دلت استطلاعات الرأي المتواترة أخيراً، على حدوث تراجع كبير في ثقة المجتمع الصهيوني بجيشه؛ الذي كان يعد محور الإجماع الوحيد الذي يلتف الصهاينة حوله، وقد بلغ معدل هبوط مستوى الثقة الجماهيرية بالجيش الصهيوني حوالي %20، مقارنة بما كانت عليه الأمور قبل 5 أعوام.
ويرى مراقبون في “تل أبيب”، أن هناك عدة أسباب وراء تهاوي ثقة المجتمع الصهيوني بجيشه، وتشمل: ضعف إنجازاته العسكرية، وحذر قيادته من شن عمليات عسكرية تنطوي على مخاطر، وثقافة الكذب المستشرية وحرص الجنرالات وكبار القادة على تحسين مكاسبهم المادية على حساب الجنود في الخدمة الإجبارية.
ويعد تواضع الإنجازات العسكرية في الحرب الأخيرة على غزة أحد أهم الأسباب وراء تهاوي الدعم الشعبي الصهيوني لجيش الاحتلال، فقد كانت هذه الحرب الشعرة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة لكثير من الصهاينة حيث كانت الحرب الأولى التي تندلع في عهد قائد الجيش “أفيف كوخافي”، الذي تبنى خطًا دعائياً منذ أن تولى المنصب ينصب على وجوب تحقيق الحسم والانتصار في الحروب والمواجهات بل إنه وضع خطة عسكرية خاصة به أطلق عليها “تنوفا”، تقوم على وجوب بناء القوة العسكرية على كل المستويات من أجل تحقيق هذا الهدف، ومن أجل تحقيق هذا الهدف أقنع الحكومة بزيادة الموازنات المخصصة للجيش لتمكينه من الإعداد والاستعداد لتحقيق النصر والحسم.
وقد رأى الكثير من النخب في “كوخافي” بُعيد توليه المنصب القائد الذي تبحث عنه “إسرائيل”، منذ سنين طويلة، وهناك من سماه رئيس أركان الانتصار، لكن هذه الصورة سرعان ما تهشمت بُعيد الحرب الأخيرة، فرغم أن «حماس» تعد من ناحية موازين القوى والمقدرات العسكرية والإمكانات الحربية حلقة العداء الأضعف كما تؤكد محافل التقدير الإستراتيجي في “تل أبيب”، فإن المفاجأة تمثلت في فشل جيش الاحتلال مرة أخرى في إحراز انتصار، تماماً كما حدث في الحروب الثلاث التي سبقتها.
فعلى الرغم من أن الجيش استخدم قوة نيران هائلة، ولم يتردد في الإغارة على قطاع غزة بواسطة طائرات إف 35 الإستراتيجية التي ادعى أنه اشتراها من الولايات المتحدة بهدف مهاجمة إيران فإنه فشل في إجبار المقاومة على وقف
إطلاق الصواريخ التي غطت جميع مناطق «إسرائيل» بشكل أدى إلى إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات المتجهة والمغادرة للكيان.
وفي ثلاث مقالات نشرت في صحف “هاآرتس”، و”يديعوت أحرونوت” و”يسرائيل هيوم” أجمع المعلقان العسكريان الصهيونيان “يوسي يهشوع” و”عاموس هارئيل”، بالإضافة للباحث “أودي ليبل”، على أن نتائج الحرب على غزة كانت أحد أهم الأسباب وراء التراجع الكبير على ثقة المجتمع الصهيوني بالجيش؛ لأن هذه النتائج كرست البون الشاسع بين مستوى توقعات الجمهور من الجيش والإنجازات التي حققها في النهاية على أرض الواقع.
وحسب الثلاثة، فإن المجتمع الصهيوني الذي كان دائماً ما يبدي دعماً غير متحفظ للجيش بات يشعر بمرارة كبيرة بسبب تواضع الأداء ومحدودية الإنجازات التي يحققها، رغم المزايا المادية التي يحظى بها الجنرالات والقادة، ورغم الاستثمارات الهائلة في مجال بناء القوة العسكرية والاستخبارية إلى جانب ذلك، بدا واضحاً لقطاعات واسعة من المجتمع الصهيوني أن قيادة الجيش لم تعد معنية بالمبادرة بشن حرب أو مواجهة عسكرية على الأعداء؛ وهو ما جعلها تصدر التبريرات لتسويغ موقفها بشكل مبتذل.
وقد تحولت مواقع التواصل الاجتماعي بالعبرية إلى مساحات للتندر على الجيش والسخرية من حرصه على تفسير إطلاق الصواريخ، أخيراً، من قطاع غزة على ساحل “تل أبيب”، بأن ذلك نتاج الأحوال الجوية، وأن أعطالا فنية وراء انطلاق هذه الصواريخ وقد رأى رواد مواقع التواصل الصهاينة أن هذه التبريرات تهدف بشكل أساس إلى تقديم مبرر لعدم الرد بشكل قوي على إطلاق الصواريخ.
