الحمد لله وحده نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده والصلاة والسلام على مصطفاه وعبده محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وبعد..
فإن المسجد الأقصى وبيت المقدس والأرض المباركة هي الأرض الموعودة بالصراع في نهاية الزمان وهي جزء من الشام.
وقد تعرضت عبر التاريخ للهدم والتخريب والاحتلال والاعتداء بما لم تتعرض له مدينة، ومن ضمن هذه المؤامرات “الوعود” الكاذبة والتي تعود في أصلها إلى الكذب والادعاء بنسبتها إلى الكتاب المقدس بعهديه القديم والحديث.
ومن هذه الوعود “وعد بلفور”([1]) ومنها “صفقة القرن” والتي يتواطؤ فيها الغرب مع اليهود ويشاركهم من العرب أقوام زاغوا عن دينهم وعن عروبتهم، بل وعن انسانيتهم لتحقيق نبوءات تقوم على الكفر بالله والتفريق بين الله ورسوله والكذب والظلم والخيانة.
وفي هذه المقال نلقي الضوء على بشريات نصر أهل الحق المرابطون ببيت المقدس وأكنافه، والتي هي جزء من الطائفة القائمة على أمر الله والتي تتعدد فيها أعمال هذه الطائفة وأصناف رجالها ما بين مجاهدين وعلماء وفقهاء وساسة وغيرهم ممن يدافعون عن الدين وعن المسلمين بألسنتهم وأيديهم وأموالهم ومواقفهم وبيانهم وهم قائمون على أمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ثباتاً على الحق مع الظهور والغلبة والنصر والقهر لعدوهم.
وقد تواترت الروايات والأخبار على بشريات النصر للطائفة المنصورة بأطراف بيت المقدس وأكنافه محاصرة منذ سنوات ليس للاحتلال عليها سلطان لأن الله وعدنا على لسان نبيهﷺ بأن هذه الطائفة لن تبرح مكانها ولا تزال على النصر والقهر لعدوها وهي كذلك،و لن يضرها من خذلها ولا من خالفها، وهذا أمر ظاهر مشتهر والضرر الذي يصيبها بعد تكالب الأعداء والمنافقين عليها هو ضرر بسيط في مقابل الأثر الكبير الذي يؤلم أعدائها ويغيظهم بل ويقهرهم وقولهﷺ “لَا يَضُرُّهُمْ” معناه كُلَّ الضَّرَرِ، وَقَدْ أَضَرَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ أُحُدٍ بِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَمَّا كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُصِبْهُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلَى الْيَوْمِ غَضَاضَةٌ وَلَا هَوَانٌ، بَلْ كَانَ لَهُمُ النُّصْرَةُ وَعَلَى عَدُوِّهِمُ الدَّبْرَةُ، والْفِئَةَ الْمَوْعُودَةَ لَهُمْ بِالنَّصْرِ هُمُ الْجُيُوشُ الْغَازِيَةُ بِهَا »([2]).
وقد روي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم قول رسول الله ﷺ «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي[عَلَى الدِّينِ] [عَلَى الْحَقِّ([3])]قَوَّامَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ، ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ[عَلَى مَنْ يَغْزُوهُمْ ([4])][ظَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ] قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ ولَا يُبَالُونَ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ وَلَا مَنْ نَصَرَهُمْ، [إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ] حَتَّى يَأتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ، يُزِيغُ اللهُ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ فَيُقَاتِلُونَهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ اللهُ مِنْهُمْ، حَتَّى يَأتِيَ أَمْرُ اللهِ تبارك وتعالى وَيَنْزِلَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عليه السلام، حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمْ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ» «وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ»[قِيلَ]: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَيْنَ هُمْ ؟ قَالَ : بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ] ([5]).
وبشريات النصر كثيرة ومن هذه البشريات أن هذه الطائفة ومدينة “غزة العزة” التي يتحصنون بها ويقع القصف على أهلها، لن يبرحوا مكانهم ولن يزولوا عنه مهما كان المال المرصود لذلك، ومهما كانت المؤامرات التي تحاك لتحقيق هذا الوعد الكاذب “صفقة القرن” وهي في الحقيقة صفعة القرن التي نقولها تصديقاً لوعد الله وبشرى رسوله ﷺ وموضوع تهجير أهل غزة متداول رصدت له ميزانيات وأموال طائلة وتأمرت عليه أنظمة ودول، ويتردد في أيامنا تحت اسم “صفقة القرن”.
وبدأ هذا الأمر سراً ولم يعلنه أحد بل كانوا يتهربون من الإجابة إذا سألوا عنه أو ينفونه ، ولكن علت الأصوات به من شراذم اليهود وأوباش الغرب خاصة بعد طوفان الأقصى.
لكن هل هذا ممكن ..؟ وهل سيقع فعلا تهجير مايزيد على مليونين من البشر من أهل غزة؟.
وللجواب على هذا يستلزم النظر في جوانب:-
وهي الجانب التاريخي ثم الجانب السياسي ثم الجانب الجغرافي وكلها متأثرة بالجانب الديني وهو أهم الجوانب وأولاها بل وأولها وهو موضوع حديثنا .
