“أستاذة: هل حقا لليهود حقا قديما في فلسطين؟ “هكذا سألت طالبة في الصف السادس معلمة اللغة العربية التي تواجه سيلا من الأسئلة منذ بدأت عملية طوفان الأقصى.
المعلمة تجيب عن البعض وتعتذر عن الآخر فهي غير ملمة بكثير من التفاصيل التاريخية ولديها مقررات دراسية عليها الانتهاء منها.. مقررات دراسية باردة بعد أن نجح العدو الصهيوني في إقناع صانعي القرار في عدد من بلداننا العربية المسلمة بتقليص مساحة الحديث عن القضية الفلسطينية فيها إلى ما يقارب الصفر.
بضع صفحات في مقرر التاريخ يعقبها حديث عن السلام واتفاقاته وبنود معاهداته وعلاقات طبيعية وربما ودية معه، مع غياب شبه تام لدعم القضية في مناهج اللغة العربية والتربية الدينية، واستبعاد الرموز التاريخية الكبيرة التي ارتبطت بالجهاد والانتصار.
مقررات دراسية احتفى بها العدو لأنها تكرس لاحترام الآخر والتعاون معه دون أدنى إشارة لتنوع هذا الآخر ما بين صديق وعدو متربص وعدو انتهك الأرض وسفك الدم.
لذلك فلا عجب أن بعض طلابنا لا يعلمون شيئا عن قضيتنا الفلسطينية ولا عن أبجدية الصراع الدائر.
كاد العدو الصهيوني أن ينجح في تحقيق غايته.. تطبيع وهرولة وعلاقات دافئة على مستوى العديد من الحكومات ومقررات دراسية تخدم سرديته التاريخية المزيفة ومنتج شبابي عابث لا يهتم إلا بالترفيه والاستهلاك ولا يأبه بفلسطين ولا يدرك شيئا عن معنى الجهاد إلا صورة غبراء عن داعش وأخواتها.. حتى جاءت عملية طوفان الأقصى لتكسح في طريقها كل هذه المنجزات القذرة التي أحرزها العدو الصهيوني فما بعد السابع من أكتوبر لن يكون أبدا كما كان قبله.
الطلاب الصغار جدا الذين لم ربما لم يسمعوا أبدا عن القضية الفلسطينية يتابعون ما يحدث.. يتساءلون ببراءة أسئلة بدهية.. لماذا يقتلون؟ ما ذنب هؤلاء الأطفال؟ لماذا لا ننصرهم؟ هل يمكننا أن ندعمهم ولو بالقليل؟
عرف الأطفال بالطريق الصعب من هو العدو الحقيقي لهذه الأمة وأصبح حجب صور ما يحدث هناك عنهم من رابع المستحيلات وجاءت الفرصة الذهبية لكل معلم شريف للقيام بدور بالغ الأهمية لنصرة فلسطين ونصرة القدس ونصرة الأقصى عن طريق صناعة مدد جديد لهذه الأمة مدد يسير على نهج أطفال الحجارة الذين أصبحوا رجال طوفان الأقصى رغم أنف مقررات ومناهج التطبيع والانبطاح فما الذي يمكن أن يقدمه المعلم؟ وما هو الدور المطالب به؟
بين الجهل والعجز
يمكننا القول إن جهل المعلم بأساسيات القضية الفلسطينية في الوقت الراهن يعد جريمة ولا يعذر المعلم أبدا بالجهل خاصة معلم اللغة العربية والدين، بينما معلم الجغرافيا والتاريخ فعلى هؤلاء دور لا يمكن لغيرهم القيام به.. إنه دور صناعة الوعي لدى الناشئة وتحويلهم من غثاء السيل لطوفان الأقصى.
إن بذل المعلم الجهد في القراءة والبحث يعد جهادا في سبيل الله والحقيقة أن مصادر المعرفة موجودة متوفرة ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في إرادة البحث والمعرفة التي عليها تتوقف عملية تشكيل وعي الطلاب.
إن الدرس الأكبر من طوفان الأقصى تعلمناه من أناس لا يسمحون لليأس أو للعجز أن يتسرب لنفوسهم رغم صعوبة وقسوة الظروف والأحداث إلى الحد الذي لا يكاد العقل أن يتخيله.