ثقافة الكذب
لكن المستوى القيادي العسكري الصهيوني بات متشرباً لثقافة الكذب للتغطية على ضعف إنجازاته، ويشير الباحث الصهيوني “أودي ليبل” إلى أن مصداقية الجيش تهاوت وبلغت الحضيض بعد أن تبين كذب بيانات قيادة الجيش التي تحدثت عن نجاحها في استهداف مجمع أنفاق حركة حماس، خلال حرب غزة الأخيرة، الذي أطلقت عليه مجمع “المترو” وأن العملية أسفرت عن مقتل عدد كبير من قادة ونشطاء الحركة، وقد اضطرت قيادة الجيش للتراجع عن روايتها والاعتراف بأن الهجوم الجوي غير المسبوق على مجمع الأنفاق أسفر عن مقتل عدد قليل جداً من العناصر.
ومع أن الكثير من وسائل الإعلام الصهيونية كانت تتلقف رواية الجيش وتتعاطى معهما كمسلمات، فإنه بعد أن تبين تعمد القيادة العسكرية الكذب حتى في بياناتها التي تقدمها للمراسلين العسكريين حدثت حالة من عدم الثقة ببيانات الجيش؛ وهو ما تبدى في انسحاب “ينيف فيكوفيتش”، المراسل العسكري لصحيفة “هاآرتس”، بشكل تظاهري من مؤتمر صحفي للناطق بلسان الجيش؛ احتجاجا على ما وصفه بتعمد الناطق تقديم بيانات كاذبة عن مسار الحرب الأخيرة على القطاع.
ولا ينعكس استشراء ثقافة الكذب فقط في البيانات المتعلقة بالمسار العسكري، بل بكل المناحي التي تخص الجيش، فعلى سبيل المثال؛ قدم الجيش بيانات كاذبة حول ملابسات غرق عدد من الطائرات المقاتلة العام الماضي أثناء تواجدها في أحد المطارات العسكرية في النقب المحتل بسبب سيول اجتاحت المنطقة.
وحتى لا يتم الكشف عن عدم مصداقية بيانات الجيش، فإن رئيس هيئة الأركان “كوخافي”، يتملص منذ 3 سنوات من تقديم تقرير حول واقع قوات الاحتياط ومدى أهليتها لخوض المعارك، على الرغم من أن القانون يلزم قيادة الجيش بتقديم مثل هذا التقرير سنوياً للحكومة وللجنة الخارجية والأمن التابعة للبرلمان.
زيادة مخصصات الجنرالات
وإلى جانب ذلك، فإن هناك حالة رفض شعبي متزايد من حرص رئيس الأركان على زيادة رواتب ومخصصات التقاعد للجنرالات وكبار القادة بشكل كبير، في الوقت الذي تمر فيه “إسرائيل”، بأزمة اقتصادية كبيرة، وبشكل يفوق كثيراً نسبة زيادة مرتبات ومخصصات صغار الضباط والجنود.
ومما وفر بيئة للسخرية الاجتماعية من الجيش إعلان رئيس الأركان عكوفه على تأليف كتاب حول مبادئ القيادة العسكرية، فإلى جانب السخرية من الإعلان، فإنه ووجه بحملة انتقادات كبيرة؛ حيث تساءل الكثيرون حول كيفية تمكن “كوخافي” من توفير الوقت اللازم للانشغال بتأليف كتب في الوقت الذي تواجه «إسرائيل» هذا الكم الكبير من التحديات العسكرية والإستراتيجية، وفي ظل مظاهر الخلل الجلية في سلوك الجيش، وفي الوقت الذي لا يحرص القادة الكبار على ألا يكونوا قدوة للجنود.
لكن بغض النظر عن وجاهة الأسباب التي تسوغ تهاوي ثقة المجتمع الصهيوني في الجيش وقيادته، فإنه لا يمكن تجاهل دور هذا المجتمع في دفع الجيش إلى أنماط السلوك التي تمت الإشارة إليها؛ فإن كان الجيش الصهيوني يحرص بشكل واضح على تجنب أي مسار يفضي إلى شن هجوم بري ضد قطاع غزة، فإنه يفعل ذلك لأن قيادته تعي أن المجتمع غير مستعد لتحمل تبعات أي مسار عسكري يمكن أن يفضي عن سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى والأسرى.
فقيادة الجيش تدرك أن شن عملية برية خلال أي حرب في الجنوب أو الشمال سيكون مرتبطا بسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى، ويمكن أن تسفر عن وقوع ضباط وجنود في الأسر؛ وهذا ما لا يمكن أن يقبله المجتمع.
قصارى القول: هناك أسباب وجيهة تفسر تهاوي ثقة المجتمع الصهيوني بجيشه، لكن هذا الجيش في النهاية يعكس الروح السائدة في المجتمع الذي خفتت فيه الروح الصهيونية ولا يبدي استعداداً للتضحية فيرمي الجيش بما يعاني منه(1).
____________________________________
(1) د. صالح النعامي، «المجتمع» العدد (2164)، 1/ 2/ 2022م.