وبداية: نقرر أن التهجير لشعب بأكمله صعب إن لم يكن مستحيل وتتأكد الاستحالة إذا كان التهجير لأمة تعتبر القتال دون الدار شهادة في سبيل الله هذا شيء لا ولن يقع ، بل وليس وارداً في نقاش ، فإذا أضفت لهذا أن هذه الديار في مكان موصوف بالأرض المباركة و”أرض المحشر والمنشر” و”الأرض المقدسة” و”أرض بيت المقدس” و” خير مهاجر” وغيرها من الأوصاف التي نطق بها نصوص الوحي فإننا نستبعد ذلك ونعده ضرباً من الخيال والمحال.
فضلاً عن أن هذا المحتل الغاشم مغتصب، وليس له حق أصلاً ولم يستطع فعل ذلك -بمحاولاته الكثيرة- منذ ما يزيد على سبعين سنة.
فما لم يفعله في الماضي لن يفعله حاضراً ولا مستقبلاً حتى ولو كان مؤيداً من القوى الكبرى ومدججاً بأحدث الأسلحة وافتكها.
أولاً الجانب الجغرافي:
وهذا جانب مهم فإن الحدود الجغرافية ومسمياتها في السنة النبوية يكون نسبياً في بعض الأحيان يجتهد فيه العلماء، كما يكون تحديداً مطابقاً لا اجتهاد فيه.
فمن الأول اشارته r إلى أماكن مثل “نجد” كما جاء في حديث ابن عمر، قال: ذكر النبي ﷺ: “اللهم! بارك لنا في شامنا، اللهم! بارك لنا في يمننا”. قالوا: وفي نجدنا؟ قال: “اللهم! بارك لنا في شامنا، اللهم! بارك لنا في يمننا. قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا؟ فأظنه قال في الثالثة: “هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان”([6]).
ومن هذا النوع جهة “الغرب” فقد خرج مسلم في “صحيحه” من حديث سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله r: “لا يزال الغرب ظاهرين عَلَى الحق حتى تقوم الساعة” وقد فسر الإمام أحمد أهل الغرب في هذا الحديث بأهل الشام؛ فإن التشريق والتغريب أمر نسبي، والنبي ﷺ إِنَّمَا قال هذا بالمدينة، وقد سمي النبي ﷺ وأهل نجد والعراق أهل المشرق، فلذلك كانوا يسمون أهل الشام أهل المغرب؛ لأن الشام تتغرّب عن المدينة، كما أن نجدًا تتشرّق عنها ([7]).
ومن الثاني قوله “عدن أبين” وقوله “من صنعاء إلى حضرموت” ومن هذا الباب قوله ﷺ: أهل الشام “وأكناف بيت المقدس “وأطراف بيت المقدس “، ومنه “الطور” في حديث الدجال وفي حديث سيدنا عيسى عليه السلام” حرز عبادي إلى الطور”.
وهذا يعني أن أهل الرباط في فلسطين لن يخرجوا إلى أرض سيناء ولا غيرها، ولن يستطيع أحد تهجيرهم إلى مكان آخر لأسباب:-.
منها: لو كان ذلك سيقع لأخبرنا به النبي ﷺ وهذا لم يثبت في رواية عنه بل ثبت خلافه.
ومنها: لو كان ذلك واقعاً لنسب النبي ﷺ الطائفة الظاهرة على عدوها والقائمة على أمر الله وعلى الحق إلى “الطور” أو” سيناء” أو غيرهما، وهذا لم يحدث بل إن الروايات وصفتهم بالمكان في الشام وبيت المقدس وأطرافه وأكنافه، مثلما وصفتهم بالظهور والغلبة وكونهم على الحق.
ومنها: الألفاظ الواقعة في حديث الطائفة المنصورة -المتواتر- والتي كانت محكمة وقطعية في بيان بقائهم في جغرافيا بيت المقدس وأكنافه وهي بشرى ووعد لن يتخلف أبداً .
ثانياً : ارتباط النصر بالزمان والمكان:
حديث الطائفة المنصورة المتواترة يبشرنا بنصرهم، وأن من علامات نصرهم أنهم بالشام باقون وعنها مدافعون، ولن يزولوا عن هذا المكان ولن يبرحوه أبداً وهذا ما أشارت إليه الأحاديث في مواضع نذكر منها:
- ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِﷺ «لَا تَبْرَحُ وفي رواية (لَنْ تَبْرَحَ) هَذِهِ الْأُمَّةُ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ مَنْصُورِينَ أَيْنَمَا تَوَجَّهُوا، يُقْذَفَ بِهِمْ كُلَّ مَقْذِفٍ، لَا يَضُرُّهُمُ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» وفي رواية أَكْثَرُهُمْ أَهْلُ الشَّامِ”» ([8]). وفي رواية حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] »([9]) وفي سنن سعيد بن منصور عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «لَا تَبْرَحُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يُبَالُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَخْرُجَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ فَيُقَاتِلُونَهُ»([10]).
فهذه الروايات تثبت بقائهم وثباتهم وغلبتهم وعدم تحولهم من مكانهم، وهو بقاء مكاني لن يزول عن أرض الشام وقد جعلت الأحاديث تعانق الزمان والمكان بالصفة دليل على عدم تزحزهم ولا تهجيرهم.
