السلام عليكم ورحمة الله وبركاته د، يحيى، تحية تقدير لمجلة «المجتمع» وصفحتها الرقمية المباركة، بوابة الخير والمعرفة الإسلامية، وخاصة ما تتناوله صفحة الأسرة.
أكتب إليكم، وأتمنى أن تحس بمشاعر الأم ولوعتها على ابنتها الوحيدة، نحن أسرة ولله الحمد ملتزمة، وأفاض الله علينا من النعم الكثير، فلله الحمد منَّ الله علينا أنا وزوجي بالمودة والرحمة، ورزقنا الله بثلاثة أولاد، ثم بعد ذلك بما يقرب من 12 عاماً رزقنا بزينة، وكانت حقاً زينة الأسرة، بل وعائلتنا الكبيرة، بمولدها توسعت شركة زوجي وأصبحنا نعيش في رغد من العيش.
تمتعت زينة بثمرة خبراتنا التربوية، ووهبها الله مع جمال الخَلْق حسن الخُلُق، وكانت ذكية حازت حب الجميع، وتحب القراءة وتناقش إخوانها الكبار، وكانت محل تقدير من مدرسيها لتفوقها العلمي، بالإضافة إلى أنشطتها الثقافية والاجتماعية.
اختارت دراسة القانون، وفي خلال دراستها الجامعية تقدم لخطبتها بعض المعارف، وكنا نرى أن البعض مناسب، ولكنها أسرَّت على عدم الارتباط إلا بعد الانتهاء من دراستها، الحمد لله تم تعيينها معيدة، كما هو متوقع، وحصلت على الماجستير والدكتوراة منذ 3 سنوات، بالإضافة إلى مشاركتها في أحد المكاتب الاستشارية.
ولعلك تتساءل، أستاذي الكريم: إذن، ما المشكلة؟
المشكلة أن زينة بعد أسبوعين ستبلغ الثلاثين ولم تتزوج بعد! ومع قناعتي العقلية بأنه لا فرق بين 29 و30 من عمر الإنسان مجرد سنة إضافية، إلا من الناحية النفسية، وجدت أن الرقم أرعبني، وكثيراً ما كنت أتساءل: لماذا زينة رغم كل ما وهبها الله تعالى من مزايا، وما أحطناها به من رعاية واهتمام، وبذلت هي من جهود حتى صارت بفضل الله نموذجاً للجمال والثقافة والأدب والعلم، لعلك تقول: رأي أُمٍّ في ابنتها! ولكن صدقني هذا رأي كل من يعرفها.
ولعلك تتساءل: إن فتاة بهذه المزايا سيتسابق إلى خطبتها خيرة الشباب، نعم تقدم إليها العديد من الشباب من ذوي المناصب والمال والمستوى الاجتماعي، ولكن بعد جلسة أو أكثر تعتذر! وعند مناقشتها يكون لديها كل الأدلة التي تقنعك بأن هذا الشاب الذي كنا نعتبره هو الأنسب غير مناسب البتة!
في رأيي، ابنتي دكتورة القانون، للأسف، من الصعب -لا أريد أن أقول استحالة- قناعتها بأي شاب، وهي التي كانت محل ثقة صديقاتها في مراحل زواجهن، أما بعد عملها فإنها تكاد تكون متخصصة في قضايا العلاقات الزوجية، وكثيراً ما ترجع من المكتب وهي مشحونة بالأسى من ظلم وجبروت الزوج، وتحكي لي معاناة الزوجة! وكيف أن الزوج لا يفهم من الشريعة غير حقه في التعدد والقوامة!
هذه حالي وتوجسي من أن تصبح ابنتي عانساً! حيث أصبح هاجسي في الليل والنهار، وأصبحت كلما رأيتها أشفقت عليها ودعوت وألححت على ربي أن أفرح بها مثل كل البنات الأقل منها حظاً في الجمال أو العلم أو الشخصية.
إن كل جيلها من الصديقات أو الجيران أو الأقارب قد أصبحن أمهات، ورغم قناعتي بمبرراتها في الاعتذار لمن سبق أن تقدموا لها، فإنني ندمت على ضياع هذه الفرص، حتى ولو كانت هناك مشكلات زوجية! لقد أصبحت أغبط صديقاتي عندما تشتكي إحداهن من سوء زوج ابنتها، أو أن أحفادها قد أتلفوا الحديقة، وأقول لها، في نفسي: احمدي الله أن ابنتك تزوجت بدلاً من أن تعيشي شبح عنوسة ابنتك!
أما عن حال زينة فيبدو أن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد، فهي مشغولة بكليتها في الصباح وبالمكتب في المساء، وكثيراً ما تقضي عطلة الأسبوع مع أولاد إخوانها بالنادي، ولا تعير أمر زواجها أي اهتمام.
