مظاهرات مليونية تشهدها عواصم غربية ضد العدوان «الإسرائيلي»، وتغير في المزاج الشبابي المؤيد لـ«إسرائيل»، وتحولات في الشرائح الشبابية في أحزاب غربية ضد «إسرائيل»، وغضب واسع في الفضاء الرقمي لـ«إسرائيل» لمذابحها في غزة، وانتقادات علنية متصاعدة ضد «إسرائيل» في أماكن التجمهر مثل مدرجات الملاعب ضد «إسرائيل»، مع ارتفاع للعلم الفلسطيني، وكذلك تنديد في أوساط فنية ضد الوحشية «الإسرائيلية» في غزة.
فهل نشهد مساراً لتحولات قادمة في الرأي العام الغربي تجاه «إسرائيل»؟ وهل كان العدوان على غزة لحظة كاشفة لحقيقة «إسرائيل» ودمويتها في المخيال الغربي، بعدما أزاحت دماء الأبرياء في غزة الغطاء الإنساني عن «إسرائيل» لتبدو عارية، ليتكشف للرأي العام أن ما تقوم به «إسرائيل» هو إبادة للفلسطينيين وليست حرباً عادلة؟
نحو مسار جديد
قد تبدو تحولات الرأي العام في الصراعات الكبرى، بطيئة، وربما جامدة، لكنْ هناك أحداث قادرة على إنهاء هذا الجمود، والدفع بالقضايا نحو مسار جديد، والانتقال بالرأي العام من حالة السيولة نحو مسار آخر، وهذا ما أحدثه العدوان «الإسرائيلي» على غزة، فلوحظ تفهم في قطاعات من الرأي العام الغربي خاصة الشباب، لحقيقة الصراع، وتفهم دوافع المقاومة الفلسطينية، وإدراك للوجه الاستعماري والعنصري لـ«إسرائيل».
في مقال كتبه المحلل السياسي شبلي تلحمي، في مطلع نوفمبر، ونشره معهد «brookings» حول قدرة حرب غزة على تغيير الرأي العام الأمريكي، استند فيه إلى استطلاع للرأي أجراه مركز القضايا الحرجة بجامعة ميريلاند بالتعاون مع شركة إبسوس(1)، حول تحولات الرأي العام الأمريكي بشأن القضية الفلسطينية، وذلك بعد ثلاثة أسابيع من الحرب، وأشار فيه إلى أنه رغم التأييد الرسمي لـ«إسرائيل» من البيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية، فإن اتساع نطاق الحرب أتاح ظهور انتقادات لـ«إسرائيل»، وخروج مظاهرات ضدها، لمطالبة واشنطن بتغيير سياستها تجاه الصراع، وحسب الاستطلاع، فإن 71.9% من الجمهوريين يريدون ألا تميل الولايات المتحدة نحو «إسرائيل»، مقارنة بـ47.3% في يونيو الماضي، وأن 57.4% من الديمقراطيين يريدون ألا تميل واشنطن نحو أي من الجانبين، وهؤلاء من الفئات الشبابية، مقارنة بـ71.4 في يونيو الماضي.
وهو ما أكده موقع «تايم أوف إسرائيل»(2)، من أن استطلاعات الرأي العام تُظهر انخفاضاً في تأييد الرأي العام الأمريكي لـ«إسرائيل» بسبب حرب غزة.
هذا الاستطلاع ينسجم مع استطلاعات أجريت بعد العدوان، ورصدت تحولات في الرأي العام الغربي خاصة الأمريكي في غير صالح «إسرائيل»، وأن هذه التحولات تكاد تتركز في الفئات الشبابية، التي توصف بأنها الأكثر حضوراً في «الميديا» الرقمية ومواقع التواصل، والأكثر استهلاكاً للأخبار من المصادر الجديدة في الفضاء الرقمي، ففي استطلاع أجرته مجلة «الإيكونوميست» بعد شهر من العدوان على غزة، ذكرت أن التعاطف مع «إسرائيل» قد بدأ يجف، فهناك تراجع كبير للتعاطف مع «إسرائيل»، تركز في المرحلة العمرية الممتدة من 18 – 29 عاماً، ففي تلك الشريحة وُجد أن 25% يتعاطفون أكثر مع «إسرائيل»، و19% مع الفلسطينيين؛ أي أن هناك تقارباً في التعاطف بين الجانبين، وهو أمر في صالح الفلسطينيين، وذلك على خلاف الشريحة العمرية التي تجاوزت الستين عاماً، فوجد أن 62% يتعاطفون مع «إسرائيل»، و3% فقط يتعاطفون مع الفلسطينيين؛ وهو ما يعني أن الفئات الشبابية يتغير وعيها بصورة كبيرة تجاه الابتعاد عن تأييد «إسرائيل» أو التعاطف معها أو حتى تفهم وحشيتها في التعامل مع الفلسطينيين.