فالزمن حتى يأتي أمر الله عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] »([11]) و«حَتَّى يَخْرُجَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ فَيُقَاتِلُونَهُ»([12]).
ومعلوم أن نزول سيدنا عيسى عليه السلام بالشام كما أن هلاك الدجال بالشام وخص منه أقرب الأماكن وهو « بَابُ لُدٍّ» فعَنْ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: “يَقْتُلُ ابْنُ مَرْيَمَ الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ، أَوْ إِلَى جَانِبِ لُدٍّ”»([13]).
و«بَابُ لُدٍّ»: بالضم والتشديد: وهي بلدة قرب بيت المقدس (إيلياء) في فلسطين بقرب الرملة، فتحت بعد فتح بيت المقدس. ببابها يدرك عيسى عليه السلام الدجال، فيقتله»([14]).
ثالثاً: اللغة تفيد انتصارهم وأنهم لن يبرحوا مكانهم:
جاء في روايات حديث الطائفة المنصورة التعبير بقول ﷺ (لا تزال -ولا يزال– لن تزال – لا تبرح) يدل دلالة قاطعة على أن هذه الطائفة مستمر وجودها ويلازمها ويحالفها دائماً أنهم ظاهرين وأنهم على الحق وأنهم لا يضرهم خذلان الصديق ولا عدوان العدو المعتدي «يقاتلون على الحق فإنهم ظاهرين إلى يوم القيامة».
«وبرح وزال» أفعال منفية تفيد الثبات والاستمرار، ومعناها مثبت للترك والزوال، ونفيها نفي الترك والزوال، فيؤدي معناها الاستمرار والثبات.
فأما زال: فمعناه ذهب وانفصل وترك وقد ورد لهذا الفعل ثلاثة أفعال مضارعة زال يزول ومعناه الذهاب والاضمحلال قال تعالى: {إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا} [فاطر: 41]، أي أن تذهبا وتضمحلا.
وزال يزيل يقال: زال الشيء يزيله زيلا إذا مازه أي خلص شيئا من شيء وفصله عنه.
وزال يزال وهذا الأخير هو الفعل الناقص وهي ذات معان متقاربة، كلها تفيد الذهاب والانفصال والترك، فزال معناه ذهب وترك وانفصل، وما زال معناه ما ذهب ما ترك وما انفصل، فإذا قلت (ما زال زيد قائمًا) كان معناه لم يترك القيام، وما انفصل عنه أي بقي مستمرا عليه، ومضارعه (لا يزال) ومعناه (يبقى) فمعنى لا يزال المطر نازلا، يبقى المطر نازلا، قال تعالى: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فمازلتم في شك مما جاءكم به} [غافر: 34]، أي بقيتم في شك وقال: {ولا يزال الذين كفروا في مرية منه} [الحج: 55]، أي يبقون في مرية لا ينفكون عنها، ولا يتركونها. وقال: {ولا تزال تطلع على خائنة منهم} [المائدة: 13]، أي ستستمر في الإطلاع على خائنة منهم».
وقد أفاد دخول النفي على النفي دوام الثبوت لأن النفي يفيد التكرار على ما ذهب إليه أكثر الأصوليين، فحصل من هذا كله إن نفي النفي يكون أيضا دائما، ونفي النفي يلزمه منه الإثبات فيلزم من نفي النفي إثبات دائم، وهو المقصود.
وأما برح فأصله ترك المكان وغادره، قال تعالى {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي}[يوسف: 80] أي لن أترك الأرض.
فبرح معناه ترك المكان، وما برح معناه لم يترك المكان أي بقي فيه ولازمه، ثم نقل إلى الدوام والاستمرار في غيره»([15]).
وفي رواية الطبراني وغيره عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَبْرَحُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يُبَالُونَ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ بِهِ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] ([16])
«وخصّ بالإِثبات؛ كقولهم: لا زال؛ لأَن برِح، وزال اقتضيا معنى النفى. ولا للنَّفى، والنَفْيان يحصل من اجتماعهما إِثبات. ومنه قوله-تعالى-: {لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين} ، وهذا نفي في اللفظ إثبات في المعنى، لأن معناه أداوم على كذا، ولذلك لم يدخل الإيجاب بإلا في خبرها، وما ورد غيره فمؤول….»([17]).
ومعنى الحديث: “أَي لم يزل هَذَا الدّين قَائِما بِسَبَب مقاتلة هَذِه الطَّائِفَة وَفِيه بِشَارَة بِظُهُور هَذِه الامة على جَمِيع الامم إلى قرب السَّاعَة قال ابن جماعة: ولعله بدعوة النبي ﷺ التي دعاها لأمته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم»([18]).
وهذه بشرى أخرى بأن هذه الطائفة لن تبرح مكانها، ولن يستطيع أحد إخراجها من الأرض المباركة، ولن يتمكن العدو وأعوانه من نفيهم أو تهجيرهم.
و”برح” في معناها ترتبط بالمكان وذكرها في الروايات الصحيحة مع “زال” التي ترتبط في بعض معانيها بالزمن يعطينا برهان آخر على أن هذه الطائفة متجددة عبر الزمن مرتبطة ببيت المقدس وأكنافه مكاناً، كما أن هذه الطائفة عابرة للزمان والمكان بوجود من يشاركها ويعينها في جهادها.
