كاتب المدونة: علاء سعد حميده
فجّرت الجرائم الوحشية ضد الإنسانية التي تمارسها الصهيونية وتحالفها الدولي ضد أهلنا العزل في غزة قضية المقاطعة الاقتصادية لشركات دولية تدعم الحرب الفاجرة والكيان الفاجر! حمل لواء تلك المقاطعة جيل شباب الإنترنت بقدرته الفائقة على التواصل والاتصال وصناعة رأي عام ضاغط، وقرارات موازية لقرارات السلطات المحلية.
ولقد نجحت تلك الحملة الشبابية إلى حد كبير مشهود له، غير أن تلك الحملة كشفت في بنائها عن الأولويات الاستهلاكية لقطاع مجتمعي كبير، في زمن يعاني فيه اقتصادنا الوطني من حالة شبه انهيار ارتفع خلالها سعر صرف الدولار أمام الجنيه المصري نحو 9 أضعاف خلال 12 عاماً فقط!
بينما كان قد تضاعف سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصري خلال 24 عاماً كاملة من حكم مبارك نحو 3 أضعاف من 1.9 جنيه في عام 1987م، إلى 5.6 جنيهات في بداية عام 2011م(1).
وفي الوقت الذي تعاني فيه الأسرة المصرية من الارتفاع الجنوني غير المسبوق في أسعار السلع الغذائية الأساسية مثل الزيت والسكر والأرز والدقيق والألبان ومنتجاتها، والدواجن وبيض المائدة، والخضر والفاكهة، فإن مؤشرات المقاطعة الاقتصادية للمنتجات الداعمة للكيان الصهيوني وآلته الوحشية ضد الإنسانية، والبدائل المطروحة التي يتبناها شباب منصات التواصل الاجتماعي –بنجاح مشهود غير مسبوق- تنصب في المقام الأول على سلع تندرج كلها تقريباً تحت قائمة السلع الترفيهية، فهي تكاد تقتصر على مشروبات المياه الغازية ومشروبات الشعير والعصائر والمرطبات، وأنواع القهوة سريعة التحضير ورقائق البطاطس الجاهزة!
إن النظر إلى هذه القوائم السلعية على أنها تمثل الاهتمام الأكبر –إن لم تكن جل الاهتمام- في استهلاك طبقة الشباب للمنتجات الغذائية، في تلك الظروف الاقتصادية بالغة الضراوة على الأسرة مؤشر خطير على عدة مستويات:
أولاً: هي تؤشر على حالة انفصام تام بين ترف تطلعات جيل الشباب وسلوكهم الاقتصادي، في الوقت الذي تعاني فيه أسرهم الحاضنة لتوفير الحد الأدنى الصحي المقبول للغذاء اليومي الأساسي والضروري للحياة البسيطة السليمة.
ثانياً: حالة ارتباك شديدة الخطورة في أولويات السلوك الاستهلاكي لقطاع عريض من المجتمع، تنسحق فيه المطالب الأساسية للحياة أمام سطوة آلة الدعاية الغربية العملاقة لمنتجات رأسمالية هامشية، لا تمثل حقيقة احتياجات المجتمع المصري المعاصر في العيش الكريم.
ثالثاً: تؤشر كذلك على نوع من هشاشة الشخصية الشابة التي تنسحق أمام تلك الدعاية الاستهلاكية، دون البحث العميق عن القيمة المضافة من جهة، والسؤال عن مدى موافقة ذلك للوضع الاقتصادي العام، ولما يجب أن تكون عليه الشخصية المواجهة من جهة ثالثة.
لقد وضعتنا حرب الإبادة الجماعية في غزة أمام قضية في غاية الخطورة؛ فهل يقبل المجتمع المصري خاصة -والعربي عامة- أن يكون هذا المجتمع الطفولي الرخو الذي يجري خلف إشباع غرائز وشهوات ورغبات استهلاكية غير نافعة وأن يتحول إلى نسخة باهتة من المجتمع الغربي في نمط الاستهلاك لا الإنتاج! أو أن يكون هذا المجتمع الصلب المقاوم الذي يحتفظ بشخصيته وهويته ويتبنى قضاياه الوطنية والقومية والأممية؟
لقد أراد جيل الشباب من خلال تبني حملات المقاطعة أن يكون المجتمع المقاوم صاحب الشخصية الوطنية التي لا تُمحى، والقادرة على تغيير مجرى التاريخ، فإذا كان هذا هو اختيار جيل الشباب فليكن المجتمع بأكمله متكاتفاً من أجل تحقيق تلك الغاية.
لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما أرسل معاذاً بن جبل قال له: «إياك والتنعم، فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين»، إن خير الاستهلاك الاقتصادي هو هذا المربوط بالتوجيه القرآني الكريم في الإنفاق: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) (الفرقان: 67).
إن إعادة الاتزان لحياتنا الاستهلاكية يتطلب أولاً إعادة ترتيب أولوياتنا الاستهلاكية والاستغناء -لا المقاطعة- عن السلع الترفيهية غير الضرورية.
والعودة فعلياً إلى مشروع الأسرة المنتجة وليست تلك المستهلكة على الدوام، ولا أقصد مشروع الأسر المنتجة بقصد عرض هذا الإنتاج على السوق الاقتصادية، ولكن بقصد تحقيق أعلى معدل من الاكتفاء الإنتاجي للأسرة داخل البيت، أسرة تستطيع أن تعد غذاءها الضروري اليومي بعيداً عن ثقافة «الدليفري» والوجبات الجاهزة من المطاعم، فهي ثقافة لا تناسب ظروفنا الاقتصادية ولا طبيعة المرحلة التي نختار فيها العودة إلى هويتنا المقاومة الداعمة للمشروع المقاوم، وأن تصنع عصائرها وحلوياتها ومرباتها وتخزن الضروري من استهلاكها من الخضر والفاكهة، وهذا كله كانت تصنعه أمهاتنا الكريمات عبر أجيال متعاقبة حتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، عندما سيطرت سياسة الانفتاح الاقتصادي التخريبي.
أن يدرك الشباب في تلك المرحلة أن ما ينفقونه على تلك السلع الترفيهية ليس نوعاً من التمتع بمصروفهم الشخصي ينفقونه كيفما اتفق، فهم لا يعيشون في فراغ، وإنما في مجتمع له سقف اقتصادي مرتبط بآفاق سياسية واجتماعية تحتم عليهم سلوكاً استهلاكياً محتشماً شعاره: (وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 7).
حيث لا يمكننا الفصل بين الشخصية السوية المقتصدة في سلوكها العام، وتلك الشخصية في سلوكها الاستهلاكي لا في القرآن الكريم ولا في الواقع المعاش.
____________________________
(1) جريدة «الشرق الأوسط»، دراما هبوط الجنيه المصري أمام الدولار في سبعة عقود، بتاريخ 11 يناير 2023م.