بعد مرور قرابة شهر ونصف الشهر على العملية البطولية «طوفان الأقصى» التي قام بها رجال المقاومة الإسلامية ضد جحافل الكيان الصهيوني، ما زال البعض يقول: إن المقاومة هي التي أثارت الكيان الصهيوني بعملية «طوفان الأقصى»، وأنها جنت على الفلسطينيين وتسببت بعملها هذا في سفك دمائهم وتهجيرهم!
لا نحتاج إلى كثير جهد للرد على هذه الشبهة التي أثارها هؤلاء الذين يبحثون عن المبررات التي تبرر تقاعسهم وخذلانهم للشعب الفلسطيني.
وقد تولى العالم الفلسطيني د. محمد الأسطل الرد على هذه الشبهة منذ اليوم التاسع من عملية «طوفان الأقصى»، حيث قال تحت عنوان «لماذا اختار المجاهدون الهجوم على العدو رغم علمهم برد فعله؟»:
لست ممن يعتني بالردِّ على أيِّ لغطٍ يُثار في أيِّ قضيةٍ على وسائل التواصل؛ إجلالًا للمقام العلمي، وضنًّا بالوقت أن يذهب في غير فائدة أو فيما فائدته محدودة.
وفي الأيام الماضية، سألني بعض الإخوة عمن يقول: إنه لا حاجة لاستفزاز العدو الصهــيــوني لئلا يردَّ هذا الرد.
واستثناءً مما ألتزمه في نفسي أجيب جوابًا سريعًا بما ينقدح في الخاطر؛ لأنَّ عنايتي غير متوفرة للجواب عن ذلك في مثل هذا الظرف فأقول:
هذه أربعة أسباب فقط بين يديك:
الأول:
إن العدو آخذٌ في تدنيس المسجــد الأقصــى وتهويده وبناء الهيكل بقفزات سريعة غير مسبوقة، فما كان يقطعه من الخطوات في سنتين أو ثلاث صار يقطعه اليوم في أسبوعين أو ثلاثة، مع ما يتضمنه ذلك من إهانةٍ للمقدسيين وإذلالٍ لهم وتنكيل بهم واعتقال لفضلائهم.
هذا فضلًا عن الحَجْرِ على فئات كثيرة لم يعد بوسعها أن تصل للمسجــد الأقــصى للصلاة فيه، وكان هناك في حدود 50 حلقة علمية في المسجد كلها مُنِعت من سنين.
وفي الأيام التي سبقت «طوفان الأقصى» دنس المسجــد الأقصــى قرابة خمسة آلاف مستوطن إن لم يكن أكثر، وهذا هو العدد الأكبر الذي يحصل خلال أيام قليلة ولم يحصل مثله من عشرين سنة، فجاءت هذه العملية للرد على هذا التدنيس والتهويد المتزايد، ودلالة ذلك ظاهرةٌ في اسم المعركة «طــوفــان الأقصــى».
الثاني:
إن العدو يمارس علينا عمليات موتٍ بطيء منذ خمس عشرة سنة، وعندنا جيلٌ شبابيٌّ كامل وُلِد داخل الأزمة، وجيل العشرينيات والثلاثينيات في أكثره معطلٌ في عامة جوانب حياته، وكثيرٌ منهم لا يستطيع أن يتم تعليمه، ولا أن يتزوج ولا أن يبني بيتًا ولا أن يجد وظيفة.
وهذا كله ورَّث المجتمع كثيراً من المشكلات الاجتماعية، فالبطالة تزيد والعنوسة تزيد، وقائمة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية تطول وتطول.
ومؤخرًا هاجر من البلد عشرات الآلاف إلى بلاد الغرب ليجدوا شيئًا من القوت الذي يقتاتون به، وهناك العشرات أو المئات ابتلعتهم الحيتان والأسماك في البحر، مع أن غاية ذهابهم الانتقال من أزمة إلى أزمة.
الثالث:
إن العدو يعذِّب سادتنا الأسرى، وكثيرٌ منهم يموت كل يوم مرات ومرات، ولك أن تتخيل أن بعضهم يعيش في متر ونصف متر منذ ثلاث عشرة سنة، وبعض الأسرى يتم إدخالهم إلى زنازين ملطخة جدرانها بالبراز، ويبقى الأسير في تنظيفها يومين أو ثلاثة في حالةٍ كئيبةٍ من الأذى وربما الانهيار النفسي!