فهي قائمة على أمر الله وعلى الحق تدافع عنه بالمقال والفعال باللسان والسنان، عابرة للزمان والمكان، ولذا اختلف أهل العلم في هَذِهِ الطَّائِفَةُ فقيل: هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ، وقيل أَهْلَ الْحَدِيثِ، وقيل أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، قال النووي: «وَيَحْتَمِلُ أَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مُفَرَّقَةٌ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ شُجْعَانٌ مُقَاتِلُونَ وَمِنْهُمْ فُقَهَاءُ وَمِنْهُمْ مُحَدِّثُونَ وَمِنْهُمْ زُهَّادٌ وَآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفَ وَنَاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَمِنْهُمْ أَهْلُ أَنْوَاعٍ أُخْرَى مِنَ الْخَيْرِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ بَلْ قَدْ يَكُونُونَ مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ فَإِنَّ هَذَا الْوَصْفَ مَا زَالَ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ زَمَنِ النَّبِيِّ r إِلَى الْآنَ وَلَا يَزَالُ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ»([19]).
ويقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولاً فأولاً إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد؛ فإذا انقرضوا جاء أمر الله» ([20]).
فهي طائفة لا تبرح النصر والظهور ولا يزول عنها تأييد الله ولن تزول عن مكانتها ولا مكانها ولن تبرح أمر الله ولن تزول عنه بل هي تسير بأمر الله وتتوكل على الله غير عابئة بمن خذلها ولا من خالفها ولا حتى من نصرها.
رابعاً : البشرى بنصرتهم مع كثرة أعدائهم ومعاركهم:
هذه الطائفة لا تزال قائمة على الحق وظاهرة ومنصورة وغالبة ويحالفها دائماً النصر وهي على الحق كما يلازمها الخذلان والمخالفة ممن ينتظر منهم الإعانة والمناصرة، ولن يضرها.
وكذلك فإن هذه الطائفة لا تبرح مكانها ولن تبرح ، وتلازم هذه الأوصاف يجعل جهادها من أعظم الجهاد، كما يدلنا على أنها لا تبرح مكانها ولا تغادره وكونها ظاهرة مشتهرة غير باطنة ولا مستترة دليل على كونها في مكان معلوم معروف لن تغادره حتى ولو خذلها البعض أو خالفها.
ومن الخذلان المستمر لهذه الطائفة أن أقواماً يمليون من الإيمان إلى الكفر ويزيغون عن الحق يريدون التكسب من وراء محنتهم، وجني الأموال منهم وهم في شدتهم ويدفعهم حب الدنيا وضعف الإيمان إلى مقاتلتهم لهذا السبب، فتكون العاقبة لطائفة الإيمان على أقوام الزيغ فيخسروا أموالهم وينهزموا أمامهم، (وَقَدۡ مَكَرُواْ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ ٤٦ فَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخۡلِفَ وَعۡدِهِۦ رُسُلَهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٞ ذُو ٱنتِقَامٖ) [إبراهيم: 46-47]
جاء في الحديث عن أبي هريرةt«أن رسول الله ﷺ قَالَ: لَا تَزَالُ مِنْ أُمَّتِي عِصَابَةٌ قَوَّامَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ عز وجل لَا يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَهَا تُقَاتِلُ أَعْدَاءَهَا، كُلَّمَا ذَهَبَ حَرْبٌ نَشَبَ حَرْبُ قَوْمٍ آخَرِينَ ، يُزِيغُ اللَّهُ قُلُوبَ قَوْمٍ لِيَرْزُقَهُمْ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ كَأَنَّهَا قِطَعُ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ فَيَفْزَعُونَ لِذَلِكَ حَتَّى يَلْبَسُوا لَهُ أَبْدَانَ الدُّرُوعِ»([21]).
وقد جاءت روايات أخرى لهذا المعنى نذكر منها قوله ﷺ «ويَزْيِغُ اللهُ قُلُوبَ (قَوْمٍ) أَقْوَامٍ، فَيُقَاتِلُونَهُمْ (لِيَنَالُوا مِنْهُمْ)، وَيَرْزُقُهُمُ اللهُ مِنْهُمْ»([22])«لا يزال الله يُزيغ قلوب أقوام تقاتلونهم ويرزقكم الله، عز وجل، منهم»([23])«لَا يَزَالُ اللَّهُ يَزِيغُ قُلُوبَ أَقْوَامٍ تُقَاتِلُونَهُمْ، فَقَاتِلُوا بِهِمْ وَيَرْزُقُكُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ»«وينصرُهم عَليهم»([24]).«يُزِيغُ اللَّهُ تَعَالَى قُلُوبَ أَقْوَامٍ فَيُقَاتِلُونَهُمْ لِيَنَالُوا مِنْهُمْ ـ وَقَالَ يَعْقُوبُ: قُلُوبُ قَوْمٍ قَاتَلُوهُمْ لِيَنَالُوا مِنْهُمْ ـ»([25]).
