في الحروب، يعتبر النجاح في تحقيق عنصر المفاجأة نصف النصر، وقد رأينا في معركة «طوفان الأقصى» كيف استطاعت المقاومة تنفيذ عملية خداع إستراتيجي لكافة أجهزة العدو الأمنية والاستخبارية، حتى حققت عنصر المفاجأة بجدارة، فشنت هجوماً برياً وبحرياً وجوياً متزامناً، على نحو 15 موقعاً عسكرياً لـ«فرقة غزة»، وقضت على من فيها بين قتيل وأسير وجريح، إضافة إلى الهجوم على نحو 20 مستوطنة في غلاف غزة، كل ذلك في غفلة تامة من العدو، فلم يستفق العدو من غفلته إلا وقد حققت المقاومة أهدافها الإستراتيجية من المعركة، حتى اعتبر كثير من المحللين أن المعركة قد انتهت بالفعل يوم السابع من أكتوبر بنصر ساحق للمقاومة، وبهزيمة مذلة للكيان المحتل.
السؤال الآن: كيف نجحت المقاومة في تحقيق عنصر المفاجأة على هذا النحو؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، دعونا نأخذ جولة سريعة في سيرة رسول الله ﷺ، لنرى موقع عنصر المفاجأة والمباغتة في غزواته المباركة.
يعتمد تحقيق عنصر المفاجأة على عدة عوامل، من أهمها السِّرية والكتمان، وهذا العامل واضح وبارز في سيرة رسول الله ﷺ منذ بداية الدعوة، بدءاً من الاجتماع بالمسلمين في سرية تامة في دار الأرقم، والحفاظ على سرية هذه الدار طوال عشر سنوات، مروراً بكتمان خبر هجرته، وتفاصيل خطته عن كل من لم يشترك فيها، إلا أن هذا العامل برز بشكل أوضح في سير غزواته وبعوثه وسراياه ﷺ.
سرية نخلة.. والسبق العسكري
في رجب من العام الثاني للهجرة، أرسل رسول الله ﷺ سرية استطلاع بقيادة عبدالله بن جحش، والعجيب في هذه المهمة أن رسول الله ﷺ لم يحدد له هدفها ولا منتهى مسيره فيها، بل أعطاه رسالة «مكتومة»، وأمره ألا يفتحها إلا بعد يومين من مسيره في الاتجاه الذي حدده له مسبقاً، فإذا فتحها وفهم ما فيها، مضى في تنفيذ المهمة المكلف بها غير مستكره أحداً من أفراد سريته على المضي معه.
وبعد يومين من مسيره من المدينة المنورة فتح عبد الله الرسالة فإذا فيها: «إذا نظرت في كتابي هذا، فامض حتى تنزل «نخلة» بين مكة والطائف، فـترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم»، فأطلع عبدالله رجاله على كتاب النبي ﷺ، وأخبرهم بأن النبي ﷺ نهاه أن يستكره أحداً على مرافقته، فبادروا جميعاً بالموافقة على تنفيذ المهمة، ولم يتخلف منهم أحد.
ولم تكن العسكرية العربية تعرف هذا الأسلوب في التكليفات العسكرية، فكان لرسول الله ﷺ قصب السبق في ابتكار هذا الأسلوب الذي يعتمد درجة عالية من الكتمان والسرية، لمنع تسرب الأخبار إلى العدو، ولتحقيق المفاجأة الحاسمة.
قواعد في الحركة والسير
جاء في تفاصيل كثير من غزوات رسول الله ﷺ، وكذلك بعوثه وسراياه التي كان يرسل فيها أصحابه، أنه كان يأمرهم بالسير ليلاً والكمون نهاراً، وأن يسلكوا الطرق غير المطروقة، لئلا يطلع على مسيرهم أحد، فتُنقل أخبار تحركاتهم للعدو، ويضيع عنهم عنصر المباغتة والمفاجأة، وأمر رسول الله ﷺ أسامة بن زيد حين ولاه إمارة الجيش قائلاً: «أسرع السير تسبق الأخبار»، حتى يصل بجيشه إلى ديار عدوه قبل وصول خبره إليهم فيأخذهم بالمفاجأة.
التورية
عن كعب بن مالك قال: كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ قَلَّما يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إلَّا ورَّى بغَيْرِهَا؛ يعني أنه ﷺ كان إذا أراد غزو منطقة أو قبيلة معينة، فإنه يسأل عن غيرها وكيف الطريق إليها، والمؤن اللازمة للوصول إليها، ونحو ذلك مما يصرف أنظار العيون والجواسيس عن مقصده الحقيقي، حتى يتمكن من مباغتتهم، وفوق ذلك كان أحياناً يسير بجيشه عكس الاتجاه المقصود، كما فعل في غزوه لبني لحيان، حيث أعلن أنه متجه إلى الشام، وتحرك بالجيش شمالاً، حتى إذا أمنت بنو لحيان، كرَّ راجعاً بجيشه إلى الجنوب، فباغتهم في ديارهم وشتت شملهم.