هذا مع تعرية الأسير من الملابس، وضربه، فإذا انتهى من التنظيف نُقِل إلى زنزانةٍ أخرى ليعيد نفس الدور في كثيرٍ من الأحيان.
وقد بلغت الحال بالأسرى في المرحلة الأخيرة حدًّا لا يطاق، وبدؤوا يشعرون أن الأمة خذلتهم، وأنه لا أحد يشعر بشعورهم أو بمصابهم، بل لا يعلم بما يجري لهم!
ومع تصاعد خط التطرف الديني في الحكومة الصهــيونــية بقيادة بن غفير ومن على شاكلته؛ ازداد الجحيم بالنسبة لهم، حتى وصل لحدٍّ لا يُطاق فعلًا.
وبدأت الأصوات في الأشهر الماضية تتعالى بضرورة العمل على تحريرهم واستنقاذهم من هذا الهوان.
أضف إلى ذلك ما تتعرض له الأسيرات من أفعال مهينة خادشة للدين والعفة والحياء مما لا أحب التطرق له هنا.
فجاءت هذه العملية لتضع حدًّا لهذه المآسي التي لا تكاد تنتهي.
الرابع:
و«هذا هو أخطر الأسباب»؛ حيث صرَّحت المقاومــة أنها استطاعت الوصول إلى معلومات سرية تكشف عن استعداد العدو لشن هجمة شرسة ضد قطاع غزة، بحيث تكون قاصمة، فأرادت المقاومـة أن تُفوِّت عليهم الفرصة، وأن تحرمهم من مكتسبات المباغتة، بل أرادت أن تكون مكتسبات المباغتة بيدها هي لا بيد العدو.
ومن ثم جاء هذا الهجوم الكاسح ليحقق عدة أغراض مجتمعة.
وقد مررنا بتجربة شبيهة في حرب عام 2014م؛ إذ استقر عند المقاومة أن العدو يريد أن يشن حربًا قاصمة على غزة، فبدأت تستفزه بعشرات الصــواريــخ خلال يومين من غير إعلان رسمي، حتى اضطر للدخول من غير أن يقدر على تحقق المكتسبات التي يتمكن من إنجازها عبر المباغتة من مثل قتل أكبر عدد من القادة، أو مئات الجنود أثناء دورات التدريب وما إلى ذلك.
هذه أربعة أسباب كتبتها على عجل تحت أصوات الطائرات والصـواريــخ، لأقول بعدها:
إن أهل الثغور أدرى بأحوالهم، وحق الذي لا يعلم أن يسأل قبل أن يستقر على رأي، وهذا مقتضى الحكمة، ولا يُمنع من هو خارج البلد من أن يفتي في أمر البلد؛ ولكن بعد أن يستكمل أدوات العلم بالواقع كما هو معلومٌ من شروط الفتوى.
وإني لأكتب على ضيقٍ في الصدر؛ فإن وقت الأزمات وقت نصرة لا وقت نقدٍ وتقييم، وإن من تشبَّع برواية الأنظمة المستبدة التي تتبنى الرواية الصهـيونــية نفسها لن يقتنع، بل يكون متحفزًا للرد على كل من يقترب من قناعاته لئلا تُمس، ومن ثم فلا كبير نفع في مثل هذه المناقشات.
ونحن من سنين وسنين وعينا ما أخبرتنا به النصوص النبوية من وجود الفئة الخاذلة، وأخبرتنا النصوص كذلك أن أهل الثغور لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم بإذن الله.
وعندي يقين تامٌّ أن بعض الناس لا يهمه أن يبقى شعب بأكمله تحت الذل والهوان والطحن والفقر والأسرى وتدنيس المسرى والتنكيل بالأسرى، فكأن هذه الحالة هي الحالة الطبيعية التي ينبغي التعايش معها، ولست أدري من هو هذا الباطل الذي يسمح لك بالقضاء عليه ثم هو صامتٌ يعاملك بذوقٍ ولطف!
أسأل الله جل جلاله أن ينصرنا على ما نحن عليه من ضعف، وأن يغنينا على ما نحن عليه من حاجة وفقر، وأن يُمَكِّنَ لنا على ما نحن عليه من عجز، وأن يعزنا على ما نحن فيه من ذلة، وألا يجعل لأحدٍ من المرجفين أو المخذلين علينا منة(1).
(وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).
_____________________________
(1) العلَّامة الفلسطيني د. محمد بن محمد الأسطل، من داخل غزة، الأحد 30 ربيع الأول 1445هــ/ 15 أكتوبر 2023م.