يتساءل الكثير عن سِرِّ هذا الدعم الغربي لـ«إسرائيل»، دون الانتباه إلى ذلك التماهي بين الأساطير الدينية اليهودية والأساطير المسيحية الإنجيلية المسيطرة على الغرب، وعلى رأسه أمريكا، التي تربط سياساتها الخارجية تجاه «إسرائيل» بالعقيدة الدينية، وذلك بربط العودة الثانية للمسيح بقيام الدولة اليهودية، وعاصمتها القدس الموحَّدة.
وقد سبق للكونجرس الأمريكي، يوم 24 أكتوبر 1995م، أن قرَّر بأن القدس هي العاصمة الأبدية والموحَّدة لـ«إسرائيل»، لأنَّها كما يقول: «الوطن الرُّوحي لليهودية».
وقد أصبح واضحاً أن الانتقال بالسياسة الخارجية لأمريكا -مثلاً- من الأبعاد الجيوسياسية إلى الأبعاد الدينية لدعم «إسرائيل» يعود إلى نفوذ اللوبي الإنجيلي المسيحي فيها، الذي يعتقد بوعد الرَّب لليهود بالعودة إلى أرض الميعاد من أجل العودة الثانية للمسيح؛ وهو ما جعل الإدارات الأمريكية تتبنى المفاهيم الدينية المشتركة بين هذه الطائفة الإنجيلية المتطرفة والمنظمات اليهودية الأرثوذكسية، وهو ما يترجم هذا الزواج الأيديولوجي غير الشرعي بين الحركة الإنجيلية والصهيونية الدينية، فأنجب لقيطة مشوَّهة تسمى «الصهيونية المسيحية».
وتضفي الحركة الإنجيلية في أمريكا طابعاً دينياً على أي دعم لـ«إسرائيل»، وتختبئ وراء تفسيرات دينية وفلسفية بشأن هذا الدعم، ومنها ما قاله أحد أبرز المنتمين إليها، وهو القس المسيحي جون هيجي: «إن اليهود سبب وجود المسيحية، وإن اليهودية لا تحتاج للمسيحية لتفسير وجودها، بينما تحتاج المسيحية لليهودية لتفسير وجودها..»، وهو الذي كُلِّف بتدشين السفارة الأمريكية في القدس، وقد قال على منبر «الأيباك»: «لقد استيقظ العملاق النائم للصهيونية المسيحية، فهناك خمسون مليون مسيحي يقفون ويُشِيدون بدولة إسرائيل».
وقد قطعت الصهيونية المسيحية (الإدارة الصهيو – أمريكية) شوطاً كبيراً في مسار دمج الكيان الصهيوني في المنطقة، ونقله من مرحلة الاحتلال غير المشروع إلى مرحلة التطبيع المرغوب، عن طريق اتفاقيات السلام، ومشروع «أبراهام».
وقد أصبح جلياً بأن الهدف الحقيقي من وراء ذلك هو تصفية القضية الفلسطينية، والقضاء على حلم المشروع التحرُّري نهائياً، وهو الخطر الوجودي الذي تمثِّله عملية الاستمرار في هذه المتاهة، والانتقال عملياً إلى مرحلة تشكيل تحالف عضوي في المنطقة، بقيادة الكيان الصهيوني ضدَّ مشروع المقاومة والتحرير للأمة من هذا السُّلطان الأجنبي.
فالأهداف الإستراتيجية الأمريكية تتصادم بشكل عنيف مع إرادة المقاومة في التحرُّر، وتهدِّد فعلياً إنهاء الهيمنة الصهيو – أمريكية على المنطقة، وهو ما صعَّد من مؤشرات شراسة هذا الصراع الوجودي بين الإدارة الأمريكية والإرادة المقاوِمة.
ولا شك أن معركة «طوفان الأقصى» مثَّلت نقطة تحول تاريخية في هذا الصراع على المستوى الإقليمي والدولي، أعطت دَفعة قوية للتعجيل بإعادة تشكيل النظام الدولي الجديد، وإنهاء الأحادية القطبية، تقاطعاً مع التوجُّه الجامح للصين وروسيا في ذلك.
ومهما اجتهدت الصهيونية المسيحية في إنهاء مشروع التحرُّر الوطني الفلسطيني، عبر الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، مقابل تبني خيار السلام خياراً إستراتيجياً لإنهاء الصراع، الذي كانت ذروة الخيانة والغدر فيه «اتفاقيات أوسلو» عام 1993م، التي أعطت منظمة التحرير سلطة بلا سيادة، وشعباً بلا أرض، بل كانت السلطة الفلسطينية أداة صهيونية في وَأْد أي صوت يهتف بالمقاومة والتحرير، وهي محاولة لاغتيال المشروع التحرُّري، وسجنه تحت السقف الصهيوني.
وفي الوقت الذي كانت فيه «منظمة التحرير» تلميذاً نجيباً، بالوفاء بجميع التزاماتها المخلة، كان العدو الصهيوني يُمعِن في التنصُّل من أي اتفاقيات أو قرارات دولية؛ وهو ما جعل خيار التحرير خياراً مشروعاً في كامل عنفوانه في مواجهة هذا الاحتلال، بعث القضية من تحت الركام، وصرخ بعدالتها في وجه العالم، فاهتز الكون بأسْره عندما نطقت المقاومة بـ«طوفان الأقصى»، وحرَّرت القضية من تعليبها في أزمات إنسانية إلى أبعاد تحرُّرية وطنية ضدَّ هذه الفرعونية الأمريكية المعاصرة.
