تتابع نزول القرآن الكريم ثلاثة عشر عامًا في مكة لغرس العقيدة الصحيحة وتثبيتها في القلوب، حتى يحدث التميز بين المؤمنين وغيرهم من سائر الناس الذين لم يسلكوا سبيل الإيمان بالله ورسوله ﷺ.
وهذه العقيدة المغروسة سيأتي يوم لتُختبر فيه، وسيظهر هل هي تمكنت من القلوب، وصبغت الحياة بصبغتها، وغيرت التصورات والأفكار والرؤى، أم هي مجرد كلمات تلوكها الألسنة ولا أثر لها ولا تأثير؟
وهناك فارق كبير بين الدرس العقدي في قاعات التدريس، ومحاضرات العلماء، ومناظرات المتكلمين، وجدال المذاهب، والجهاد من أجل تلك العقيدة، والصبر على لأواء الحياة بسببها.
فليس كل من اهتم بمعرفة الصفات الاختيارية والصفات الخبرية، والتفريق بينهما، ولا كل من تكلم عن العلو والاستواء والنزول والكلام.. إلخ، واختلف حولها وراح يفسِّق مخالفيه ويبدِّعهم يثبت في أرض الجهاد والاستشهاد، أو تكون عنده العزيمة على مواجهة أعداء الله وكيدهم، أو يكون قادرًا على الوقوف في وجه الظلمة والطغاة من الحكام والسلاطين، حتى إن بعض «العلماء» -الذين انشغلوا بتعليم العقائد التي يعتقدون صوابها ومهاجمة كل من لم ير رأيهم أو ينحُ نحوهم أو يذهب مذهبهم وكادوا أن يُخرجوا مخالفيهم من ربقة الإسلام- جعلوا من «ولي الأمر» وثنًا يُعبد من دون الله.
وإن هذه الاختلافات لم تكن يومًا عنوانًا لصحة هذه الأمة وقوتها، بل هي عنوان لضعفها واستباحة حرمها من عدوها.
ثم إن التعمق في تلك المسائل لا يولِّد الإيمان في القلوب، بل إنها قد تجعل القلب قاسيًا؛ وقد بيَّن لنا ذلك إمام الحرمين الجويني حينما قال: «قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني»(1).
فهو قد غاص في المتشابه وتتبع المسائل الكلامية وجادل عنها وناظر المخالفين، لكنه يرى أن إيمان العجائز أوثق الإيمان، هذا الإيمان البسيط، الذي آمن بالله وقدرته وعزته وسطوته ورحمته ولطفه الذي يجعل الحياة لا تنفك عن معية الله تعالى.
إيمان العجائز هذا يولد عنه اليقين والرضا والصبر، أما التعمق والاختلاف في المسائل الكلامية يولد عنه الحيرة والاضطراب؛ لذا أشهد إمام الحرمين الحاضرين لزيارته عند موته على ما استقر عليه رأيه، قال أبو الفتح الطبري الفقيه: «دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا عليَّ أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السُّنة، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور»(2).
وهذا الثائر العظيم المجاهد الشيخ عز الدين القسام، رحمه الله تعالى، قد عزوا إليه قولاً يبين فيه الفارق بين العلم الذي لم يختبره العمل، والعلم الذي وافق العمل وطابقه؛ إذ يبقى العلم شيئًا نظريًّا حتى يصدِّقه العمل أو يكذِّبه.
فقد حكوا عنه: «لقَد تعلَّمت العَقيدة 20 عامًا ودرَّستها وعلَّمتها للنَاس 20 عامًا أُخرى، فلمَّا أذَّن المؤذن للجهاد وذهبنا لملاقاةِ العَدو إذا بي أولِّي دبري هاربًا مع صَوت الرَصاص والمَدافع!
وحزنت لنفسي كثيرًا؛ كيف أنا العالِم الكَبير أهرب مع أوَّل مُواجهة ويفتُّ في عَضدي كل ما أومن بهِ وربَّيت عليه الناس من عقيدةٍ وثبات لله!
