لم نعد اليوم بحاجة إلى تَكَلُّفِ النظر والمبالغة في التعمق؛ فقد أغنانا الحدث نفسه عن التقعر والتفيهق، فهل هي بركة الجهاد الذي رفع القرآنُ عنّا عَنَاءَ التنطع في حسابات مآلاته في هذه الآية: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)؟ أم إنّ الرباط في سبيل الله والجهاد لإعلاء كلمة الله يُجْلِي البصيرة فيرفع القائمين به على القاعدين عنه درجات في النظر للمآلات؟ أم إنّ التفكير والتدبير من الوضع المتحرك يمنح الفكرة ديناميكية تجعلها أقدر على الاشتباك الرشيد؟
ربما اجتمعت كل هذه العوامل لتصل بالحالة الإسلامية والعالمية إلى مستوى من القناعة بعظمة المقاومة عموماً، وعظمة «طوفان الأقصى» على وجه الخصوص؛ فلْتكُفّ الألسنةُ عن التحليل ولتتوقف الأقلام عن التعليل، ولنتأمل الدرس الآن.
المقاومة الفلسطينية جهادُ دفعٍ لا يُشترط الاستطاعة بل الإعداد
المقاومة.. وجهاد الدفع
ينبغي أولاً وقبل كل شيء ألا ننسى أنّ المقاومة الفلسطينية عموماً، والغزّاوية خصوصاً، تُعَدُّ من جنس جهاد الدفع، الذي لا يُشترط له ما يُشترط لجهاد الطلب والفتح من الاستطاعة التي تبلغ مستوى توقع الظفر، وإنّما يشترط لها الإعداد بقدر الاستطاعة وحَسْب، قال تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ) الآية (الأنفال: 60)، أمّا جهاد الغزو والفتح فيشترط له مع الإعداد توقعَ الظفَرِ بغلَبةِ الظن، وليس تكافؤ القوى أو توازن القوى كما يدعي المخذلون، وجهاد الدفع واجب وجوباً عينياً، فلا يُنتظَر له إذنُ الإمام ولا إذنُ الوالدين ولا إذن الدائن، وتخرج المرأة بغير إذن زوجها والعبد بغير إذن سيده؛ للذب عن بيضة الإسلام.
ضرورة استمرار العمل المقاوِم
ومن لوازم جهاد الدفع أنّه إذا كان ردُّ المعتدي عن بلاد الإسلام يستغرق زمناً طويلاً ومراحل متتابعة؛ فلا بد من تواصل المقاومة وتتابع حلقاتها، إذْ إنّ النتيجة النهائية لهذه المقاومة تراكمية، فإذا تراخت وتباعدت حلقاتُها فإنّ هذا يعطي العدو الفرصةَ لالتقاط أنفاسه واستعادة قواه، بما يترتب عليه أن تضطر المقاومة في كل مرحلة لأنْ تبدأ من حيث بدأت سابقاً لا من حيث انتهت.
وهذا بالتأكيد ضرر ومفسدة أربى من كل ضرر نتوقعه، آيةُ ذلك نجدها في الواقع والتاريخ المعاصر، فإنّ ضعف المقاومة في الماضي قبل بزوغ فجر المقاومة الإسلامية على المستوى المحلي الفلسطيني، وعلى المستوى الإقليمي العربي، أعطى «إسرائيل» فرصة لتستفحل وتصير قوة نووية خارقة؛ وعليه فإنّ المقاومة الإسلامية في غزة بعد أن أعدت ما استطاعت، ولم يكن في مقدورها أن تُعِدَّ أكثر مما أعدت، لم يكن لها أن تنتظر ريثما يستفحل العدو أكثر من ذلك وينجح في تنفيذ مخططاته بإجراء التقسيم الزماني والمكاني للحرم، أو بهدمه تحت أيّ حجة، أو بتوجيه ضربة لغزة كانت -في بنك الخطط- وشيكة.
