الحزن يقلق والتجمل يردع والدمع بينهما عصي طيع
وأخيراً، هوى النجم الساطع، وغابت الشمس المشرقة، وطُوي العلم المنشور، واندك الجبل الأشم، وترجَّل الفارس المعلم، مات علم الأعلام، وشيخ البيان، وداعي الخلق إلى هداية الرحمن.
لقد لامني عند القبور على البكا رفيقي لتذراف الدموع السوافك
قال: أتبكي كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له: إن الأسى يبعث الأسى فدعني فهذا كله قبر مالك
رحل شيخنا المبجل وحبيبنا الأثير أبو محمد، بعد رحلة مباركة من علم نافع وعمل صالح، فقد نشأ في بيت دين وفضل، وبيئة شاعرة ناطقة، فنسج على منوالها ودرج، ثم وافى علم العربية وإمامها العلَّامة عبدالله الطيب؛ فأفاد منه علماً جماً وحظاً من الفضل موفوراً، وغدا خليفته بلا منازع حتى وافى دراسته العليا في إدنبرة وجعل أطروحته حول الإمام الطبري، وعاد أدراجه إلى جامعة الخرطوم التي بادلها وداً بود، وأفاء على طلابه علماً نيراً وأدباً جماً، وفسر القرآن الكريم كاملاً في الإذاعة بالفصيح، إضافة إلى دروس السيرة النبوية في التلفاز، مع نشاط دعوي واسع في ربوع السودان الفسيح، ومشاركات علمية في مختلف الدول والقارات.
وقاد ركب الدعوة بحكمة وبصيرة، وقد أوتي شيخنا سماحة في الخلق، ورزانة في الطبع، وتواضعاً في السجية، موطأ الأكناف، ممهد السبيل، يألف ويؤلف، خفيض الجناح، خفيف الظل، باسم الثغر، لذيذ المفاكهة، له إمتاع ومؤانسة، ومداعبة ومؤاخاة، وصدق ووفاء، خلَّف أسرة من كرام الأبناء البررة الذين درجوا على منواله ونسجوا، وزوجة صالحة هي أم امتثال التي كان حفياً بها وكانت حفية به، كما كان ثاوياً يحمل هموم أمته ووطنه ودعوته بهمة متوثبة، وعزيمة ماضية، فقده جلل ومصابه عظيم.
وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما
ودعا أيها الحفيان ذاك الشخص إن الوادع أيسر زاد
واغسلاه بالدمع أن كان طهراً وادفناه بين الحشى والفؤاد
إن موت الأكياس نقص للأرض من أطرافها، ألا رحم الله شيخنا الحبيب وأستاذنا الأثير وصديقنا المبجل أبا المحاسن والفضائل، أبا محمد، رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وتقبله في الصالحين، وأنزله منازل الأبرار، وأخلفه خيراً في زوجته الفضلى أسماء، وأبنائه محمد، وأبي بكر، وعمر، وامتثال، ووداد، وآلاء، ومهاة، والأسرة الكريمة الآل الطيبين.
اللهم نور مرقده، وطيّب مضجعه، وآنس وحشته، وارحم غربته، ويمّن كتابه، ويسّر حسابه، وأنزل السكينة على أسرته، وأخلفه وأهله ودعوته ووطنه والأمة خيراً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.