هذه المجازر المتواصلة في غزة ليست عشوائية، كما أن أشلاء الشهداء من الأطفال المنتشرة في الشوارع والمتكدسة في ممرات المستشفيات لم تسقط نتيجة أخطاء خارجة عن إرادة المجرمين الصهاينة، إنما تم التخطيط لها جيداً، وتنطلق من مخزون تعطشهم للدم العربي المسلم، كما يحركها حقدهم الأسود، استجابة لنصوص دينية مزيّفة وتعليمات حاخاماتهم الوحشية، وإن تاريخهم الحافل بالمذابح منذ دنسوا أرض فلسطين يشهد بذلك، كما تشهد به أسفار نصوص «كتابهم المقدس» -في ظنهم- فهذا «سفر التثنية» يقول: «فالآن اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ما له، ولا تعف عنهم، بل اقتل رجلاً وامرأة، طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً، جملاً وحماراً».
وقد اعتبر السفاح نتنياهو في أحد خطاباته التحريضية الشعب الفلسطيني بأنهم «عماليق»، رغم أن عرق الشعب الفلسطيني وأصوله وتاريخه مختلف تماماً عن شعب عماليق، «وهم من أقدم سكان سورية الجنوبية، وكانوا يقيمون في البدء قرب قادش في جنوب فلسطين حيث كان يعيش العبرانيون (اليهود) القادمون من مصر، وكان «عماليق» يشكلون مصدر إزعاج لهم، كما اعتدوا على ممتلكاتهم، وكانت المعركة الأولى والمهمة بين الطرفين في «رفيديم»، بغرب سيناء، وانتصر فيها العبرانيون عليهم، وتشتتوا ثم عادوا (عماليق) بعد فترة من الزمن واحتدم الصراع مرة أخرى عندما حاول عماليق التوسع» (قاموس الكتاب المقدس، دائرة المعارف الكتابية المسيحية، بتصرف)، وهكذا صراع وجود تاريخي بين العبرانيين وعماليق.
ويحاول نتنياهو وحكومته الصهيونية المحتلة تلبيس اسم «عماليق» وتاريخهم على الشعب الفلسطيني ليُلقي في روع الرأي العام العالمي أن هذا الشعب هو المعتدي والمحتل، محاولاً إيجاد مبرر لحرب الإبادة الجماعية التي يشنها الصهاينة على غزة والشعب الفلسطيني عامة، باعتبار أن ذلك استجابة لنصوصهم الدينية المحرفة، وهذا ما يقوله الحاخام يسرائيل روزين، في فتواه التحريضية للمحتلين الصهاينة: «مَن يقتل الطلاب، وهم يتلون التوراة، ويطلق الصواريخ على مدينة سديروت فيثير الفزع في نفوس الرجال والنساء، من يرقص على الدماء؛ هو «عملاق»، يجب أن نرد عليه بكراهية مضادة، وعلينا أن ننزع أي أثر للإنسانية في تعاملنا معه، حتى ننتصر»!
أما الحاخام إبراهام شابير، فهو أكثر فجوراً في التحريض على قتل الشعب الفلسطيني، يقول: «نريد شبابًا يهوديًّا قويًّا، نريد شبابًا يهوديًّا يدرك أن رسالته الوحيدة هي تطهير الأرض من المسلمين، الذين يريدون منازعتنا في أرض الميعاد، يجب أن تثبتوا لهم أنكم قادرون على اجتثاثهم منَ الأرض، يجب أن نتخلَّص منهم كما يتم التخلص من الميكروبات والجراثيم»! وهكذا فإن المسلمين عند هذا السفاح «ميكروبات وجراثيم» تجب إبادتهم جميعاً دون استثناء، مثلما وصف وزير دفاعهم الحالي يوآف غالانت الشعب الفلسطيني بأنهم «حيوانات بشرية»!
ويحرض بهروز يوسيان، الباحث الصهيوني، من أصول إيرانية، قائلاً: على «إسرائيل» القتال بلا رحمة، وبلا أخلاق، ودون شفقة، على الجثث أن تتراكم لننتقم من غزة!