قال السندي: “ويزيغ من أزاغ إِذا مَال وَالْغَالِب اسْتِعْمَاله فِي الْميل عَن الْحق إِلَى الْبَاطِل وَالْمرَاد يمِيل الله تَعَالَى “لَهُم” أَي لأجل قِتَالهمْ وسعادتهم “قُلُوب أَقوام” عَن الْإِيمَان إِلَى الْكفْر و عن الحقِّ إلى الباطلِ، ليقاتلوهم ويأخذوا مَا لَهُم.
وَيحْتَمل على بعد أَن المُرَاد: يمِيل الله تَعَالَى قُلُوب أَقوام إِلَيْهِم ليعينهم على الْقِتَال ويرق الله تَعَالَى أُولَئِكَ الأقوامَ المعيَّنين من هَؤُلَاءِ الْأمة بِسَبَب إِحْسَان هَؤُلَاءِ إِلَى أُولَئِكَ فَالْمُرَاد بالأمة الرؤساء وبالأقوام الِاتِّبَاع، وعَلى الأول المُرَاد بالأمة المجاهدون من الْمُؤمنِينَ وبالأقوام الْكَفَرَة وَالله تَعَالَى أعلم([26]).
فالحديث يحتمل أن الأقوام من الأمة سواء أكانوا رؤساء أو أتباع يقاتلون الطائفة القائمة على الحق ويأخذوا أموالهم أو ما رصد لهم أو يتاجروا بمحنتهم فيأخذوا مالهم بدل أن يعينوهم.
كما أن الحديث يحتمل أن هؤلاء الأقوام من غير المسلمين يميلون إلى هذه الطائفة لكثرة أعدائها، ووقوع الظلم عليها وما ينزل بها، فيدافع هؤلاء الأقوام بإنكار الظلم الواقع عليهم والصدع بالحق تأييداً لهم، ويحتمل جمع الأموال لإعانتهم وبناء ما يهدمه الغزاة الطغاة وعلاجهم والإنفاق على التعليم وغيره من المجالات مما يكون له أثر في تفرغ بعضهم للجهاد ودفع الصائل الباغي والمغتصب الطاغي الغازي.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «لَا تَبْرَحُ هَذِهِ الْأُمَّةُ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ مَنْصُورِينَ أَيْنَمَا تَوَجَّهُوا، يُقْذَفَ بِهِمْ كُلَّ مَقْذِفٍ، لَا يَضُرُّهُمُ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»([27]).
وقد رأينا أقوام ممن زاغوا عن الإيمان إلى الكفر يسترزقون من محنتهم فيبيعون لهم ما يحتاجون بأضعاف مضاعف، ويتأكلون السحت تحت مسمى “الإعمار” أو “الإغاثة”.
والآن نجد من يبحث عن منافع مالية مقابل تهجيرهم وترك وطنهم المحتل ليجمع عليهم سوءة ترك وطنهم الأرض المباركة وخيانة قضيتهم بالوقوف مع عدوهم والمساهمة في حصارهم وكل ذلك لن يضرهم وهذا وعد الله والله لا يخلف وعده، ووعد رسوله الصادق الأمينﷺ.
وبالنظر في هذا الحديث وفي غيره نجد أن البشرى بالنصر يلازمها البشرى ببقائهم واستحالة تهجيرهم، وأن ذلك من تمام غلبتهم وقهرهم لعدوهم وظهورهم لقيامهم على أمر الله وتوكلهم عليه وحده.
فهم (مَنْصُورِينَ أَيْنَمَا تَوَجَّهُوا، يُقْذَفَ بِهِمْ كُلَّ مَقْذِفٍ، لَا يَضُرُّهُمُ مَنْ خَالَفَهُمْ) وهي (تُقَاتِلُ أَعْدَاءَهَا، كُلَّمَا ذَهَبَ حَرْبٌ نَشَبَ حَرْبُ قَوْمٍ آخَرِينَ).
فهم في حرب دائمة يتنوع فيها العدو ويتجدد النصر مع كل عدو، ما يعني أن هناك ” أحزاباً” مختلفي المشارب والمصالح ولكنهم متفقون على عداوة الإسلام والتعبير “بالمقذف” يصف لك حالة الحرب وشدتها والدمار والرعونة في العداوة والقتل والفتك بالضعفاء.
وهذه الغلبة في هذا الحديث تشير من طرف خفي بأن هناك قوم بل أقوام من “الأمة” تزيغ قلوبهم من الإيمان إلى الكفر وذلك بتضييع الولاء لله ورسوله والبراء من الكفر وحزبه.
تميل هذه الطائفة من الإيمان إلى الكفر ليكونوا أولياء لليهود والنصارى والله تعالى يقول في حق هؤلاء :(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ ٱلۡيَهُودَ وَٱلنَّصَٰرَىٰٓ أَوۡلِيَآءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٥١ فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٞ يُسَٰرِعُونَ فِيهِمۡ يَقُولُونَ نَخۡشَىٰٓ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٞۚ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأۡتِيَ بِٱلۡفَتۡحِ أَوۡ أَمۡرٖ مِّنۡ عِندِهِۦ فَيُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ نَٰدِمِينَ ٥٢ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَهَٰٓؤُلَآءِ ٱلَّذِينَ أَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ إِنَّهُمۡ لَمَعَكُمۡۚ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَأَصۡبَحُواْ خَٰسِرِين) [المائدة: 51-53].
