بعد 46 يوماً من العدوان «الإسرائيلي» المتواصل على قطاع غزة، أعلنت دولة قطر عن التوصل لاتفاق لهدنة إنسانية لأربعة أيام، تحمل بنودها دلالات واضحة وتطرح أسئلة مهمة بخصوص مسار العدوان بعد انقضاء الأيام الأربعة.
كانت الهدنة الإنسانية مطلباً للمقاومة الفلسطينية منذ بدء العدوان، وقالت: إنها خلالها ستفرج عن «الضيوف» لديها؛ وهم المحتجزون من النساء والأطفال والأجانب منهم تحديداً، لكن ذلك وُوجه برفض قاطع من قوات الاحتلال وداعمتها الرئيسة الولايات المتحدة، التي صرح مسؤولوها أكثر من مرة بأن أي وقف لإطلاق النار ستستفيد منه «حماس»؛ وعليه، فإن التوصل لاتفاق إطلاق النار يعني أن الاحتلال رضخ بعد تمنّع وأذعن لفكرة أنه لن يستطيع تحرير الأسرى والمحتجزين بالقوة، خصوصاً أن معظم بنود الاتفاق هي ما عرضته المقاومة في الأساس كما سيأتي تفصيله.
بيان وزارة الخارجية القطرية أعلن عن الاتفاق الذي أتى نتيجة جهود وساطة مشتركة مع مصر والولايات المتحدة، وأنه يشمل وقفاً لإطلاق النار لم يحدد موعده بعد في حينها على أن يمتد لأربعة أيام قابلة للتمديد، ويشمل الاتفاق –وفق البيان– تبادل 50 من الأسرى من النساء المدنيات والأطفال في قطاع غزة، مقابل إطلاق سراح عدد من النساء والأطفال الفلسطينيين المحتجزين في السجون «الإسرائيلية»، على أن يتم زيادة أعداد المفرج عنهم في مراحل لاحقة من تطبيق الاتفاق، وأكد البيان أن الهدنة ستسمح بدخول عدد أكبر من القوافل الإنسانية والمساعدات الإغاثية بما فيها الوقود المخصص للاحتياجات الإنسانية.
كما أعلنت حركة «حماس» عن الاتفاق ببيان أكثر تفصيلاً شمل ذكر بعض البنود الأخرى؛ مثل وقف كل الأعمال العسكرية لجيش الاحتلال بكافة مناطق قطاع غزة، ووقف حركة آليات الاحتلال العسكرية المتوغلة في القطاع، والتزام الاحتلال بعدم التعرض أو اعتقال أحد خلال فترة الهدنة، وضمان حرية انتقال الناس من الشمال إلى الجنوب، ووقف حركة الطيران في الجنوب على مدار أيام الهدنة و6 ساعات يومياً في الشمال، وتحديد 150 من النساء والأطفال الفلسطينيين للتبادل بنسبة واحد إلى ثلاثة مع أسرى ومحتجزي الاحتلال.
في المقابل، كانت التصريحات الواردة من قيادات الاحتلال السياسية والعسكرية، ومنهم رئيس الوزراء «بنيامين نتنياهو»، تؤكد أن الهدف الرئيس للاتفاق تحرير عدد من المحتجزين، وأن الهدنة مؤقتة وسيستأنف الجيش عملياته العسكرية بمجرد انقضاء أيامها، بل توقع قائد الجيش أن تستمر العملية البرية في قطاع غزة شهرين إضافيين على الأقل.
قراءة
أول ما ينبغي تأكيده أن الاتفاق وإن سمّي «هدنة إنسانية»، فإن دوافعه بالنسبة للاحتلال لم تكن إنسانية البتة، وإلا كان وافق عليها قبل الآن، فضلاً عن أن مجازره المستمرة وجرائم الحرب التي يرتكبها توضح «إنسانيته» ونظرته للإنسان أكثر من أي خطاب مدّعى.
إن الدوافع الرئيسة للاحتلال للموافقة على هذا الاتفاق كانت فشله الذريع في تحرير أسراه بقوته العسكرية وقدراته الأمنية كما زعم وهدد، وإخفاقه في تحقيق أي إنجازات عسكرية على الأرض باستثناء قتل المدنيين وتدمير البنى التحتية، والضغط الداخلي على القيادات السياسية والعسكرية ولا سيما من أهالي الأسرى والمحتجزين، والرأي العام العالمي الذي تحول بقوة لصالح الفلسطينيين، ورغبة الإدارة الأمريكية في تقديم صورة عن الدعم الإنساني لتقليل الانتقادات لها.
الدلالة الأبرز للاتفاق هي إذعان الاحتلال بأنه لم يستطع تحرير أسراه بالقوة، واضطراره لإبرام اتفاق مع جهة قال عنها: إنها منظمة إرهابية، وتوعدها بالفناء وإنهاء حكمها وتقويض قدراتها العسكرية، فإذا به يخوض معها مفاوضات غير مباشرة بما في ذلك من اعتراف بها وندّية في التعامل واعتراف بالفشل في تحقيق ما توعدها به.