بيجين يفخر بمشاركته في المجازر
لقد ارتكب الصهاينة أكثر من ألف مجزرة منذ بدء عدوانهم في 8 أكتوبر 2023م، وما زالت المجزرة الكبرى مستمرة، ومن يراجع سجل المذابح الصهيونية ضد العرب يكتشف بسهولة الأجواء التي ترتكب فيها هذه الجريمة الكبرى، فمذبحة «دير ياسين» التي دارت وقائعها في الساعات الأولى من صباح 10 أبريل 1948م، بينما كان الضحايا نائمين، حيث داهمتهم فرق الموت الصهيونية من منظمة «الهاجاناه» وأعملت فيهم آلة القتل حتى أشبعت عقدتها ارتواءً من دماء أكثر من 250 من الأطفال والمدنيين الأبرياء الذين تحولت جثثهم إلى قطع وأشلاء دون الحاجة إلى طائرات «الأباتشي»! ثم راح المجرمون يلقون بهم في بئر القرية بعد أن مثلوا بجثثهم، مسجلين الفصل الأخير من «احتفاليتهم» الدموية التي امتلؤوا فيها نشوة وطرباً، حتى قال قائدهم ينشورين شيف بعد المذبحة معبراً عن حالة الشبع الكبير من الدماء ونشوة القتل: «كان ذلك النهار يوم ربيع جميل رائع، وكانت أشجار اللوز قد اكتمل تفتح زهرها، ولكن رائحة الموت الكريهة كانت تأتي من كل ناحية في القرية»، أن تقتل طفلاً بريئاً فتلك جريمة كبرى، أما أن تمثل بجثته فذلك ما يشيب له الولدان وينبئ عن نفسية مزاجها الوحشية والهبوط للدرك الأسفل من الخسة وهو ما تستحيي منه الحيوانات!
وقد سجل مناحم بيجين، رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق، ورجل السلام! رؤيته عن تلك المجزرة التي افتخر كثيراً بالمشاركة فيها، قائلاً في مذكراته: «إن العرب دافعوا عن بيوتهم ونسائهم وأطفالهم بقوة، وكان لهذه العملية نتائج كبيرة غير متوقعة؛ فقد أصيب العرب بعد أخبار دير ياسين بهلع قوي فأخذوا يفرون مذعورين، وهم يصرخون: دير ياسين..! فمن أصل 800 ألف عربي كانوا يعيشون على أرض «إسرائيل» (فلسطين المحتلة عام 1948م) لم يبق سوى 165 ألفاً».
ثم عاب بيجين على من تبرأ منها من زعماء اليهود، واتهمهم بالرياء! بقوله: «إن مذبحة دير ياسين تسببت بانتصارات حاسمة في ميدان المعركة، فدولة «إسرائيل» ما كانت لتقوم لولا الانتصار في دير ياسين»! وهذا عين ما يجري في شمال غزة اليوم ومحاولة طرد سكانها إلى الشتات، الانتصار الحقيقي عندهم يتمثل في القتل الجماعي للمدنيين الأبرياء.
نفس السيناريو جرى مع مذبحة كفر قاسم، وغيرها في فلسطين المحتلة، ثم مذابح صبرا وشاتيلا، وقانا، ومروحين، وصور، والبقية تأتي في لبنان، أسلوب التنفيذ الوحشي واحد، وهو مباغتة الضحية وهي مجردة من أي سلاح، ثم إعمال القتل فيها بلا رحمة؛ استجابة لـ«عقدة» الحقد الأسود وإطفاء للظى ناره المستعرة في قلوبهم.
اليهودي عند الله أكثر من الملائكة!
إن القتل في الحروب وارد، لكن في كل المذابح التي مرت بفلسطين ولبنان، تم القتل فيها وفق طقوس الغدر، وبطريقة مشبعة بالتشفي من أناس أبرياء، وليس هناك لغز في الأمر، فكل ما سبق الكلام عنه هو التفسير الموضوعي لحقيقة النفسية الصهيونية ودواخلها المليئة بالعقد حيال كل ما هو عربي مسلم، وهو في الوقت نفسه شرح لتلك «العقيدة» الفاسدة التي تشكل هذه النفسية! عقيدة قائمة على حشد هائل من نصوص التلمود والتوراة المحرَّفة، التي يرضعها اليهودي صغيراً في «الجيتو» من صدر أمه، لينفث سمومها على خلق الله -خاصة العرب- عندما يشب عن الطوق، ففي تلمودهم المحرف: «إن اليهودي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، وإن اليهودي جزء من الله! فإذا ضرب أممي إسرائيلياً فكأنه ضرب العزة الإلهية! (تعالى الله عما يقولون) والفرق بين درجة الإنسان والحيوان هو بقدر الفرق بين اليهود وغير اليهود»، «لتنزل وراء الفلسطينيين ليلاً وتمهلهم إلى ضوء الصباح ولا تبق منهم أحداً» (سفر صموئيل: الإصحاح 14)، «الآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكر اقتلوها» (سفر العدد: الإصحاح 31)!