لقد زاغوا فأصبحوا أعداء لله ورسوله والمؤمنين وصارت ولايتهم للكافرين ثم زادوا في ذلك فلم يناصروا طائفة القلة وأصحاب الحق بل خذلوهم وكان الحصار والتجويع المضروب على المستضعفين من قبل الأعداء أداته ووسيلته بيد الزائغين “من بني جلدتنا وممن يتحدثون بألسنتنا”.
فصاروا سلاحاً مع العدو وقوة ضد الضعفاء تضاف لقوة الأعداء، ولم يغيثوهم ولم ينصفوهم ولم يعاونهم بل كان غرضهم “الاسترزاق منهم ومقاتلتهم” فأفشل الله مقصودهم وخذلهم وجعل الله تمام نصرهم بأن من زاغت قلوبهم سيقاتلونهم وأن الطائفة المنصورة تنتصر عليهم بل ويرزقهم الله منهم بعد أن كانوا يريدون التكسب من محنتهم. والله غالب على أمره.
خامساً وأخيراً: دلالة الواقع:
وهي دلالة الواقع والمعهود والمتبادر، في معنى الغزو، ومن يقع عليه، فقد جاء في روايات الحديث عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ يَغْزُوهُمْ، قَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ نَاوَأَهُمْ ([28]).
فالمعهود أن من وقع عليه الغزو هو صاحب المكان، وأن الغازي هو طاريء على المكان وهو ما يسمى “بدلالة التزام” «وهو دلالة اللفظ على أمر خارج عنه، ولازم المعنى الذي يدُلُّ عليه اللفظ قد يكون لازماً له عقلاً، أو لازماً له عادةً، أو لازماً له عُرْفاً» وهو من أيضاً من «دلالة التضمن، وهي دلالة اللفظ على بعض معناه، كدلالة (البيت) على السقف أو الباب» ([29]) يقال «غزَا العدو يَغْزُوهم: سَار إلى قتالهم (ودخل أرضهم): {إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى}: غازٍ كصائم وصُوَّم. وذلك الدخول والقرار تمكّن وتحوّز في المقر»([30]) فالغزو واقع عليهم، ولا معنى لظهورهم وغلبتهم وقهرهم لعدوهم إلا بأن تخلص لهم أموالهم وديارهم ومقدساتهم.
والنبي ﷺ ذكر أنهم ظاهرين على من يغزوهم سواء أكانوا أعداء أو كانوا ممن زاغوا من الإيمان إلى الكفر، ففي كل الأحوال هم على الحق ظاهرين ولعدوهم قاهرين ولا يكون الظهور والقهر للعدو إلا ببسط اليد على المكان الذي وقع عليه الغزو واعتداء المغتصبين وخلوصه لأهله.
فالنصوص متواترة في صفة هذه الطائفة وبيان مكانها وزمانها وقد تعانق وصف زمنها ومكانها وشخوصها وأحدثها وأن هذه الطائفة قد جمع الله لها بين ثباتهم على الحق، ودوام النصر والغلبة والظهور والاشتهار واستمرار ذلك، فهي ظاهرة مشتهرة وغالبة منتصرة لن تزول عن مكانها حتى قيام الساعة، ولن يضرها من خذلها ولا من خالفها ولا من ناوئها وكل ضرر يصيبهم هو من اللأواء مع اختلاف جهات الغزو والمناوأة والمخالفة التي تجعلهم يتعرضون للخذلان والحصار ففي بعض الروايات: «إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ، فَهُمْ كَالْإِنَاءِ (كَالشَّيءِ) بَيْنَ الْأَكَلَةَ» ([31]) اللأواء الشدة وضيق المعيشة بل «اللأواء: شدة الضيق» واللَّوْلَاءُ: الشِّدَّةُ والضُّرُّ وَالْجُهَدُ والسَّنَةُ: وقد غلبت على القحط([32]).قال الطبري رحمه الله :«يعني النبي ﷺ باللأواء الشدة، إما في المعيشة من جدب وقحط أو حصار، وإما في الأبدان من الأمراض والعلل أو الجراح. يقال من ذلك: أصابت القوم لأواء، ولولاء»([33])
وكل ذلك حادث وواقع بسبب الحصار الجائر، والذي يمنع فيه عنهم السفر والحصول على ضروريات الحياة بدءً من الغذاء والدواء ومروراً بمواد التشييد والبناء ووصولاً إلى الحرمان من مرافق الدولة من مؤسسات تعليمية وصحية واجتماعية بل وتدميرها إن وجدت كلما نشب حرب وتجدد قتال، وقد دلت الأحاديث أن ذلك يكون سببه عدو غاصب معتد أثيم يحارب الله ورسوله ويهلك الحرث والنسل.
فهم بنص الحديث “ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ يَغْزُوهُمْ” وقعوا تحت غزو الأعداء وخذلان ومناوأة ومخالفة الأرحام والأقرباء “بني جلدتنا ومن يتحدثون بألسنتنا” والخذلان لا يضرهم، والمخالفة والمناوأة لا تثنيهم عن مقصدهم وهدفهم، ولا يبالون بمن خذلهم ولا من خالفهم عن معاوية بن قرة، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: “إذا فسد أهل الشام، فلا خير فيكم، ولا يزال أناس (طائفة) من أمتي منصورين لا يبالون من خذلهم حتى تقوم الساعة” ([34]).