وفي استطلاع آخر لجامعة «كوينيبياك» الأمريكية أُجري بعد أسابيع من الحرب، ورغم إظهاره لوجود تأييد من الجمهوريين والديمقراطيين لـ«إسرائيل» وتأييد تقديم الدعم الأمريكي لها، فإن الاستطلاع أشار إلى وجود انقسام كبير بين الأجيال حيال «إسرائيل» والفلسطينيين، فالأجيال الشابة تحت سن 35 عاماً تشهد تحولات في غير صالح «إسرائيل»، فبات الناخبون الشباب أقل تأييداً لـ«إسرائيل» في حربها مقارنة بنظرائهم الأكبر سناً، وحسب الاستطلاع، فإن 51% من هؤلاء، الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً، لا يؤيدون إرسال أسلحة ومعدات عسكرية إلى «إسرائيل» رداً على ما قامت به «حماس».
أما مؤسسة «غالوب»(3) المهتمة بقياس الرأي العام، فوجدت أن معدل تأييد الرئيس الأمريكي جو بايدن انخفض بنسبة 11% في أكتوبر الماضي ليصل إلى أدنى نقطة له منذ رئاسته، وأن الانخفاض الحادث كان بين الناخبين الشباب، لكن الأهم هو رصد انقسامات داخل إدارة بايدن نفسها، فالموظفون الأصغر سناً كانوا أكثر من رؤسائهم في التعبير العلني عن قلقهم بشأن ما تقوم به «إسرائيل» ضد الفلسطينيين، ولا شك أن هذا يشكل مأزقاً انتخابياً للحزب الديمقراطي الذي يمثله بايدن، بعدما طالبت مجموعات من هؤلاء موظفين من الإدارة الأمريكية الضغط على «إسرائيل» لوقف إطلاق النار.
وأشار الاستطلاع إلى أن إظهار بايدن الفوري والحاسم لتأييد «إسرائيل» ودعمها أدى إلى نفور البعض في حزبه؛ مما أدى إلى أسوأ تقييم من الديمقراطيين له منذ توليه الرئاسة الأمريكية.
ووفق استطلاع نشرته صحيفة «ديلي ميل»(4) الشهيرة، فإنه رغم أن 40% من المشاركين من الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 – 29 عاماً لديهم وجهة نظر سلبية تجاه حركة «حماس»، إلا أن أكثر من النصف لا يوافقون على النظر لـ«حماس» على أنها «داعش»، كما أن 32% لديهم نظرة سلبية تجاه «إسرائيل»، مقابل 24% فقط لديهم وجهة نظر إيجابية، وهذا تحول كبير في الرأي العام الأمريكي، لكن الصحيفة أشارت إلى أن ساحات بعض الجامعات تشهد انقساماً بسبب الحرب مع اشتعال النقاش والخلاف في الرأي حول ما يجري.
وفي استطلاع موسع صدر في 62 صفحة، أجراه مركز الدراسات بجامعة هارفارد الأمريكية(5)، ذكر أن 52% ممن شملهم الاستطلاع يعتقدون أن ما قامت به «حماس» في 7 أكتوبر 2023م يمكن تبريره بسبب الظلم الواقع على الفلسطينيين، وأن 59% يرفضون قطع «إسرائيل» للكهرباء والماء عن غزة بعد هجوم «حماس».
ويذهب بعض المحللين إلى أن الحرب بين «إسرائيل» والفلسطينيين أوجدت انقساماً أمريكياً ليس على أسس حزبية، ولكن على أسس عُمرية؛ وهو ما يعني أن الشباب الأمريكي بات أكثر ابتعاداً عن «إسرائيل» مقارنة بفئات عمرية أخرى، ومقارنة بفترات زمنية سابقة.
وفي تقرير لوكالة «رويترز»(6)، في نهاية أكتوبر الماضي، رصد تصاعد كراهية اليهود بعد العدوان «الإسرائيلي» على غزة، وأكد أن العداء انتقل في بعض المناطق إلى استهداف اليهود، فتعرضت مؤسسات يهودية لاعتداءات، ووصف اليهود بأوصاف مقززة، وأن هذه الفترة تعد الأكثر رعباً لليهود في العالم بسبب حرب «إسرائيل» على غزة، فتعرضت مدارس للإغلاق خوفاً من الاعتداء عليها، حيث يساوي الكثير من الناس بين اليهود و«إسرائيل».
ليبقى التساؤل: هل يخرج الرأي العام من قبضة الصهيونية في الغرب وخاصة في الولايات المتحدة؟ وهل يمكن أن تصبح القضية الفلسطينية قضية انتخابية تطرح الأحزاب برامجها بشأنها على جمهور الناخبين.
___________________________
(1) شركة عالمية متعددة الجنسيات لأبحاث السوق ومقرها في باريس، وتعد ثالث أكبر وكالة أبحاث في العالم.