إن السبب الذي جعلني أكتب إليكم، أن إحدى صديقاتي المقربات جداً مني كلمتني للمرة الثانية أنها رشحت زينة لابنها، حيث سبق أن تقدم لزينة منذ حوالي 5 سنوات، وأنا اعتذرت مباشرة دون أن أحدثها، وهو غير مناسب البتة! وما آلمني، وكأنها تسدي إليَّ نصيحة- ملمحة إلى أنها بلغت الثلاثين، ويجب ألا نضيع الفرصة، أصدقك القول، لقد اقتنعت بكلام صديقتي! ومتخوفة أن أعتذر، فلا يتقدم من هو خير منه والمناسب لابنتي، وكيف أوافق على زواجها من هو غير مناسب كلية لها؟ محتارة ومترددة!
فكرت في أن أعطي بياناتها للخاطبة، أو أسجلها في أحد المواقع الإلكترونية للزواج، فما رأيك؟ وهل أخبرها أم لا؟ رغم إنني أخاف من رد فعلها.
من قلب أُم هلوع على ابنتها.
التحليل:
لعل هذه الرسالة لا تعكس مشكلة اجتماعية بقدر ما تعكس مشكلة تتعلق بمفهوم وقيمة الزواج في مجتمعاتنا العربية.
إن الزواج يعد من بين أفضل النعم التي أنعم الله بها على البشر، وهو أمر فطري جُبل الخلق عليه، يعتبر الزواج سُنة من سنن الأنبياء والمرسلين، ومن أسباب استمرار البشرية واستدامة الحياة، لقد حث الشارع الحكيم على الزواج، واعتبره جزءاً أساسياً من الحياة الإنسانية، إذاً، يمكن القول: إن الإسلام يروّج للزواج كوسيلة لتحقيق التوازن والاستقرار الاجتماعي، ويشجع على الحياة الزوجية كأساس لبناء مجتمع مستقر ومتوازن، هناك عدة آيات قرآنية وأحاديث نبوية تبرز أهمية الزواج في الإسلام من بين هذه النصوص: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور: 32)؛ (وَأَنكِحُوا) هنا تعني تزوجوا، وهذا يشير إلى الأمر بالزواج.
ويقول الله تعالى: (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ) (النساء: 3)، عندما أراد بعض الصحابة أن يمتنعوا عن النكاح، نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأكد أهمية الزواج.
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»، ففي هذا الحديث يشجع النبي صلى الله عليه وسلم الشباب على الزواج كوسيلة للحفاظ على الأخلاق والعفاف.
وقال صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود، إني مكاثر الأنبياء يوم القيامة».
والمقصود بالزواج في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة كما يوضحه العلماء -والله سبحانه وتعالى العليم- هو الزواج الذي يحقق المقاصد الشرعية للزوجين، وليس مجرد عقد بين ذكر وأنثى، وقد ركز العلماء على أهمية الكفاءة بين الزوجين، فإن كفاءة كل زوج لزوجه تساعدهما على بناء جسور التواصل والتكامل لبناء أسرة تنعم بتوفيق الله لهما بالمودة والرحمة، حيث كم من زيجة تمت لم تتوفر فيها الكفاءة، فتعس الزوجان وأهلهما وذريتهما، إن شاء الله أن يكون لهما ذرية!
إن الكفاءة الزوجية لا تتعلق فقط بالكفاءة العلمية أو الاجتماعية والثقافية أو المادية، ولكن وهو الأهم الكفاءة النفسية؛ أي مدى التوافق والتناغم النفسي بين الزوجين، حيث إن القرار بالزواج من أهم القرارات التي يتخذها المسلم في حياته، ليس فقط بناء على ما يترتب عليه من مهام ومسؤوليات ودوره في بناء غد الأمة، ولكنه أيضاً بناء على هذا القرار المهم، فإما الحياة مع شريك حياة يكون عوناً على طاعة الله والتمتع به ومعه في مودة ورحمة، أو -نعوذ بالله- مع شريك مخالف والعيش في بيت يسوده الخلاف والشقاق وأولاد معاقين نفسياً والحلم بالتخلص من هذا الشريك المناكف.
لذا، رغم تقديري لمشاعرك كأُم ولكل أُم تحلم بزفاف ابنتها، وصحبتها للطبيبة التي تتابع حملها، وحفيدها يناديها «جدة»، فإنه يجب بيان ما يلي:
1- إن الإيمان بالقضاء والقدر أحد أركان الإيمان؛ (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) البقرة (216)، إن من ثمرات الإيمان العظيمة الرضا والقناعة الراسخة أن ما يقدره الله هو الخير سواء علمنا بالحكمة أو لم نعلم، وهذه هي حقيقة الإيمان.
