المقاطعة إحدى الأدوات الناعمة من أدوات المواجهة بين خصمين، وبإمكانها تحقيق نتائج جيدة إذ انخرطت فيها أعداد ضخمة لمدة زمنية ممتدة، فالمال والاقتصاد عماد العلاقات الدولية، بل إن المكانة الدولية والإقليمية صارت تتحد بناء على معطيات الاقتصاد، ولم تعد تؤسس على اعتبارات الجغرافيا أو القوة المسلحة، كما كانت الحال في الماضي.
ولقد كانت الاعتبارات الاقتصادية حاضرة منذ اللحظة التأسيسية للدعوة الإسلامية، حين حوصر المسلمون في شعب أبي طالب، وحين ذهب الصحابي ثمامة بن أثال إلى مكة لإعلان إسلامه، وعاتبه القرشيون، فقال لهم: «والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن رسول الله».
كما كانت ماثلة لدى أئمة الإسلام والفقهاء الذين أدركوا أن منع بيع ما يتقوى به العدو في حربه على المسلمين -أي مقاطعته- هو مبدأ شرعي، يقول الإمام مالك في «المدونة»: إن «كل ما هو قوة على أهل الإسلام مما يتقوون به في حروبهم من كراع أو سلاح أو خرثي أو شيء مما يعلم أنه قوة في الحرب من نحاس أو غيره فإنهم لا يُباعون ذلك»، وذات المعنى ينص عليه ابن حزم في «المحلى»: «ولا يحل أن يحمل إليهم السلاح ولا خيل ولا شيء يتقوون به على المسلمين»، وحين سئل ابن تيمية عن جواز معاملة التتار أجاب: يجوز فيها ما يجوز في غيرهم ويحرم فيها ما يحرم من معاملة أمثالهم، فيجوز أن يبتاع منهم وأن يبيعهم، ثم استطرد قائلاً: «فأما إن باعهم أو باع غيرهم ما يعينهم به على المحرمات، كبيع الخيل والسلاح على أن يقاتل به قتالاً محرماً فهذا لا يجوز».
ويفهم من كلامهم أن كل ممارسة تفضي إلى تقوية العدو غير جائزة؛ سواء كانت بيعاً لهم أم شراء منهم، وإذا كان كلامهم متعلقاً بالبيع فذلك لأنه لم يكن يتصور حينها أن تصبح أمة الإسلام الداعم الأول لاقتصاديات عدوها بشراء كل ما يلزمها منهم.
ولم يكن تنظير العلماء منفصلاً عن الواقع الإسلامي، إذ التزم المسلمون عبر تاريخهم بمبدأ الامتناع عن تقوية عدوهم، بل تجاوزوا وفرضوا عليه حصاراً اقتصادياً إبان الحروب الصليبية، وأما في العصر الحديث فقد تمسك المسلمون مرات عدة بمبدأ المقاطعة، وكانت لهم تجارب يمكن أن نخير منها تجربتين:
1- التجربة الإيرانية:
وتتمثل في «ثورة التنباك» أو التبغ، وتعود وقائعها إلى عام 1890م، حين وقع شاه إيران ناصر الدين شاه اتفاقاً يمنح احتكار تجارة التنباك الإيراني لشركة بريطانية يرأسها جيرالد تالبوت، أحد المقربين من رئيس الوزراء البريطاني اللورد سالسبوري، وينص الاتفاق على احتكار التبغ بدءاً من الزراعة والحصاد إلى البيع محلياً والتصدير خارجياً لمدة 50 عاماً، وبمقتضى هذا الاتفاق يجبر المزارعون على بيع كامل المحصول إلى الشركة المحتكرة لقاء منح الشاه 15 ألف جنيه إسترليني، و25% من أرباح الشركة سنوياً، وكان إنفاذ هذا الاتفاق يعني أن خمس السكان الإيرانيين العاملين في قطاع التبغ سوف يتضررون اقتصادياً.
تناثرت أنباء الاتفاق خارج إيران، وكان لها تداعياتها؛ إذ قام جمال الدين الأفغاني بتوجيه رسالة إلى المرجع العراقي ميرزا حسن الشيرازي يحثه فيها على ضرورة التصدي لشاه إيران ناصر الدين الذي فتح أبواب إيران على مصراعيها أمام تغلغل النفوذ الاقتصادي الأجنبي، وباع القسم الأعظم من البلاد الإيرانية ومنافعها والمعادن والسبل الموصلة إليها، والطرق الجامعة بينها وبين تخوم البلاد والخانات التي تبنى على جوانب تلك المسالك الشاسعة إلى «البنك الشاهستاني» الذي أسسه الإنجليز، واصفاً ذلك بأنه بمثابة بيع ممالك الإسلام في المزاد إلى الأجانب.
