كثر استعمال لفظة «البطولة» في أدبيات التحفيز والتنمية، على الشاكلة المستوردة التي حمّلت اللفظة بمعاني الجماهيرية وحب الصدارة والألّق المجتمعي، ولمّا تداخلت تلك الحمولة مع مفاهيم إسلامية في وعي المسلم الهشّ، أدت إلى اختلاط الحدود بين الحرص على براءة الذمة والسمعة الطيبة والذكر الحسن من جهة، والرياء والتسميع وحبوط العمل من جهة أخرى، وتذبذبت بالتالي موازين تقدير الأعمال بين الصغير والكبير والمهم وغير المهم.. إلخ.
فتجد –مثلًا- المغالاة في تعظيم شأن الأدوار الحياتية التي تتضمن القيادة والتصدّر والريادة الاجتماعية، والتهوين أو التقليل من شأن أدوار الحياة العادية الأخرى، دون اعتبار لحقيقة أنّ العبرة في تقدير قيمة الأداء ليست بذات الدور وإنما بمدى التزام المسلم شرع ربه حيث أقامه في أي دور، فالتعبد بتلاوة القرآن مثلًا ليس مُرادًا كافيًا في حدّ ذاته عند المُشتغل به، حتى يتم تصدير صاحبه لتعليمه للناس أو نشر خواطره عنه أو إقامة دورات تربوية.. وقتها يكون قد وجد مراد الله تعالى منه! والتعبد بتربية الأبناء في قعر المنزل لا تلقى من الحفاوة ما يلقاه التعبد بالتعليم في صفوف المدارس وقاعات التدريب، بل وتُقابَل بالاستهانة والتهوين!
وكذلك يكثر حَصْرُ شكل مراد الله تعالى في إيجاد الرسالة أو العمل أو الثغر الذي منه يكون النفع الجماهيري ذو الصيت والسمعة، خارج إطار الأهل والمعارف تحديدًا، وتَرُوج بين طالبي ذلك المراد شعارات «كن ذا أثر»، «كن للناس»، «عِش للغَير»، وما أشبهها، وربما ترقَّع تلك الشعارات ببعض الأحاديث والآيات عن ثواب نفع الغير وقضاء حوائج الناس وإغاثة الملهوف ونجدة المكروب.. إلخ، فيحصرون مراد الله تعالى في تلك الصورة الجماهيرية، ثم يُحجِّرون مقياس تحققها بعَدَّاد وامتداد المتأثرين بهم والمتابعين لهم، وإن نسبوا الفضل في الانتفاع لله ظاهرًا، فلا عجب بعد كلّ تلك التلبيسات وذلك الكَمّ من المقاييس والتشرطات أن يصير نفع الناس وصنائع المعروف مصدرَ غمٍّ لا باب مَثوبة، وغايةً يُنفَق العمر في البحث عنها لا في القيام بها، فتفكّر وتعجّب!
والحق أن الإسلام قائم على البطولة، بالمعاني الشرعية والعربية الأصيلة:
– فالبُطُولُ هو إبطال الباطل وإحقاق الحق.
– والإبطال إذهاب الشيء، ومنه بَطَل الباطل أي اندحر واندثر.
– والبطل هو الشجاع الذي لا تَبْطُل نجدته لغيره، ويُبطِل بسيفه كل ما يضربه به، ويَبْطُل عنده (أي يعجز أمامه) أعداؤه.
وإذن فالبطولة في الإسلام تقوم على إبطال المسلم للباطل وإحقاقه للحق في نفسه أولًا، وبقدر ما يوفّق في هذين يكون ثباته في ميدان الحياة ومعاركه التي تكتب له ومواقفه في تصنيف الناس، فيتدرج في البطولة أو ينحسر عنها بحسب ما يُبْطِل ويُحِقُّ، وما يَبطُل عنه أو يقوم به.
أما البطولة في غيره فتقوم على استمداد الثبات وشداد الأزر من تصفيق الناس ومحبتهم ورضاهم، دون تمييز لأصناف الناس ودوافع المحبة وموازين الرضا! ولهذا يتلوّن البطل في غفلته عن نفسه بألوان الناس، ويتشرّب بدرجات مفردات العقائد والمفاهيم والمرجعيات التي على أساسها يحكم عليه الناس الذين يطلب رضاهم، فتكون المحصّلة الظاهرية الرضا الجماعي والتعايش السلمي بالمحبة والأخوة الإنسانية العامة، وتكون الحصيلة الجوهرية التذبذب والفوضى وتمزق الهوية وتشتت الجبهة الداخلية.
فأين تلك المعاني الجليلة من هذه الخائرة؟
إن العمل بمراد الله تعالى لا طنين له لأنه ثقيل وليس أجوف، فلا يُقاس بقوائم الإنجاز وعدّاد الجماهير، بل بأولويات المسؤوليات وواجبات الحقوق ومراتب الفروض قبل المندوبات، والفِتَن في طريقه أخفى من دبيب النمل، حتى ليظنّ العامل أنه على شيء ويُزيَّن له حسن تخليطه، ثم يجده في ميزانه هباء منثورًا، والعِياذ بالله تعالى! لذلك فالهمّ الوحيد الذي يجب أن يهمّ كل عامل هو مدى خلوص أعماله هو لرب الناس، لا سَعَة تأثير أعماله على خلق الله تعالى.
وإن البطولة التي نحتاجها أن نؤمن بما أعزّنا الله به من حق صادق الإيمان، ونعقله صادق العقل، ونتوقف عن الاشتغال بالنعي على أهل الباطل تداولهم للباطل بأشد الحق، ونلتفت لمعايبة أنفسنا على أخذنا للحق بمنتهى الباطل.