بنيت الأسرة في الإسلام على مجموعة من القيم الإيجابية كالمودة والرحمة والدفء والرعاية والمسئولية والأمانة والرقابة الذاتية وخشية الله عز وجل، ولم تقم على الحب وحده وهو عاطفة خاطفة قد تجمدها المشكلات الحياتية الطارئة كل يوم، يقول الله تعالي في سورة الروم ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21).
فالزوجة لزوجها سكن ومودة، وهو لها حصن وأمان، والأسرة كأي مؤسسة تعتريها المشكلات نتيجة لاختلاف الطبائع بين الزوجين ( كذكر وأنثي ) واختلاف طريقة التفكير، وكذلك نتيجة العقبات الاجتماعية التي تطرأ كالعامل الاقتصادي أو الثقافي.
ومن أخطر النتائج السلبية التي تنتج عن تلك المشكلات هو مرض الخرس الزوجي، فيصير كل طرف منهما جزيرة منعزلة عن الآخر تماما، والأخطر منه أن يحاول كل منهما استقطاب الأبناء لصالحه مما يضع المؤسسة الأسرية كلها في مهب ريح الغضب والانتقام النفسي.
أسباب الخرس الزوجي
تتعدد أسباب الخرس الزوجي استنادا على البيئة التي تربي فيها كل طرف، وعلى مدى استعداده لتجاوز أخطاء الآخر والصفح عنها والصبر عليه ليصلا معا لبر الأمان، ومن هذه الأسباب:
1 ـ العامل الثقافي كعدم وجود قضايا واهتمامات مشتركة لاختلاف البيئة التربوية للزوجين، فقد يكون لأحدهما اهتمامات عامة أو خاصة ينأى الطرف الآخر بنفسه عنها ولا يحاول التقرب منها فينشأ بينهما جدار يكبر كل يوم حتى ينقطع التواصل تماما، وقد حكت لي إحداهن ذات مرة أنه تمر الأيام العديدة ولا تسمع بالبيت سوى أصوات الملاعق أثناء تناول الطعام، أو صوت الأحذية المتحركة في اتجاه مغاير لوجود الآخر لعدم وجود موضوع يجمعهما، هو يهتم بقضايا الأمة والشأن العام والمتغيرات السياسية، وهي تهتم بالزيارات والعلاقات الاجتماعية في حدود الأسرة، تحب الخروج والانطلاق، ويحب الاستراحة بالبيت في هدوء، يحب الرياضة ويتابعها، وتتجنب جلساته بالهاتف الجوال ومواقع التواصل الاجتماعي.
2_ الظروف الاقتصادية ، فالأزمات الاقتصادية قد تعصف بهدوء الأسرة وتقصم آصرة المحبة والمودة بين أفرادها خاصة في ظل الظروف الطاحنة التي تمر بها بعض المجتمعات العربية والمسلمة، فالزوجة تختزن كافة طموحاتها قبل الزواج ليحققها لها زوجها دون النظر لتلك الظروف، بينما هو يشقى ويتعب ويضاعف جهده خلف طموحاتها ولا يستطيع في ذات الوقت تحقيق جزء منها، فيحدث الشقاق وإلقاء التبعات.
3 _ وجود طرف ثالث يخرب العلاقة الزوجية ويضعها دوما موضع المقارنة، كزميلات العمل مثلا للرجل، وأصدقاء مواقع التواصل بالنسبة لها، كل منهم يقارن بين هذا المتعب العصبي في البيت، وبين تلك العلاقات خارجه وبما يزينه الشيطان من أن الآخر دائما هو الأفضل علي الإطلاق، وكم من علاقات نشأت بريئة كصداقة علي الفيس بوك لتنتهي بكوارث وخراب وضياع للأبناء.