غزوة الفتح
لعل من أبرز أحداث السيرة التي ظهر فيها بوضوح حرص رسول الله ﷺ الشديد على تحقيق عنصر المفاجأة في المعركة، وأخذه بكافة الأسباب لتحقيق ذلك، كان في «فتح مكة».
لما عزم رسول الله ﷺ على فتح مكة، أمر الناس بالتجهز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تصلح بعض جهاز رسول الله ﷺ، فقال: أي بنية، أمركم رسول الله ﷺ بأن تجهزوه؟ قالت: نعم، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: ما أدري! كان حرص رسول الله ﷺ على كتمان نواياه وخططه العسكرية المتعلقة بفتح مكة، لدرجة عدم إخبار صاحبه الصديق، وزوجته عائشة رضي الله عنهما، ولا شك أن الأمر ليس له علاقة بالثقة في أمانتهما، ولكنه ﷺ يضع لنا قواعد العمل العسكري الناجح، ويربي كل مسؤول عن معلومة على ضرورة حفظها، وأن المعلومة على قدر الحاجة، وفي الزمان والمكان المناسبين، وللأشخاص المناسبين المنوط بهما عمل يتطلب معرفتهم على قدر مهمتهم، حسب ما تقتضيه المصلحة، والسياقات العملية.
وبعد أن اكتمل تجهز جيش رسول الله، وصار متأهباً للحركة، أعلن رسول الله ﷺ أنه يريد مكة، ثم نشر العيون والمفارز والكتائب على مداخل ومخارج المدينة لمنع تسرب الخبر، ودعا الله عز وجل أن يأخذ العيون والأخبار عن أهل مكة، حتى يبغتهم في ديارهم، وقد كان، ومحاولة التسرب الوحيدة للخبر عن طريق رسالة حاطب رضي الله عنه أدركها رسول الله ﷺ وأرسل في إثرها مفرزة من أصحابه فعادوا بالرسالة، وحُبِس الخبر عن قريش.
تخيل! جيش عرمرم، قوامه عشرة آلاف رجل، يقطع قرابة 500 كم حتى يصل إلى تخوم مكة، دون أن يتسرب خبره إلى قريش، وشاهد معي هذا المشهد لتدرك الجهل التام لقادة قريش بقدوم جيش رسول الله إليهم، وحجم المفاجأة التي وقعت بهم حين عرفوا حقيقة ما ينتظرهم.
يروي العباس بن عبدالمطلب أنه خرج في ليلة فسمع صوت أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، وقد خرجوا يتحسسون الخبر، قال: فسمعت أبا سفيان يقول: والله ما رأيت كالليلة قط نيراناً، وقال بديل: هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب، فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذل، قال العباس: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي فقال: يا أبا الفضل، فقلت: نعم، فقال: مالك فداك أبي وأمي؟ قلت: ويحك يا أبا سفيان هذا، والله، رسول الله ﷺ قد جاء بما لا قبل لكم به، بعشرة آلاف من المسلمين.. إلى آخر القصة المشهورة.
والشاهد منها أن قادة قريش حين رأوا نار معسكر المسلمين بالليل وقفوا يتبادلون الرأي: تُرى أي عسكر هذا؟! وما كان لهذه المفاجأة أن تقع لولا الأسباب والاحتياطات الأمنية الشديدة التي أخذها رسول الله ﷺ، التي أثمرت استسلام قريش، ودخول رسول الله ﷺ وجيشه إلى مكة دون قتال يُذكر.
والشاهد من هذه القطوف الندية من السيرة النبوية أن نشير إلى حرص رسول الله ﷺ الدائم في غزواته على تحقيق عنصر المفاجأة، واتخاذه كافة الأسباب والتدابير التي من شأنها أن تساهم في تحقيق هذا، ويظهر لنا من ذلك أن الأمر فوق أنه حاجة تتطلبها الكفاءة العسكرية ويحرص عليها القادة الناجحون، فإنها في حس المسلمين فريضة دينية ومسؤولية شرعية، يحرص عليها كافة أفراد الجيش المسلم طاعة وقربة، وأن التقصير فيها إثم وخطيئة، قد تصل بالمسلم حد الوصف بالخيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.
نعود الآن إلى السؤال الذي بدأنا به: كيف نجحت المقاومة في تحقيق عنصر المفاجأة في معركة «طوفان الأقصى»؟
لكننا مضطرون إلى إرجاء الإجابة عنه في مقال مستقل قادم.