2- رغم أن الزواج فطرة بشرية وإشباع شرعي لاحتياجات الجسد والنفس بالأنس مع شريك الحياة، وتلبية لغريزة الأمومة للإناث، والإحساس أنها ملكة متوجة في بيتها، فإن إلحاح هذه الاحتياجات للإشباع يختلف من فتاة لأخرى، فقد ترى الفتاة أنها قد لا تستطيع القيام بمهامها كزوجة وكأُم، أو تقوم بفرض الكفاية بأن تكون طبيبة متخصصة للنساء أو مدرسة أو محامية تتولى قضايا المرأة، أو مجال عمل تتميز به وقد تتفوق فيه على الرجال وتكون قيمة مضافة للأمة، وكما يقول العلماء: الزواج يكون فرضاً على من خافت على نفسها الفتنة، وفي المقابل تأثم من تتزوج وهي على يقين أنها لن تؤدي ما فرضه الله عليها من حقوق لزوجها.
3- عدم الضغط النفسي على ابنتك من خلال نظرات الشفقة على حظها العاثر بعدم زواجها حتى الآن، وأياً كان عمرها! فتضطر إلى قبول أول من يتقدم إليها راحة لك ومنك، وهذا ما سبق أن أطلقت عليه «الانتحار الزواجي»!
4- إننا نقبل بالزواج إذا رجح عندنا أن هذا الشاب/الفتاة مناسب، حتى ولو كنا موقنين أنه سيتقدم من هو أفضل منه، كما أننا نرفض الزواج بشاب/فتاة إذا رجح عندنا أنه غير مناسب، حتى لو تيقنا أنه لن يأتي بعده أحد، إننا نختار من يتوافق معنا في الزواج ولا نختار للزواج من هو الأفضل؛ لذا فأنا أرفض وضد مقولتك: «وخائفة أعتذر لا يتقدم من هو خير منه»، طبعاً اعتذري لصديقتك للمرة الثانية وللمرة المليون لا حرج مطلقاً، ومن قال لك: إن ابنتك ستوافق؟ القرار قرارها، أنا متأكد أن فتاة بهذه العقلية الناضجة لن توافق على الزواج لمجرد أن تكون زوجة.
5- كان من نهج الصحابة رضوان الله عليهم عرض بناتهم على من يجدونه كفؤاً لهن، طبعاً لا حرج مطلقاً على أهل الفتاة أن يبحثوا عن الشاب المناسب لابنتهم، على أن يتم ذلك دون جرح كبرياء الفتاة، أما موضوع الصفحات الإلكترونية للزواج، فمن واقع تجربتي في موضوع التزويج بصفتي الشخصية، لله الحمد كانت النتائج طيبة، مما شجعنا وأحد الإخوة على شراء تطبيق للزواج وتطويره وعرضه مجاناً، للأسف الكذب والغش كان الصفة الغالبة لمعظم الشباب؛ لذا فلا أرجح موضوع الصفحات الإلكترونية للزواج مطلقاً.
حديثي لابنتنا زينة وكل فتاة/شاب لم تتزوج بعد:
لا حرج مطلقاً أن تتخيل وتحلم بشريك الحياة، ولكن بموضوعية وواقعية؛ لأننا نحن الآن في الدنيا، وبعفو الله غداً بالجنة، فكل إنسان له مزاياه ونواقصه، أو بمعنى أدق له سمات شخصية، لذا فمن المهم أن أحدد سمات الشخصية التي تتوافق معي أنا وسمات شخصيتي أنا، دون أحلام وخيالات وأوهام، وأظل أبحث عن النموذج الخيالي الذي صغته من أوهام قصص الحب والخيال العاطفي، ثم أكتشف بعد فوات الأوان أنني كنت أبحث في السراب.
طيب جداً أن أستمع لتجارب ومرارة صديقاتي، وكذلك قضايا الزواج التي تُعرض عليَّ بالمكتب ومعاناة النساء مع أزواجهن، وأشير عليهن بما يفتح الله لي من أبواب النصيحة والإجراءات القانونية المناسبة، ومنطقياً أن أستفيد من ذلك، لكن من غير المنطقي أن أحكم على الزواج من خلال هذه الزيجات الفاشلة، فهناك ما لا يمكن حصره من الزيجات الطيبة.
رداً على سؤال متكرر وله علاقة مباشرة بموضوع الاستشارة، ما السن المناسبة للزواج لكل من الفتاة والشاب؟ عندما يقدر الله أن تتقابل مع شريك الحياة الذي يقتنع كل منكما عقلياً وعاطفياً بأنه قد وجد نصفه الآخر وهو فقط المناسب له، فهذه هي السن المناسبة لزواجك أنت أياً كانت سنك.
نبتهل إلى الله العلي القدير أن يوفق أولادنا لزواج صالح طيب مبارك، وأن ينعم على بيوتهم بالمودة والرحمة.
_________________________
y3thman1@hotmail.com