارك في صناعته؟
يقول المؤرخ اليهودي أفي شليم -المناهض للصهيونية- والأستاذ في جامعة أكسفورد حول «وعد بلفور»: «لم يكن لبريطانيا حق أخلاقي أو سياسي أو قانوني يقول لها أن تعد بإعطاء أرض هي ملك للعرب إلى أناس آخرين كان وعد بلفور غير أخلاقي وغير قانوني».
«إنّ حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل أقصى جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنّه لن يُؤتى بأيّ عمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر».
كان هذا نص الرسالة التي أرسلها وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر جيمس بلفور، إلى اللورد ليونيل والتر روتشيلد، أحد أثرياء اليهود وداعم المنظمة الصهيونية العالمية، في 2 نوفمبر 1917م، وأصبحت هذه الرسالة أشهر نص رسميّ قدمت فيه بريطانيا وعدًا لليهود بإقامة دولة لهم في فلسطين، ولكن هل تعلم بأن هذا الوعد قد كتبت مسوداته ما بين بريطانيا والولايات المتحدة، وكان أحد أهم الأسباب لدفع الولايات المتحدة حينها لدخول الحرب العالمية الأولى، وتقليل معارضة يهود تلك البلاد من دخول هذه الحرب؟!
تقسيم المشرق واقتطاع فلسطين
ومع اشتعال الحرب العالمية الأولى، عملت بريطانيا وفرنسا على تقاسم تركة الدولة العثمانية، وفي 16 مايو 1916م، توصلت بريطانيا وفرنسا عبر جورج بيكو، ممثل وزارة الخارجية الفرنسية، والسير مارك سايكس، ممثل وزارة الخارجية البريطانية إلى معاهدة «سايكس – بيكو»، التي اقتسمت هاتين الدولتين المشرق الإسلامي، على أن تسيطر فرنسا على سورية ولبنان، في مقابل حصول بريطانيا على شرق الأردن والعراق، وأجزاء من فلسطين، مع وضع باقي الأراضي الفلسطينية تحت إدارة دولية، وهو تغير مع احتلال بريطانيا لفلسطين، وكان رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج مقتنعًا بحاجة بريطانيا إلى فلسطين للدفاع عن مشارف قناة السويس، وهو ما أسهم في تعزيز أهمية تأسيس «وطن قومي يهودي» تحت رعاية بريطانيا.
الولايات المتحدة و«وعد بلفور».. فلسطين ثمن دخول الحرب
حاولت الولايات المتحدة التزام الحياد، ولكن العديد من التطورات الميدانية كانت تدفعها إلى المشاركة، وهنا كان دور الصهيونية العالمية في تسريع دخولها إلى جانب دول الحلفاء، وكانت الخطة تقضي أن يتواصل حاييم وايزمان مع القاضي لويس برانديز، فإلى جانب كونه زعيم الحركة الصهيونية في أمريكا، كان صديقًا مقربًا للرئيس الأمريكي ويلسون، وقضت الخطة أن تساعد الحكومة الإنجليزية اليهود في الحصول على فلسطين، مقابل إقناع الرئيس الأمريكي وأصحاب القرار في الولايات المتحدة بدخول أمريكا الحرب إلى جانب الحلفاء، وهو ما حدث.
وتُشير مصادر تاريخية إلى أن البيت الأبيض حينها اطلع على مسودات تصريح بلفور، بحضور عددٍ من الشخصيات الصهيونية، ووفقاً لمستر يعقوب دي هاس، مؤرخ القاضي لويس برانديس الأمريكي، يقول: «إن الرئيس ويلسون بنفسه ساعد في وضع صيغة التصريح، أو على الأقل أشرف على تعديل النصوص التي جاءت من إنجلترا».
المولود صبيّ.. إقرار الوعد
أُدرج الموضوع في جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء الإنجليزي التي عقدت يوم 2 نوفمبر 1917م، وأشارت المصادر التاريخيّة إلى أن جماعة من زعماء الصهيونيّة يجلسون في الحجرة الخارجية منتظرين القرار النهائي، وعندما وافق المجلس على الصيغة النهائية خرج مارك سايكس من قاعة الاجتماع وهو مملوء بالحماس، حيث ألقى بالخبر السار ليبلغ حاييم وايزمان ورفاقه وهو يقول لهم: «إن المولود صبي».
مقابل هذه الخدمة وبعد عودة بلفور من الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة صدر «وعد بلفور» (المشؤوم) على شكل رسالة قصيرة بتاريخ 2 نوفمبر 1917م موجّهة من وزير الخارجية الإنجليزي اللورد آرثر جيمس بلفور إلى رئيس الجالية اليهودية في إنجلترا اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، بعد موافقة مجلس الوزراء الإنجليزي على الوعد.
من «وعد بلفور» إلى احتلال القدس
عندها أدرك العثمانيون أن القدس ستسقط بيد الجيش البريطاني، قرروا الاستسلام حفاظًا على الأماكن المقدسة في المدينة، فدخل البريطانيون القدس في 11 ديسمبر 1917م، ليكون ذلك التاريخ نهاية الحكم العثماني لفلسطين الذي استمر أربعة قرون تمامًا، وبداية لعهد الاستعمار البريطاني، وكان الدخول البريطاني للقدس بعد مرور نحو 40 يومًا من صدور «وعد بلفور»، وكان الجيش البريطانيّ يضم فيلقًا يهوديًا تم تدريبه بتوجيه من وزير المستعمرات البريطاني وينستون تشرشل.
أخيرًا، يقول ناحوم سوكولوف، في كتابه «تاريخ الصهيونية»: «إن كل فكرة ولدت في لندن اختبرت في أمريكا من قبل المنظمة الصهيونية، وكل اقتراح صدر من أمريكا لقي أشد العناية والاهتمام في لندن»، وبين هذين البلدين كانت ولادة هذا الكيان السرطاني في قلب المشرق العربي والإسلامي.
ونعاين كيف تدافع هذه البلاد عن المحتل، وتقدم له كل أسباب القوة والتسليح، ليقتل إخواننا، ولكن التاريخ يؤكد أن كل احتلال إلى زوال، والعقبى لأصحاب الحق.
_____________________________
1- محسن صالح، القضية الفلسطينية جذورها التاريخيّة وتطوراتها المعاصرة، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2022.
2- أحمد الدبش، وعد بلفور.. ثمن دخول أمريكا الحرب، الجزيرة نت، https://bit.ly/3FCDZSf
3- وعد بلفور.. ابن السِّفاح البريطاني الفرنسي، https://bit.ly/3sd6VwT
4- من وعد بلفور إلى إعلان إسرائيل.. الانتداب البريطاني في فلسطين، الجزيرة نت، https://bit.ly/3MnZRVk
5- سيف عبد الفتاح، “سايكس بيكو” منعطف تاريخي… مآلات على مسألة النهوض، 18/8/2023. https://bit.ly/3sjbMww