ويقول جابوتنسكي، مؤسس الحركة الصهيونية التصحيحية، مخاطباً كل يهودي: «كل إنسان على خطأ، وأنت وحدك على صواب، لا تحاول أن تجد أعذاراً من أجل ذلك، فهي غير ضرورية وغير صحيحة، لا توجد في العالم إلا حقيقة واحدة وهي بكاملها ملكك أنت»، وأخيراً: «إن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذين يستبقون أشواكاً في أعينكم، ومناخس في جوانبكم» (سفر العدد: الإصحاح 33).
وحتى يكون الأمر أكثر جلاء، أتوقف أمام ذلك البيان الذي بثته «القناة السابعة» بالتلفاز الصهيوني يوم 17/ 7/ 2006م، الصادر عن مجلس الحاخامات في الضفة الغربية المحتلة، ويدعو فيه الحكومة الصهيونية إلى إصدار أوامرها بقتل المدنيين اللبنانيين والفلسطينيين بصفتهم موالين للعدو، مؤكداً أن التوراة تجيز قتل الأطفال والنساء في زمن الحرب.
وقال بيان الحاخامات: «إن الذي يترحم على أطفال غزة ولبنان فإنه يقسو بشكل مباشر على أطفال إسرائيل»!
لا أدري إن كان للشيطان أن يصدر بيانات، هل كان يصدر بياناً أبشع من بيان الحاخامات هذا؟!
ولنتأمل هذا النص اليهودي المفعم بالدعوة للإبادة الجماعية: «ونهب الإسرائيليون لأنفسهم كل غنائم تلك المدن، أما الرجال فقتلوهم بحد السيف فلم يبق منهم حي» (سفر يشوع 11).
التاريخ يفضح تزويرهم
إن التاريخ يفضح دائماً كذب المزورين ويشهد بأن اليهود ارتكبوا في فلسطين أكثر من مائتين وخمسين مجزرة بدءاً من العام 1937م، تضاف إليها اليوم أكثر من ألف مجزرة يشاهدها العالم على الهواء مباشرة دون تحريك ساكن حيث تقف غزة الصامدة الصابرة تقاوم وحدها.
وفي لبنان ارتكبوا منذ عام 1948م حتى العام 1996م عشرين مجزرة، بدأت بمجزرة مسجد صلحا، وكان آخرها مجازر قانا الثانية وقرية مروحين وصور وبنت جبيل ومارون الراس وصريفا عام 2006م، ثم عادت وتيرة المذابح لتتسارع يومياً على أرض فلسطين من الخليل وجنين ونابلس إلى غزة، وما زالت الأنقاض تخبئ أخباراً مفجعة عن مجازر يشيب لها الولدان.
وفي السجل المتخم بالمذابح الصهيونية في فلسطين ولبنان ومصر حيث مذبحة الأسرى المصريين في حرب عام 1967م، ومذبحة مدرسة بحر البقر في العام نفسه، لم تشر الوقائع والبيانات المسجلة إلى أن مجزرة واحدة منها وقعت بطريق الخطأ، وإنما بتخطيط مسبق مع سبق الإصرار، وليست هناك مجزرة واحدة وقعت بحق مقاومين أو مقاتلين، وإنما كلها بحق مدنيين أبرياء وعلى حين غرة منهم، في الأسواق، أو في القرى وهم نائمون، لأن بني صهيون أجبن من أن يواجهوا عدوهم في ميدان القتال كما نشاهد اليوم على أرض غزة، وقد شهد أغلب تلك المجازر تمثيلاً بجثث الأطفال والنساء.