بل إن الأمر تعدى المخذلين والمثبطين إلى عدم المبالة بمن ينصرهم لأنهم توكلوا على الحي الذي لا يموت ففي رواية ابن ماجة: «ظَاهِرِينَ عَلَى النَّاسِ، لَا يُبَالُونَ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ نَصَرَهُمْ»([35]).
وقد جاء في سائر الروايات (قائمة على أمر الله) أي: دينه الذي شرعه، واستعمل فيه “على” (على الحق) و(ظاهرين على الناس) و(عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ) و( عَلَى مَنْ يَغْزُوهُمْ)([36]) دلالةً على كونهم عالين على الخصم محيطين بجوانب هذا الأمر، بحيث لا يصل إليه أو إليهم كيد الأعداء»([37]).
اللَّهُمَّ مُنزِلَ الكِتَابِ، مُجرِيَ السَّحَابِ، هَازِمَ الأحزَابِ، اِهزِم الصهاينة واليهود ومن والاهم وزلزل الأرض من تحت أقدامهم واستر عورات أهل غزة وفلسطين وآمن روعاتهم وسائر المسلمين. اللهم انج المستضعفين من المؤمنين.
اللهم انصرهم وأخذل عدوهم واخذل من خذلهم، وسدد رمي المرابطين وانصرهم على عدوهم. اللهم صل وسلم على نبيك الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آهله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
_____________________________________
[1]) في الحرب العالمية الأولى، وفي مثل هذه الأيام في 31-10-1917م كانت القوات البريطانية قد أكملت احتلالها لمدينة بئر السبع لتلتف على دفاعات غزة الحصينة المنيعة التي صدّت هجومين بريطانيين كبيرين في آذار ونيسان 1917) (استخدم القوات البريطانية في الهجوم الثاني السلاح الكيماوي بكثافة) ومن ثمّ بدأت بالتقدم نحو غزة عبر سلسلة من المعارك على طول وادي غزة. كان سقوط غزة سقوطاً للخط الدفاعي الحصين عن القدس وفلسطين في ما عرف بمعركة غزة الثالثة، وما أن وصل خبر سقوطها وزارة الحرب البريطانية في لندن خرج اللورد “مارك سايكس” مبتهجاً حاملاً البشارة “لحاييم وايزمن” الذي كان ينتظر في وزارة الحرب، معلنا الموافقة على الإعلان عن وعد بلفور في 2-11-1917 وولادة المشروع الانجلو- صهيوني الدموي في بلادنا فلسطين الممتد حتى يومنا هذا.. دار الزمان دورته وبعد 106 عام ها هي غزة الحصينة المنيعة تقف وحيدة في الحرب العالمية الثالثة عليها..في معركة هي بمنطق التاريخ معركة لمحو “وعد بلفور” وسايكس بيكو والاستعمار الانجلو-الصهيوني الجاثم على صدر القدس والعالم..
[2]) إرشاد الساري (6/ 75) «شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن (12/ 3967)مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (9/ 4047)
[3]) المعجم الكبير: (8 / 145) برقم: (7643 )
[4]) المعجم الكبير: (8 / 145) برقم: (7643 )
[5]) هذا حديث متواتر روي عن عدد كبير من الصحابة، وأخرجه أكثر المحدثين في تصانيفهم منهم البخاري (3640، 7459، 7311، 3641)، ومسلم (1924، 1923، 1920، 1037، 174)، وأحمد (2 321 و340 و379) و (3 436) و (4 97 و101) و (5 35 و279)، وابن الجعد في مسنده (1076)، وأبو داود (2484)، وابن ماجه (6 ـ 10)، والترمذي (2192 و2229)، وأبو يعلى (6417 و7383)، وابن حبان (61 و6834 و6835)، والطبراني في الأوسط (74)، وفي الكبير (2001 و6357 و7643) و (17 314 ح 869 و870) و (19 ح 801 و870 و893)، و (20 ح 960 ـ 962)، وفي مسند الشاميين (57 و860 و1563)، والحاكم (8389) والشهاب في مسنده (913 و914)، والبيهقي في السنن الكبرى (18605)، وغيرهم
[6]) رواه البخاري في الفتن (7094)
[7]) فضائل الشام (3/ 204)
[8]) “حسن بشواهده” سنن سعيد بن منصور- الفرائض إلى الجهاد- ت الأعظمي»(2/ 177) موقوفاً: «فضائل الشام ودمشق لأبي الحسن الربعي» (ص9) (16)، وعنه ابن عساكر في “تاريخه” (1/ 259)، وأخرجه ابن عساكر من وجهين آخرين (1/ 258- 259) عن جبير، وقال في رواية: “هم أهل الشام”. وللحديث شواهد يرتقي بها، . وقال الألباني في “فضائل الشام ودمشق” (6): صحيح، دون قوله: “وأكثرهم أهل الشام”.انظر: موسوعة بيت المقدس وبلاد الشام الحديثية (ص209) .
