كُلنا يطالع ما يحدث في غزة في الليل والنهار، نصحو على أخبارهم، ونبيت على مشاهدة مأساتهم، نتابع قصف الصهاينة الذي لا يتوقف على رؤوسهم، نشاهد مخططًا يعمل على الأرض، يجسد رغبة صهيونية ملحة في إتمام خطة تهجير جديدة، تعمل على قدم وساق بتأييد أمريكي غربي يقابله ارتباك إسلامي عربي إلا من مواقف بعض الدول والزعماء المنصفة.
غزة صامدة، آلاف الشهداء، عشرات آلاف المصابين، ومئات آلاف المشردين، ليست المرة الأولى، لكنها الأشد على الإطلاق، إجرام منقطع النظير في استهداف المناطق السكنية بمختلف الأسلحة التقليدية، والمحرمة، أو تلك التي ترغب قوى الاحتلال وحلفاؤها في تجربتها بأجساد إخواننا!
لن أتعرض هنا للتحليلات أو التصريحات أو المواقف السياسية، لكني أحاول توجيه النظر لجانب مهم ربما يخطر ببالنا جميعًا، يدور حول سؤال جوهري، ما واجبنا تجاه ما يحدث؟ أو بالأحرى ما حق غــزة علينا؟
القضية الفلسطينية قديمة، ولم تبدأ مأساتها يوم السابع من أكتوبر، لكنها في ذات الوقت وبفضل هذا الحدث استيقظت في ضمير الأمة مجددًا، فإن صغيرنا قبل كبيرنا اليوم أصبح مهمومًا بالقضية، يتلمس أخبارها يحزن لانكسارها، ويفرح لانتصاراتها، فإن الأمة قد وقفت خلال الأسابيع الماضية على المعادلة المجردة للصراع وفق ثنائيات الواقع «احتلال – مقاومة»، و«عدوان – معاناة»، وفق هذه المعادلة نستطيع وضع محددات لما نراه حق غزة علينا فرعًا عن حق فلسطين بالطبع، وهي حقوق خفيفة مستطاعة.
الحق الأول الذي لا ينبغي الحياد عنه هو «دعم الحق في المقاومة»، فلا ينبغي أن نستحيي من دعم حقوقنا المشروعة في مقابل ما يقوم به داعمو الاحتلال من تأكيد حقه المشروع في العدوان على أي مكان في غزة بحجة الدفاع عن نفسه، حتى لو أسقط آلاف الفلسطينيين، فلا بد تجاه هذه العجرفة والبغي من تحرك لحماية حق فلسطين المشروع في مقاومة هذا المحتل الدموي بما يمتلكون من أسباب، وهو بالمناسبة حق معترف به في القانون الدولي والشرائع السماوية وأعراف الشعوب، ولحماية هذا الحق محددان مهمان؛ الأول: يتمثل في ضرورة إمداد المقاومة الفلسطينية بكل الأسباب التي تبقيها على طريق استرداد حقوق شعبها، ويمنع كسرها بهذا العدوان، والثاني: الحيلولة دون تثبيت أوصاف الإرهاب أو «الداعشية» التي تصر عليها «إسرائيل» ومن ورائها أمريكا وحلفاؤها، هذان أمران مهمان لهما بالغ الأثر على وجودية المقاومة واستمرارها.
الحق الثاني الذي أزعم أهميته، يكمن في تصحيح بعض المفاهيم التي صاحبت معركة «طوفان الأقصى»، وبرغم كذبها، وكونها عكس حركة الحق التاريخي والجغرافي والسكاني للشعب الفلسطيني، فإن آلة الإعلام الصهيوني والغربي ما زالت تتناولها وكأنها من المسلَّمات، مصطلح «المدنيين من الجانبين»، يكررونه وكأننا بصدد عراك بين جارين في شارع، أو دولتين متساويتين في السيادة نشبت بينهما حرب! ما نحن بصدده مقاومة تعمل على استعادة أراضيها من المحتل الذي استوطنها واستولى عليها بقتل أصحابها وتخريب بيوتهم وحرق مزارع الزيتون التاريخية، كما أن المقاومة لم تعتدِ على غير العسكريين المتمثلين في فرقة غزة، وهي الفرقة التي كانت تُعمل القتل في الفلسطينيين على طول السياج الفاصل، وتمعن في إذلالهم على بوابات المعابر، ما قامت به المقاومة يوم السابع من أكتوبر عمل عسكري لا دخل للمدنيين به، وتسويق مصطلح «المدنيين من الجانبين» مقصود به تشويه معاني المقاومة وإدانة أصحابها.