وغني عن البيان، فإن كل القادة الصهاينة الذين ارتكبوا المجازر بحق الشعب الفلسطيني أو اللبناني يتفاخرون بها، وينالون في الوقت نفسه جوائز قيمة من المجتمع الصهيوني، إذ يخرجون من الجيش ليصبحوا قادة سياسيين للأحزاب أو للدولة، ونادراً ما دفع مسؤول «إسرائيلي» الثمن عن مجزرة ارتكبها، مثل: بيجين، وشارون، وبيريز.. وغيرهم، كما أن ما اقترفه أولمرت، وإيهود باراك، ونتنياهو من مجازر كانت مؤهلات لشق الطريق الي حكم الكيان الصهيوني!
«عقدة» صهيونية تجمع كل أمراضهم
واليوم، وبينما تواصل الصواريخ دك غزة الصامدة، أتوقفت طويلاً أمام ما جرى لأولئك الأبرياء من النسوة والأطفال والمسنين في مجمع الشفاء الطبي وباقي مستشفيات غزة والمخيمات ومدارس «الأونروا» علهم يجدون أماناً، فلا أمان ولا ملجأ، بل تتجلى «العقدة» الصهيونية، فتنهمر عليهم الصواريخ لتشبعهم قتلاً، وليشبع بنو صهيون شرباً من دمائهم البريئة على مرأى ومسمع من العالم أجمع!
وفي لحظة ضعف الضحية تتجلى «عقدة التعطش للدماء»، وتبرز كالأفعى وتنقض على فريستها بالصواريخ والقنابل المحرمة دولياً؛ فتحول الجميع إلى أكوام من اللحم الغارق في الدماء لتشرب منه الأفعى الصهيونية دون شبع!
إنها «عقيدة» الصهاينة، التي تحرك كل ذلك الإجرام، وتدفعهم إلى رفض أي شريك لهم في الحياة على الأرض، وإن قبلوا فيحرصون على أن يكون كل شيء مسخّراً لنزواتهم؛ «عقيدة» تحولت إلى «عقدة» صارت تتضخم وتتدحرج في كوامنهم عبر حركة التاريخ، جامعة كل أمراضهم وأدرانهم النفسية، ولئن كانت هناك دماء تجري في عروقهم فإنها مشبّعة بسموم قاتلة لذلك العربي المسلم، خاصة الذي ينغص عليهم حياتهم، وهو يدافع عن وجوده وعرضه وأرضه التي التهموها.
ومن هنا، فإن ما يدور ليست حرباً، فللحرب أخلاق وقيم يراعيها المتحاربون، لكن هؤلاء أدخلوا إلى القاموس لغة ومبادئ جديدة، تخجل الخسة والوحشية منها، وأكثر من الخسة والدناءة رعاية الغرب بقيادة الولايات المتحدة لها وإعلان حمايتهم الفاجرة للصهاينة وسط غضبة شعوب العالم وصمت معظم حكوماته، ولا أجد وصفاً ولا كلمات أخس من الخسة لموقف أنظمة عربية مسلمة لا تكف عن ترديد بيانات الدعم لفلسطين ولكنها على أرض الواقع باعت وطنيتها فطبعت وباعت دينها فتصهينت وباعت شرفها فانهمكت في حفل الرقص على جثث أطفال فلسطين، إرضاء لحثالة البشر: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة: 120).
وبعد.. أين هذا من أخلاق الإسلام وقيمه خلال الحرب التي يخلدها التاريخ في قول النبي صلى الله عليه وسلم للجيش المسلم: «انطلقوا باسمِ اللهِ وعلى ملَّةِ رسولِ اللهِ، لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلًا ولا صغيرًا ولا امرأةً ولا تغلوا وضموا غنائِمَكم وأصلحوا وأحسنوا إنَّ اللهَ يحبُّ المحسنين».
إن غزة لن تكون المذبحة الأخيرة طالما بقي صهيوني بيننا، وطالما بقي بيننا المنهزمون والمنبطحون من دعاة الانكسار الخونة، إنه صراع الوجود!
__________________________
مدير تحرير مجلة «المجتمع» الكويتية، و«الشعب» المصرية– سابقاً.