وقد اعتُبرت معركة «طوفان الأقصى»، يوم 7 أكتوبر 2023م، زلزالاً مدوِّياً في وجه العالم من أجل تصويب البوصلة، وإعادة القضية إلى سُلَّم أولويات العالم، كأهمِّ قضية مؤثرة في هذه التحوُّلات الإستراتيجية.
لقد أدرك الغرب هذه الرسالة العميقة للمقاومة في بعث المشروع التحرُّري، فاتَّجه بكل تلك الآلة التدميرية النازية، بمحاولات انتقامية يائسة لجرِّها إلى الوراء من جديد كمأساة إنسانية، ليمحو تلك الصورة المشرقة لمشروع التحرير الكامل، وينزع هذا الإنجاز الإستراتيجي غير المسبوق عن سياقه، بعدم الربط بين الاحتلال النازي والحق المشروع في مقاومته، وأنه ليس مشروعاً لتحرير فلسطين والقدس والمسجد الأقصى فقط، بل هو مشروع لتحرير الأمة العربية والإسلامية، بل والإنسانية جمعاء من هذه الهيمنة الغربية.
لا يريد هذا الغرب أن يتحمَّل عبء المسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية لليهود في العالم، كعقدة الذنب التاريخية فيما يزعمونه من المحرقة النازية (الهولوكوست)، فقد حاول التعويض عن ذلك، والتخلُّص منهم كنفايات بشرية بتهجيرهم إلى فلسطين، إلا أن هذا الغرب يُصاب بالصدمة لأي فعل مقاوم يعيدهم إلى المربع الأول بتحرير فلسطين.
ولذلك تتجه السياسة الجهنمية الصهيو – أمريكية في هذه الحرب إلى رفع كُلفتها الإنسانية، وإلهاء العالم بواجبات الدعم الإنساني والإغاثي، التي لا تجيب عن سؤال التحرُّر، ولا عن أي حل سياسي عادل وشامل للقضية الفلسطينية على أساس التحرير والاستقلال والسيادة الكاملة للدولة الفلسطينية، وإنما يمثل عملية اغتيال تاريخي، وسرقة موصوفة لحق الشعب الفلسطيني في التحرير.
وسيُبقون الشعب الفلسطيني في حالة احتياج دائم، ولكن لا يرقى إلى مشروع التحرير، ولا يتطلَّع إلى استحقاق الدولة، لا بالمقاومة المسلحة، ولا حتى بالمسار السياسي السلمي، وهو ما يفسِّر إفلاس مشروع التسوية، وتفكيك السلطة الفلسطينية من بنية الدولة الأساسية، بل تم تحويلها إلى أداة أمنية خَدَمية متطرِّفة لصالح «إسرائيل»، لتكون رأس الحربة في تدمير أي مشروع تحرُّري عبر الاعتراف بها والتنسيق الأمني معها.
فمن النتائج الإستراتيجية لمعركة «طوفان الأقصى» إنهاء أوهام التطبيع، ووقف المسلسل العبثي لمشاريع التسوية، وتعرية سوءات الحلول السياسية أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي والعالمي، فانطلقت المسيرات المليونية في كل قارات العالم تهتف بعدالة القضية الفلسطينية، وإدانة هذه السياسات الصهيو-أمريكية النازية، التي تجاوزت كل القوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية والقيم الإنسانية.
إن هذه النازية الصهيونية الجديدة لا تتجه في خطابها الإعلامي والسياسي، وفي ممارساتها الفاشية لتصفية «حماس» كتنظيم، أو الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني كحاضنة شعبية للمقاومة، بل هي آلة إرهابية ردعية مروِّعة، تهدف إلى انتزاع فكرة المقاومة والجهاد كمشروعٍ تحرُّري، وهو ما أعلنت عنه إدارة الحرب الصهيو-أمريكية في أحد أهدافها، بالقضاء الوجودي على «حماس» نهائياً.
نحن الآن أمام واقع جديد، لن تعود عقاربُه إلى الوراء أبداً، وهو انتصار مشروع المقاومة التحرُّري، وتعميمه على كافة الساحات، واتحاده في كل الجبهات بعد استنفاد كافة الخيارات، وهو محطة تاريخية، تشكِّل حتماً مرحلة جديدة -أياً كانت التطورات والانزلاقات- وسيكون «طوفانُ الأقصى» هو القدر المحتوم لهذه الهيمنة الغربية والمشروع الصهيوني بحتمية الزوال.
وأنَّ تفوُّقاً في الذَّات المقاوِمة، وأنَّ وعياً بالذَّات التاريخية للأمة، وأنَّ إحساساً باللحظة الفاصلة بأننا أمام فرصة نادرة لاستيقاظ هذا المارد الحضاري الإسلامي، وعودة الأمة كإحدى القوى الفاعلة في عالم متعدد الأقطاب، لإنجاز الاستئناف الحضاري للإسلام من جديد.
________________
برلماني جزائري سابق.