من كان يتخيل أن «انتفاضة الحجارة» ستتطور وتصل إلى «طوفان الأقصى»، الذي حطم أسطورة واحد من أقوى جيوش المنطقة، المدججة بأحدث وأفتك أنوع الأسلحة، والمدعوم من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها؟!
لم يكن ذلك محض صدفة، بل كان نتاج عملية طويلة ومعقدة من بناء الذات، والنقد البنَّاء، وإجراء المراجعات، وتصويب المسار، وترتيب الأولويات، واختيار الأكفأ، وقبل ذلك كله حُسن التوكل على الله تعالى، وطلب التوفيق منه سبحانه.
«انتفاضة الحجارة» (الانتفاضة الأولى) التي اندلعت في 8 ديسمبر 1987م، أطلقت شرارة الجهاد والكفاح ضد الاحتلال «الإسرائيلي»، وقد استشهد خلالها أكثر من ألف شهيد، و3 آلاف جريح، مقابل مقتل 160 جندياً من العدو.
لقد كان الحجر لبنة أولى في مسيرة بناء، خضعت لها المقاومة، وطورت خلالها إمكاناتها وقدراتها، فانتقلت من مرحلة الحجارة، إلى الأسلحة البيضاء، ثم الرصاص، والقنابل اليدوية، والعبوات الناسفة، والعمليات الاستشهادية، فكان ثمرتها انطلاق «الانتفاضة الثانية» في 28 سبتمبر 2000م، التي استشهد خلالها 4412 فلسطينياً، ونحو 50 ألف جريح، مقابل مقتل 1069 «إسرائيلياً»، و4500 جريح، وانتهت في فبراير 2005م، ببناء جدار الاحتلال العازل في الضفة الغربية وانسحاب الاحتلال من قطاع غزة.
لم تركن المقاومة الفلسطينية إلى هذا النصر، ولم تطلب الراحة تلذذاً بنشوة زائلة، بل كان الأمر أكبر وأعقد من ذلك، إنها حرب تحرير واستقلال، من أجل استعادة كامل التراب، وتطهير «الأقصى» المبارك من دنس اليهود.
لقد عاودت المقاومة، وفي القلب منها «حماس»، عملية تقييم الذات، ورصد الأخطاء، وتبادل الخبرات، والاستفادة من تجارب الآخرين، ودراسة علوم الحرب، واعتماد التكتيكات الحديثة، وتطوير الإستراتيجيات العسكرية.
يمكن القول: إن «حماس» تحديداً أبهرت خبراء العسكرية حول العالم، حين تكيفت مع ظروف الحصار المفروض على قطاع غزة منذ العام 2006م، واتجهت نحو التحول من فصيل مقاوم إلى جيش صغير منظّم، بات يعتمد أساليب بناء الجيوش الحديثة، له رئاسة أركان، وغرف عمليات، وتشكيلات من قوات برية وبحرية وجوية، وهيئة إمداد وتموين، يمتلك قوات خاصة وقوات احتياط وضفادع بشرية، وسلاح المظلات، وسلاح المهندسين، والأمن السيبراني، وسلاح القنص، وجهاز استخباراتي متمرس، وآلة إعلامية قوية، وناطق عسكري مؤثر، وإدارة سياسية من الطراز الرفيع.
ثم تواصلت عملية بناء الذات، وصناعة شخصية جديدة للمقاومة، تتحدى ظروف الحصار، عبر بناء شبكة أنفاق معقدة، طولها أكثر من 500 كيلومتر، على أعماق مختلفة تتراوح بين 15 و70 متراً، أشبه بـ«شبكة مترو» أو متاهة عنكبوت، بها أنفاق صغيرة، ومتوسطة، وكبيرة، مسارات مختلفة ومتشابكة، غرف تحكم وقيادة واتصالات، مخازن أسلحة، منصات لإطلاق الصواريخ، أنفاق هجومية، وأخرى دفاعية، مزودة بنظام «الباب المسحور» الذي يتيح خروج قاذفات الصواريخ ثم الاختفاء فجأة، بها أنفاق مفخخة، وآلية لعزل الأنفاق المتضررة أو المكتشفة.
بموازاة ذلك، عاشت المقاومة التي بدأت بالحجر، حقبة جديدة عنوانها الصواريخ، لتتطور تلك الصناعة بخبرات محلية، وتكنولوجيا متواضعة، الأمر الذي شهد نقلة نوعية من صناعة صواريخ قصيرة المدى، إلى صواريخ متوسطة وبعيدة المدى، مزودة برؤوس تفجيرية، لها القدرة على تجاوز القبة الحديدية ومنظومات الدفاع الجوي التي يتمتع بها العدو.
ووفق دراسة صادرة عن مركز القدس للشؤون العامة، فإن «حماس» تصنع الآن جزءاً كبيراً من أسلحتها الخاصة، وتوسع أبحاثها، وتطور طائرات بدون طيار، وطوربيدات تحت الماء، وتنخرط في الحرب السيبرانية، وهي على وشك الخروج من إنتاج الصواريخ غير الموجهة إلى الصواريخ الدقيقة بعيدة المدى.
التساؤلات تطرح نفسها: كيف سيكون حال المقاومة الفلسطينية بعد 10 سنوات من الآن؟ وماذا سيكون في جعبتها للاحتلال؟ وإلى أي مدى يمكن أن تتطور مجدداً بعد أن باتت قادرة على اجتياح المستوطنات والمواقع العسكرية، وتوجيه ضربة استباقية مؤلمة معقّدة على المستوى الاستخباري والعملياتي؟
الواقع الماثل أمام أعين الجميع، حالة أسطورية، وغير مسبوقة؛ لأنها ليست حرباً نظامية بين جيشين، بل فصيل مقاوم مكون من آلاف المقاتلين، نجح في تكبيد جيش الاحتلال «الإسرائيلي» خسائر فادحة وهزيمة مذلة، لم يعهدها منذ نحو نصف قرن.
إنه درس عظيم في بناء الذات، يقدمه الفلسطينيون للعالم أجمع، بل أزعم أنه درس سيكون محل دراسة من الجيوش الكبرى والقوى العظمى، وقبلها درس للأمة العربية والإسلامية في كيفية استنهاض الذات وتحفيز مقوماتها وتحقيق النصر على أعدائها.