لكن الإيمان حقا يصنع المعجزات فلا ينبغي للمعلم أن يجعل من مشاعره الحزينة ولا للألم الذي ينفطر به قلبه مبررا للعجز والإحباط أو يتصور أن كلماته ستذهب سدى بلا جدوى يكفيه في هذا الصدد أنه يواجه القوى الناعمة للعدو التي تسللت كأفعى خبيثة للمقررات الدراسية حتى تلتهم أهلنا في فلسطين وهي في مأمن أنهم بلا سند أو ظهير وأن الأجيال الجديدة ستكون ممسوخة تصادق العدو وتواليه وتنكر أهلها وتجافيهم.
إن المعلم الذي يرغب حقا في القيام بهذا الدور العظيم الشريف عليه أن يبذل قصارى جهده في إقامة علاقات طيبة بطلابه حتى يتقبلوا منه الأفكار وأن يكون قدوة في سلوكه وأخلاقه وأن يكون مخلصا في تقديم المادة العلمية مهما كان الراتب الذي يتقاضاه أو اللوائح التي تحكم العملية التعليمية.
نماذج مضيئة
يمكننا القول إذن إن قضيتنا في عمقها هي قضية إرادة وعزيمة فالمعلم الذي يريد أن يكون له موقف سيفعل والمعلم الذي يريد أن يلهم طلابه يستطيع أن يمنحهم أفكارا وقيما ويلهب مشاعرهم ويجعل منهم جزءا من المخزون الحضاري الاستراتيجي القادم وهذا ما قامت به معلمة رسم بسيطة في أحد المدارس الابتدائية فلديها موضوع تحت شعار لا للعنف، فتوسعت في المعنى حتى تحكي لطلابها عن العنف الذي يتعرض له الطفل الفلسطيني ومن ثم جاءت لوحات الطلاب معبرة عن هذا المعنى يحمل كل منها علم فلسطين ورسم الأطفال على وجوههم علم فلسطين.
واتسع الحوار في حصة الرسم (التي لا يتصور أحد أنها قامت بما ينبغي أن يكون في حصة الدين أو التاريخ) وتحدثت المعلمة عن المقاطعة وتفاعل معها الطلاب فأبدعوا ولمن لا يعلم، فالطلاب قوة شرائية كبيرة جدا لكن المقاطعة تتجاوز البعد الاقتصادي فهي تتحدى مشاعر العجز والرثاء التي إن سيطرت على الأطفال قتلت فيهم الهمة والمعاني النبيلة.
أما المعلم المسئول عن الإشراف في أحد المدارس فقد ترك الطلاب الصغار يهتفون ويتظاهرون لأجل فلسطين وغزة على ألا يتجمعوا في الفناء حتى يتحايل على الإدارة المدرسية التي تمنع ذلك بينما هتاف الأطفال الذي قد يراه البعض بلا قيمة إلا إنه يكرس معاني بالغة العمق (بالروح بالدم نفديك يا أقصى.. راح هنقلها جيل ورا جيل تسقط تسقط إسرائيل) درس عملي تفاعلي يضرب المقررات الدراسية التي تدعو للتطبيع في مقتل.
هذه نماذج بالغة البساطة أما ما يقوم به معلم التاريخ الذي رسم لطلابه خارطة فلسطين التاريخية وعلمهم أسماء المدن العربية وحكى لهم عن أهم محطات الصراع بغض النظر عن عدد الصفحات الهزيل أو المنعدم فهو يجاهد حقا بالعلم.
ومعلمة الروضة المبدعة التي روت تلك السردية الكبرى كحكاية بسيطة تناسب عقول الصغار فهي تنسج اللاوعي للجيل القادم بإمكانيات مادية محدودة ولكن بطاقة نفسية هائلة.
النماذج المضيئة كثيرة في مشارق عالمنا الإسلامي ومغاربه لكننا بحاجة للمزيد والمزيد فهذه اللحظة التاريخية الآنية هي لحظة استنفار وجهاد.