حتى أخذت أُصلِّي طوال الليل أسال الله الإخلاص والثبات، واعتذرت إلى الله ما فعلت، ثم يممت وجهي ناحية العدو وقاتلتهم وحدي فترة حتى ولوَّا هاربين من أمامي، فعلمت وقتها أن ما بيني وبين الله هو إيماني وتقواي وليس كتبي ودروسي وعلمي الشرعي»(3).
وقد كشفت الحروب المتعددة من قِبل يهود على غزة والضفة عن أناس آوت قلوبهم إلى جنب الله وركنت إليه، فاطمأنت به، وفاض الإيمان واليقين والصبر والثبات من على ألسنتهم.
لم يتعلموا العقيدة في المدارس والمعاهد والجامعات، بل كفاهم الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا ورسولاً.
وعند الفتن تزيغ الأبصار، وتذهب العقول، وتتزلزل الأركان، وتبلغ القلوب الحناجر، والثابت من ثبَّته الله.
وممن ثبته الله وضربوا أروع الأمثلة عجائز فلسطين عامة وغزة خاصة، والأمثلة فوق الحصر؛ فتلك السيدة أم رامي أبو طير وهي عجوز من غزة تستقبل خبر قصف الاحتلال لبيتها قبيل معركة «طوفان الأقصى» بأشهر بقولها: «الحمد لله، المال يُعوض، لست حزينة على حجر، وظفر كل مرابط ومقاوم وكل من قال: لا إله إلا الله بكل المال، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلفني خيرًا منها، حسبي الله ونعم الوكيل»، ثم أخذت تزغرد.
فطالما المقاوم بخير فكل شيء يمكن إصلاحه وإعادته، وهذا إيمان بالجهاد، واسترخاص للمال في سبيل التحرير والخلاص.
وتقول إحدى عجائز غزة أيام معركة «طوفان الأقصى»: «لا نريد رحمة من أحد، إلا رحمة الله علينا، وما يكون من الله على العين والرأس، نحمده ونشكره، ونسأله الإيمان والتقوى، لنا الآخرة، والدنيا لا شيء فهي إلى زوال، ولا يدوم إلا وجه الله والعمل الصالح».
فهنا الركون إلى الله وحده، وانقطاع أسباب البشر، واليأس مما عند الناس، والرضا بما قدَّره الله تعالى؛ فخذلان البشر لا يضرهم طالما كانوا مع الله.
وكانت سيدة أخرى من جنين تقول بعزة وشموخ وصمود وإباء: «الحمد لله، وهذا الصمود بإرادة الله، وهي قوة أعطانا الله إياها، ولو أن قدمي تستطيعان حملي لخرجت للمساعدة في الضرب والجهاد والتفجير، وفي اجتياح عام 2002م كنت أضرب مع المقاومة، والله ما أضعفنا تدمير بيتي، طالما سلم أولادي والمقاومون، وأسأنا وجه اليهود، وأصغر طفل في مخيم جنين يجب أن يضع قدمه على رقبة نتنياهو».
فاليأس لا يوجد في قواميس هؤلاء؛ فالأعداء يفرحون باليأس والقنوط، وهو علامة للهزيمة، لكن الصمود واستمداد المدد من الله يوهن كيد الأعداء.
وتقول عجوز من غزة مودعة أولادها الشهداء: «أولادي شهداء، أنا فخورة بهم، إني جعلتهم لوجه الله، هم فداء للمسلمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون».
فالشهادة حياة لأصحابها، وشفاعة لأهلها، ودماؤهم لعنة على أعدائهم وخاذليهم.
فمن يرد أن يثبِّت عقيدته فلينظر إلى هؤلاء، وليتعلم منهن، وليجعلهن قدوات له، وهن بهذا على طريق مستقيم آخره النصر والرفعة والتمكين.
وبلاد بها أمثال هؤلاء حقيق بها أن تسمى بلاد التوحيد.
__________________________
(1) سير أعلام النبلاء، (18/ 471).
(2) المرجع السابق (18/ 474).
(3) لم أتثبت من صحته؛ إذ لم أجده في مصدر من المصادر، بل هو كلام منقول منتشر على الشبكة العنكبوتية.