والدلالة الثانية نزول الاحتلال عند شروط المقاومة في عموم بنود الاتفاق، التي كان رفضها بشدة في بداية العدوان، ثم في بداية التفاوض غير المباشر عبر الوسطاء، بما في ذلك تبادل الأسرى والمحتجزين ودخول المساعدات ووقف العمليات العسكرية وتحليق الطائرات، والأهم من كل ذلك مدة الهدنة التي كانت تريدها «حماس» أياماً، وأصر الاحتلال على أن تكون ساعات أو يوماً واحداً فقط.
أما الدلالة الثالثة فهي الإخفاق الكبير للاحتلال في الجانبين العسكري والأمني على مدى أكثر من شهر ونصف شهر، وهو ما أدى به في النهاية للرضوخ وقبول الاتفاق، فلم تستسلم المقاومة ولم تُدمر بنيتها العسكرية، ولم يكشف الاحتلال منظومة الأنفاق، ولم يدمر المقرات القيادية، ولم يغتل قيادات الصف الأول السياسية والعسكرية، ولم يعلن عن أسْر ولو كادر واحد في المقاومة، ومنها كذلك فطنة المقاومة وتحوطها لغدر الاحتلال، بحيث كانت آلية تبادل الأسرى موزعة على الأيام الأربعة وليس في بداية الهدنة؛ بما يضغط على الاحتلال للالتزام حتى آخر لحظة.
ويضاف لذلك الخسائر الكبيرة التي تكبدها الاحتلال في الجنود والضباط، وكذلك العتاد والآليات، التي تخطت بمراحل كل المواجهات السابقة، كما أن توثيق «كتائب القسام» لبسالة عناصرها في المواجهات من المسافة صفر وذعر جنود الاحتلال لدى مواجهتهم والخسائر المباشرة في جيش الاحتلال، وهي أمور لا يملك الاحتلال تكذيبها فضلاً عن تفنيدها.
في المقابل، فإن الصفقة تثبت أن استبسال «كتائب القسام» وتفوقها في الميدان لا يجسر كل الهوة الموجودة في القدرات العسكرية وبعض الأمور الأخرى، بحيث يبدو أنها قدمت تنازلات في بعض البنود ولا سيما التمييز بين الشمال والجنوب في حرية التنقل وتحليق الطيران، وهي تفاصيل تؤكد أن أولوية المقاومة تخفيف الضغوط على الحاضنة الشعبية وضمان دخول المساعدات.
المستقبل
ويبقى السؤال الأهم: هل تتوقف الحرب بعد انقضاء الهدنة أم تستمر؟ المنطق يقول: يتوقف العدوان، فقد مضى أكثر من شهر ونصف شهر من العدوان المستمر والمتجاوز لكل قانون وشرعة، بما في ذلك أعراف الحرب، بلا إنجاز عسكري أو أمني، بل بخسائر كبيرة وموثقة، مع ضغط داخلي على حكومة الكيان يتوقع أن يتزايد مع اتضاح عدد القتلى بين الأسرى بسبب قصف القطاع، وضغط دولي متزايد، ودعم متناقص، وتغير لهجة الولايات المتحدة بسبب تراجع شعبية الرئيس «جو بايدن» والانتقادات التي وجهت له بسبب دعمه المطلق للاحتلال، إضافة لبقاء المقاومة قوية وثابتة.
لكن في المقابل، ثمة عوامل تدفع بالاتجاه المعاكس؛ مثل تعطش قيادات الاحتلال لسفك الدم الفلسطيني لإرضاء الجبهة الداخلية، وغريزة الانتقام التي لم تشبع بعد بما يكفي فيما يبدو، واطمئنان قادة الاحتلال على عدم وجود من يحاسب ويعاقب، واستمرار الدعم الأمريكي بشكل غير محدود ولا مشروط.
وكذلك، ثمة حسابات «نتنياهو» الذي يدرك أن حياته السياسية ستنتهي بمجرد وقف الحرب، ليس على خلفية الفساد فقط، ولكن أيضاً على خلفية الفشل والعجز في المواجهة الحالية، ولذلك فهو يريد إطالة أمد الحرب ما أمكنه ذلك رغم بعض المعارضة، بل يحاول توسيعها بجر الولايات المتحدة لنقلها لمعركة إقليمية ستكون أطول زمناً، ولن يكون وحده المسؤول عن نتائجها في نهاية المطاف.
ولذلك، فإن المرجح أن تستأنف قوات الاحتلال العدوان مع نهاية الهدنة، حتى ولو مددت قليلاً في حال كانت هناك أعداد إضافية من الأسرى المدنيين للتبادل، لكن العودة للعدوان لن تعني حرباً مفتوحة زمنياً، بل إنه كلما مر المزيد من الوقت كانت فرص وقف الحرب والتوصل لاتفاق لوقف إطلاق نار مستدام أكبر، وحينها سيبدأ الحديث عن صفقة تبادل كبيرة وشاملة للأسرى تضم عموم الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، مقابل الأسرى العسكريين للاحتلال، وهو أمر سيساهم في تأجيج الكثير من الخلافات وإذكاء العديد من المتغيرات في داخل الكيان على المديين المتوسط والبعيد.