[9])«المعجم الكبير للطبراني» (19/ 386): «905» «مسند الشاميين للطبراني» (3/ 251)
[10]) سنن سعيد بن منصور – الفرائض إلى الجهاد – ت الأعظمي» (2/ 178):2376 –
[11])«المعجم الكبير للطبراني» (19/ 386): «905» «مسند الشاميين للطبراني» (3/ 251)
[12]) سنن سعيد بن منصور – الفرائض إلى الجهاد – ت الأعظمي» (2/ 178):2376 –
[13]) مصنف عبد الرزاق» (10/ 410 ط التأصيل الثانية)
[14]) (انظر: أطلس الحديث النبوي) (ص 324)المعالم الأثيرة في السنة والسيرة» (ص235)
[15]) تهذيب اللغة (13/ 173) حاشيتان لابن هشام على ألفية ابن مالك(1/ 372 ) دراسات لأسلوب القرآن الكريم» (8/ 374)جامع الدروس العربية» (2/ 273) «إعراب القرآن وبيانه» (1/ 541) التطبيق النحوي (ص123) معاني النحو (1/ 240 وما بعدها)
[16]) أخرجه الطبراني في الكبير 19/ 386 (905)، مسند الشاميين للطبراني (3/ 251)(2192) وابن عساكر في تاريخه 1/ 265.
قال الهيثمي في المجمع 7/ 306 (12351): «رواه أبو يعلى، والطبراني في الأوسط، والكبير، ورجالهم ثقات»
[17]) المفردات في غريب القرآن (ص116)بصائر ذوي التمييز (2/ 236) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ(1/ 174)
[18]) فيض القدير (5/ 301)التيسير بشرح الجامع الصغير (2/ 303)
[19]) شرح النووي على مسلم(13/ 66)
[20]) فتح الباري 13/ 295
[21]) “إسناده صحيح” “المعرفة والتاريخ” (2/ 296 – 297)، وأخرجه ابن عساكر في “تاريخ دمشق” من طريق الفسوي (1/ 258)، وابن ماجه (7)، مقتصرًا على قوله: “لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر اللَّه لا يضرها من خالفها”، وأبو نعيم في “الحلية” (9/ 307) بنحو سياق الفسوي، كلاهما بذكر أبي هريرة فقط بدون ذكر ابن السمط، والبخاري في “التاريخ الكبير” (4/ 248) عنهما، ولفظه: “لا تزال عصابة قوامة”، ثم قال: “هم أهل الشام”. اهـ. وقال الألباني في “الصحيحة” (3425): هذا إسناد صحيح
[22])مسند أحمد (28/ 165 ط الرسالة) «التاريخ الكبير» للبخاري (5/ 65 ت الدباسي والنحال) «المعرفة والتاريخ – ت العمري – ط العراق» (2/ 297)«السنن الكبرى – النسائي – ط الرسالة» (8/ 68) مسند الشاميين للطبراني» (3/ 387)
[23]) الطبقات الكبير» (9/ 431 ط الخانجي)
[24]) مسند الشاميين للطبراني (2/ 320) المخلصيات» (1/ 113)
[25]) الأسماء والصفات – البيهقي (2/ 391)
[26]) حاشية السندي على سنن النسائي (6/ 214)
[27]) “حسن بشواهده” سنن سعيد بن منصور- الفرائض إلى الجهاد- ت الأعظمي»(2/ 177) موقوفاً: «فضائل الشام ودمشق لأبي الحسن الربعي» (ص9) (16)، وعنه ابن عساكر في “تاريخه” (1/ 259)، وأخرجه ابن عساكر من وجهين آخرين (1/ 258- 259) عن جبير، وقال في رواية: “هم أهل الشام”.. وقال الألباني في “فضائل الشام ودمشق” (6): صحيح، دون قوله: “وأكثرهم أهل الشام”.انظر: موسوعة بيت المقدس وبلاد الشام الحديثية (ص209)
[28]) أخرجه أحمد (5/269، رقم 22374) ، والطبرانى (8/145، رقم 7643) . وأخرجه أيضًا: فى مسند الشاميين (2/27، رقم 860) . قال الهيثمى (7/288) : رجاله ثقات
[29]) البلاغة العربية (2/ 131) أفعال الرسول rودلالتها على الأحكام الشرعية» (1/ 396)
[30]) المعجم الاشتقاقي المؤصل (3/ 1577)
[31]) تهذيب الآثار مسند عمر (2/ 823) فضائل البيت المقدس – الواسطي (ص193)
[32]) الغريبين في القرآن والحديث (5/ 1665) والنظم المستعذب (1/ 121) (عن القاموس والتاج): (لولاء)
[33]) تهذيب الآثار “مسند عمر» ، محمد بن جرير الطبري، تحقيق: محمود شاكر، القاهرة: مطبعة المدني، ط 1، د. ت، 2/ 835
[34]) مسند أحمد» (24/ 362 ط الرسالة)
[35]) سنن ابن ماجه» (1/ 5 ت عبد الباقي)
[36]) المعجم الكبير: (8 / 145) برقم: (7643 )
[37]) الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري» (1/ 166) بتصرف وزيادة.