4 _ ظلم أحد الطرفين للآخر بحجة فرض الهيمنة، وأن إظهار العاطفة قد يفسد الآخر عليه، فيحسب بعض الأزواج أن العصبية والاعتداء الجسدي والحرمان وعدم التعبير عن المشاعر يصنع منها زوجة لينة هينة مطيعة، وتحسب بعض الزوجات أن تدليل الزوج ورعايته والاهتمام بشئونه نوع من العبودية له، فلا تلين ولا تخضع، بل وقد تخضع بالقول للأجانب جرأة علي حرمات الله ولا تخضع لزوجها بالقول والفعل.
5 _ الجهل المركب في المسألة الزوجية، فيتزوج الرجل والمرأة دون أن يدري أحدهما واجباته أو حقوق الآخر، كلاهما يطالب بحقوقه هو، هو يطلب الطاعة المطلقة دون أن يراعي فيها حقوقها المشروعة التي أشار إليها النص القرآني “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف”، ولا يحفظ من النصوص سوى ” فاضربوهن”، ولعن الملائكة للزوجة الناشز، ثم هو لا ينفق، ولا يراعي، ولا يهتم، ولا يبذل أدنى جهد لإرضائها والحفاظ على كرامتها ومشاعرها كإنسانة حرة، وهي تطلب حقها في كل شيء دون مراعاة احتياجاته والاهتمام به وإبداء المودة له والسهر على راحته وتعامله بندية لا تليق بمن بينهما ميثاق غليظ، كلاهما لا يعرف إلا حقه، وكلاهما ينتظر للآخر خطأ ليحاسبه أو يعاقبه.
بيت النبوة والنسق الأسري الفذ
والنموذج الأمثل التي أمرنا الشارع أن نحتذي به هو بيت الرسول محمد صلي الله عليه وسلم، ولم يكن أكثر انشغالا من نبي الأمة بهمومها ورسالتها وقيمها وفتوحاتها، ومع ذلك كانت بيوته بداية من أم المؤمنين خديجة رضى الله عنها هي النسق الإنساني الأكثر اكتمالا لتتعلم منه البشرية كيف تكون العلاقة بين الزوجين.
وأما الصفات المشتركة بين بيوته وزوجاته عليه الصلاة والسلام فكانت كالآتي:
1_ الزوج الذي يهتم بمشاركة زوجته كافة أعماله واهتماماته فيحكي لها التفاصيل لتبادله اهتماما باهتمام وتؤمن به وبقضاياه وقدراته التي تعرفها مسبقا من خلال أحاديثه المسبقة، فإذا وقع في محنة كانت هناك مقدمات تجبرها على مشاطرته اهتماماته قبل محنته، وقد عاد النبي صلي الله عليه وسلم من غار ثور بالرسالة ليس لعمه الذي رباه، وليس لصديقه الصدوق أبا بكر، وليس لأحد حكماء أم القرى، بل عاد لحضن خديجة يرتجف لتضمه وتهدأه وتسمع منه بعمق ثم تصطحبه لابن عمها ورقة بن نوفل وهو يصاحبها دون جدال، ثقة متبادلة، اهتمامات مشتركة، تاريخ من التفاهم، تكون النتيجة طاعة أحدهما للآخر ثقة وحبا.
2 – حبيبته عائشة التي قال عنها حين سأله عمرو بن العاص رضي الله عنه من أحب الناس إليك يا رسول الله، فيقول عائشة، فيقول ليس عن النساء أسال، وإنما عن الرجال، فيقول عليه الصلاة والسلام أبوها.
كان يقع الخلاف أحيانا بينهما فتتفنن عائشة رضي الله عنها في إنهاء الخلاف سريعا قبل استفحال الأمر، ثم هو يسابقها وتسابقه، ثم تغضب وتقول ولا أهجرك إلا بلساني، فالشقاقات واردة في كل بيت، إنما العقلاء الأتقياء لا يبيتون حتي ينتهي الشقاق لليلة أخرى.
إن علي كل طرف أن يبذل الجهد لفهم الطرف الآخر وأقصر الطرق لقلبه دون أن يسأل عن حقه أولا ، فالفتن بالمجتمع خطيرة ومتراكبة وليس كالأسرة موطنا آمنا يأوي إليه أفرادها حين تشتد المحن.