لقيت هذه الرسالة قبولاً من المرجعية الدينية التي اعتزمت التصدي لسياسات الشاه، فكان أن أصدر ميرزا شيرازي فتواه التي حرم فيها التنباك التي مهدت لخروج الإيرانيين إلى التظاهر حتى اضطر الشاه إلى التراجع عن الاتفاق ودفع تعويضاً مالياً للشركة البريطانية.
2- التجربة الفلسطينية:
وأما التجربة الفلسطينية فتعود جذورها إلى مطالع القرن العشرين على إثر ازدياد وتيرة الهجرات اليهودية إلى الأراضي الفلسطينية واستيلائهم على الأراضي الفلسطينية، وما أحدثته من أضرار اقتصادية نتيجة عدم القدرة على منافسة الإنتاج اليهودي المتوقع، وقد شهد عام 1910م أول دعوة لمقاطعة البضائع اليهودية، وحملت لواءها الصحف الفلسطينية الوليدة مثل «فلسطين»، و«الكرمل» التي قرنت بين المقاطعة والدعوة إلى الارتقاء بالصناعة الوطنية باعتبارها شرطاً لازماً لنجاح المقاطعة.
نشرت «الكرمل» بياناً وصلها من القدس في يوليو 1914م تحت عنوان «نداء عام إلى الفلسطينيين»، أشارت فيه إلى وسائل مقاومة الصهيونية، ومن ضمنها محاولة تطوير الصناعات المحلية الفلسطينية حتى تستطيع منافسة الإنتاج العبري، ودعا إلى عدم التعاطي مع الصهاينة؛ «فلا تتعاملوا تجارياً إلا مع مواطنيكم كما يفعلون هم، فهم لا يتعاملون مع المسلمين والمسيحيين، وإياكم أن تبيعوهم أراضيكم ولا تتردوا في منع الفلاحين بالقوة من بيع أراضيهم».
أثمرت مجهودات الصحف عن ظهور بعض الجمعيات الفلسطينية التي استهدفت نشر التوعية وتقوية الصناعة الوطنية، وكان من أبرزها «جمعية مقاومة الصهيونية» التي عملت على تنشيط المشروعات الاقتصادية والتجارية والزراعية، وتوعية الفلاحين بأخطار الصهيونية، و«الجمعية الإسلامية المسيحية» في نابلس التي دعت في مؤتمر عام عقدته عام 1920م إلى مقاطعة اليهود والحيلولة دون إسكانهم أو إدخالهم مدينة نابلس وضواحيها، والاستمرار في المقاطعة حتى لا يبقى أثر للفكرة الصهيونية، وبهذا المؤتمر تكون الدعوة للمقاطعة قد شبت عن الطوق وتجاوزت مرحلة النداءات والمقالات إلى مرحلة العمل المنظم، ففي السنوات التالية كانت كل المدن الفلسطينية تقريباً تشهد مؤتمراً وطنياً، وكلها تُجمع على اعتبار المقاطعة بنداً أساسياً من قرارات تلك المؤتمرات.
والراجح أن المقاطعة ازدادت فاعليتها مع تبني المؤتمرات الوطنية الفلسطينية لها، حيث رصد تأثيراتها المندوب السامي البريطاني في فلسطين حين كتب في مايو 1921م ما نصه: «إن مقاطعة جميع السلع اليهودية قد انتشرت بين الفلسطينيين»، وقد تركت هذه المقاطعة آثارها السلبية لدى اليهود في «تل أبيب»، وأدت إلى ارتفاع الأسعار في المدينة؛ الأمر الذي دعا رئيس بلديتها اليهودي أن يطلب من الجمعية الإسلامية المسيحية أن تكف عن تحريض الأهالي على المقاطعة، وتذيع بياناً تدعوهم فيه إلى بيع اليهود والشراء منهم، غير أن الجمعية أصمت أذنها عنه واستمرت تحرض الأهالي على المقاطعة.
ومع حلول عام 1929م، ازدادت حركة المقاطعة مع تأليف لجنة عربية لمقاطعة التجار والبضائع اليهودية في مدينة القدس وانتشارها بقية المدن الفلسطينية، ومع قيام الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936م، عقد مؤتمر كبير في مايو حضره التجار، وتقرر فيه إنشاء غرفة تجارية عربية تضطلع بمهمة إنشاء الوكالات التجارية للمصانع الأوروبية حتى يستغني العرب عن الوكلاء اليهود.
وهذه التحركات الفلسطينية تشير إلى أن الفلسطينيين اعتمدوا المقاطعة ضمن وسائل المقاومة منذ وقت مبكر، وأن قرار جامعة الدول العربية باعتماد مبدأ المقاطعة لاحقاً لم يكن أول تطبيق لمبدأ المقاطعة الاقتصادية في الحالة الفلسطينية.