إذا كان ردُّ المعتدي يستغرق زمناً طويلاً فلا بد من تواصل المقاومة
المتوقَّع الذي قد لا يكون منه مَفَرّ
صحيح أنّ رد الفعل كان عنيفاً على أهل غزة، وقد يترتب عليه تدمير القطاع واستئصال المقاومة، هذا التوقع لم يمنع المقاومة من اتخاذ قرارها بهجمة السابع من أكتوبر؛ لعدة أسباب، أهمها جميعاً أنّه لم يكن لها أن تمتنع عن اتخاذ قرارها هذا، اتكاءً على توقع كهذا، أو بذريعة الحفاظ على المكتسبات، فكل مقاومة لأيّ معتدٍ طاردَتْها توقعاتٌ واعتبارات وحسابات كثيرة وكبيرة وخطيرة؛ فما توقفت ولا توانت، فلو كان الصواب هو التوقف لحاكمنا التاريخ الإنسانيّ كُلَّه، ولحكمنا عليه بالتزوير؛ إذْ كيف يمجد أفعالاً تسببت في قتل ملايين البشر على مدى التاريخ؟ ولألقينا في مزبلة التاريخ أمثال المختار، والمهدي، والخطابي وغيرهم من العظماء الذين خلَّدَ التاريخ ذكراهم؛ لكونهم أوردوا أقوامهم موارد الهلكة.
أزمة الموازنات الميتة
لا ريب أن الشريعة مبناها على مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأن الفقه في أسمى صوره أن يعلم الفقيه خير الخيرين وشرّ الشرين؛ ليختار أهون الشرين عند التزاحم، وليدفع أعظم المفسدتين بارتكاب أدناهما، ويحصل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما.
لكنّ الأزمة فيمن يدعي الفقه فيقوم بموازنة ميتة، موازنة لا تنظر في المصالح والمفاسد إلا إلى جانبها المادي فقط، ولا تحسب المنافع والمضار إلا بالنظر إلى الأمور الدنيوية وحسْب، فهؤلاء الذين لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا تَقْصُر أنظارهم عن إدراك ما وراء أستار المادة الميتة، فلا يبصرون المآلات العقدية والتربوية والقيمية التي يكون لها في الأجيال أثر كبير بالإيجاب عند ثبات المقاومة واستمرارها أو بالسلب عند وقوع العكس، ولقد رأينا المآلات الكبار تأتي بالخير العميم، فها هي الشعوب المسلمة ترفع رأسها وتميط الوهن.
المقاومة باقية لأن المجاهدين قدَّموا عربون الدوام من دمائهم
الممكن والمستحيل في النظر للمستقبل
من الممكن أن يقال اليوم: ماذا بعد غزة؟ ماذا بعد «حماس»؟ ماذا بعد «القسّام»؟ ومن المستحيل أن يقال اليوم: ماذا بعد «المقاومة»؟ وإنْ كنّا نحن نتوقع ونرجو لغزة و«حماس» و«القسام» البقاء والاستعصاء على الإفناء، وندعو الله تعالى لهم أن يبقيهم في نحور أعداء الأمة أقوياء أشداء، لكنّ التوقعات تأبى في نظر العقل أن تُطْرَدَ عن مساحة الممكنات.
أمّا المستحيل، بحسب سُنة الله تعالى، هو أن يقال اليوم: ماذا بعد «المقاومة»؟ لأنّ سُنة الله هكذا: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، فأما التثبيت فعاجل قطعاً، وأما النصر فيكون عاجلاً أو آجلاً، لكن من المستحيل ألا يكون، فلو، لا قدر الله، فني هؤلاء العظماء، فالمقاومة باقية والجهاد باق؛ لأن المقاوِمين المجاهدين قدَّموا عربون الدوام من دمائهم، واستداموا بدمائهم الزكية العمل الجهادي المقاوِم للظلم والبغي والطغيان والكفر المستبين، فهي عملية توريث وتسليم وتسلم، ولن تسقط الراية في عقر دار المؤمنين ما بقي في الأرض إيمان وكفر، والله المستعان.