المفهوم الثاني يتعلق بما دأبت الآلة الصهيونية الإعلامية على ترديده بلا كلل عن أن المقاومة اتخذت من أهل غزة «دروعًا بشرية»، ومصطلح دروع بشرية يوحي أن المقاومة أحضرت بعض المدنيين خصيصًا لجبهة القتال، وجعلتهم بينها وبين آليات العدو تحتمي بهم وتتقي بهم عدوانه، والحقيقة أنه لا وجود لهذا المصطلح في الحالة الفلسطينية، فالقطاع بطبيعته مساحة صغيرة كثيفة السكن متداخلة الأحياء، والاحتلال قد استخدم هذا المصطلح (الدروع البشرية) من أجل شرعنة قصفه للأحياء السكنية بقنابل تزن طناً من المتفجرات، والمستشفيات التي صارت مأوى للنازحين وتغص ثلاجاتها بالشهداء وغرفها بما يوازي 10 أضعاف طاقتها، بحجة وجود قيادي للمقاومة بين الناس!
مفهوم آخر يتردد في الأوساط الرسمية والشعبية مفاده «تحذير دول الجوار من توسيع دائرة الحرب»، ويتردد في كل التصريحات الرسمية للمسؤولين الغربيين، وهو حق يراد به باطل، فالغاية هنا هي عزل غزة عن محيطها، والانفراد بها، قد يكون التحذير من التدخل في الحرب متفهمًا فيما يخص العمليات العسكرية، لكن أن يعتبر مد يد العون للقطاع المحاصر بالمساعدات والنجدة من قبيل توسيع دائرة الحرب، فهذا قتل بالبطيء لما يقارب مليونين ونصف المليون مسلم، أن تُحجب المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء وتنتظر لثلاثة أسابيع على معبر رفح حتى تأذن «إسرائيل» بإدخالها بحجة عدم وقوعها في يد المقاومة، أو يُمنع الوقود عن القطاع فتتساقط المستشفيات واحداً تلو الآخر بحجة عدم السماح للمقاومة بالاستيلاء عليه، أن تكون مجرد المساعدات الإنسانية أحد أعمال توسيع دائرة الحرب فهذا ظلم بيّن ونكوص عن تلبية حق إنساني صرف لا علاقة له بالحرب.
الحق الثالث يكمن في ضرورة تهيئة الأجواء الشعبية من أجل تنظيم التضامن، فالمؤسسات الدينية والاجتماعية والإنسانية -بعيدًا عن تعقيدات السياسة وتشابكاتها- يلزمها القيام بدورها في توعية الناس بواجباتهم، فوزارات التعليم تستطيع أن تعمم أوامرها للمدارس بضرورة شرح مبسط للقضية الفلسطينية والتعريف بها، ووزرات الأوقاف توزع خطبًا عن الحق الفلسطيني في المقاومة، وتقيم لذلك الندوات والمحاضرات والدروس، والمجامع الدينية تحيي فتاوى مشروعية صد العدوان ومقاومته، ووسائل الإعلام تساعد في توفير أنشطة داعمة للأسر في توعية أبنائها وحمايتهم من المضامين والمفاهيم الدخيلة على القضية الفلسطينية.
هذه الحقوق، غير المتقاطعة مع الجانب السياسي، أو التشابكات الدولية المعقدة التي قد تفرضها الظروف، التي رغم بساطتها فإن لها أبلغ الأثر على القضية الفلسطينية، إذا ما أضيفت إلى فعاليات التظاهر والمقاطعة والدعم على وسائل التواصل، وهي في هذا كله لم تبلغ عشر معشار ما علينا فعله تجاه غزة وأهلها ومقاومتها، لكنها تمثل بداية للفت النظر لجوانب مهمة من حقوق إخواننا علينا، وواجباتنا تجاههم، فلعلها تشفع لنا أمام الله.