بدأت المقاومة الفلسطينية تشكل تحدياً كبيراً وإستراتيجياً لدولة الاحتلال الصهيوني منذ انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية في العام 1987م، وما واكبها من أحداث استلزمت تطور المقاومة تكتيكياً وعسكرياً، ثم جاءت «انتفاضة الأقصى» عام 2000م لتشهد المقاومة الفلسطينية تطوراً كبيراً من الناحية العسكرية في مواجهة آلة الحرب الصهيونية بعد استخدام الاحتلال الطائرات الحربية والدبابات العسكرية والمدفعية في مواجهتها؛ الأمر الذي دفع المقاومة إلى ابتكار وسائل عسكرية متطورة لمجابهة آلة الحرب الصهيونية الجديدة.
المقاومة الفلسطينية لم تكن وليدة أحداث «انتفاضة الحجارة» عام 1987م، و«انتفاضة الأقصى» عام 2000م، فقد سبقتهما مقاومة شعبية بقيادة الشيخ عز الدين القسام في العام 1936م، والمقاومة الشعبية الفلسطينية بقيادة الشيخ عبدالقادر الحسيني في العام 1947م ضد الإنجليز، ثم المقاومة الشعبية الفلسطينية وثورة الأهالي ضد الاحتلال الصهيوني، ومجازره بحق الفلسطينيين و«النكبة» في عام 1848م؛ وما نتج عنها من احتلال أرض فلسطين وتهجير سكانها.
إن هذه المقاومة بكل مكوناتها وأهدافها وغاياتها هي حق وواجب، كما أنها وسيلة لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه المسلوبة وتقرير مصيره كباقي الشعوب التي ناضلت وقاومت الاحتلال حتى نالت حريتها، وحتى تتمكن من ذلك يجب أن تكون تجسيداً لرؤية، وممارسة لإستراتيجية، وخاضعة لقيادة، لا تنظر إنجاز الوحدة، ولا تهمل ضرورة العمل لتحقيقها، إستراتيجية تستطيع توظيفها في سياق المعركة المفتوحة مع الاحتلال الصهيوني التي تزداد ضراوة كلما طال الاحتلال، التي تتطلب توفير كل الإمكانات التي تصب في تحقيق أهدافها الوطنية والمشروعة.
غزة مثلت ظاهرة بشرية فريدة ونموذجاً أسطورياً في المقاومة الفلسطينية
لقد مثَّلت غزة، سواء بجولات القتال أو الحروب التي تقودها مع دولة الاحتلال الصهيوني، ظاهرة بشرية فريدة، وحدثاً عالمياً عجيباً في تأثير وقائعها وردود الفعل تجاه تلك الوقائع، التي كانت غزة فيها نموذجاً أسطورياً في المقاومة الفلسطينية من جهة، والمشروع الصهيوني والغربي الاستعماري العنصري الاستيطاني وأتباعه من جهة أخرى، ذلك النموذج الذي خاطب الضمير العالمي والشعور الإنساني بطريقة متفردة وسط ضجيج الهيمنة الصهيونية، والردع الصارم للأنظمة العربية، وتفتيت الشعور والانتماء العربي لقضية فلسطين وأبناء العروبة والعقيدة وشركاء الدم.
المواثيق الدولية
زد على ذلك الهرولة العربية المصحوبة بالعصا الأمريكية لعدم المساس بدولة الكيان أو انتقادها، بل تشجيع التطبيع معها، والمرونة والانفتاح عليها، والتماهي معها تجنباً لويلاتها، والتنازل مقابل ذلك عن الحق العربي في فلسطين، متجاهلين دورها في قتل الشعب الفلسطيني، وتهجيره بالمجازر دون مراعاة للحق الفلسطيني ولا احترام للقانون الدولي الإنساني، وشيطنة المقاومة التي هي حق كفلته لها كل القوانين الدولية التي تختفي عندما يتعلق الأمر بدولة الاحتلال الصهيوني التي تتمتع بغطاء دولي غربي أمريكي.
وفي حين تكفل المواثيق الدولية والقرارات الأممية حق الشعب الفلسطيني في المقاومة، بشتى الطرق، بما فيها المقاومة المسلحة، تضع هذه المواثيق الغرب في موقف محرج؛ إذ يتباهون بأنفسهم كحماة للقوانين، في حين ينكرون على الفلسطينيين حقهم الشرعي، ويغضون الطرف عن جرائم الحرب التي تقوم بها دولة الكيان ضد الفلسطينيين؛ قيادة وشعباً، الذين ما لبثوا يؤكدون دوماً شرعية دفاعهم عن أرضهم، بما في ذلك مقاومتهم المسلحة، ولهم الحق في ذلك، ليس فقط من المنطق الأخلاقي، بل من منطق القانون الدولي والقرارات الأممية، كما ورد في المادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الصادر في 26 أغسطس 1789م، الذي ينص على أن «مقاومة القمع هي حق أساسي، وللفلسطينيين حق المطالبة به».
من ناحية أخرى، يعد حق تقرير المصير حقاً ثابتاً في القانون الدولي، ومبدأ أساسياً في ميثاق الأمم المتحدة، التي جاء في قرارها رقم (1514)، في 14 ديسمبر 1960م، لإعلان منح الاستقلال بصفة صريحة أنه «لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية مركزها السياسي وتسعي بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي».
ويشمل هذا الحق القضية الفلسطينية، وهو ما يؤكده القرار الأممي (3236)، بتاريخ 22 نوفمبر 1974م، الذي نص على أن الأمم المتحدة «تعترف بحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكل الوسائل وفقاً لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه، وتناشد جميع الدول والمنظمات الدولية دعم الشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترداد حقوقه، وفقاً للميثاق».
منطلقات المقاومة للتحرر
وتنطلق المقاومة الفلسطينية للتحرر من عدة منطلقات، أولها: الأيديولوجية الدينية العقدية المتعلقة بالإعداد المادي والمعنوي والعسكري بكل ما تستطيع من أجل استعادة الأرض، وطرد المحتل؛ انطلاقاً من قول الله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60).
وثانيها: محاكاة النموذج التحرري الذي حققته الشعوب العربية التي قاومت الاستعمار الإنجليزي والفرنسي حتى نالت حريتها، واستعادت أرضها وكرامتها، التي بدون المقاومة لما كان لها ما أرادت من العزة والكرامة والحرية.
المقاومة وسيلة لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في تحرير أرضه المسلوبة
وثالثها: التمسك بالحق الثابت الذي كفلته الأعراف الدولية والقوانين التي تحفظ حقوق الشعوب في مقاومة الاستعمار من أجل التحرر وتقرير المصير، حتى وإن اختلت تلك القوانين والموازين لصالح دولة الاحتلال، التي تساندها أمريكا وتعطل كل القوانين لصالحها في مجلس الأمن والأمم المتحدة، أو المسارعة في دعمها وحمايتها واستخدام القوة والردع لكل من يعارضها من الدول العربية أو الإسلامية التي تساند القضية الفلسطينية.
وفي الوقت الذي تجد فيه دولة الاحتلال كل الدعم المادي والمعنوي من حليفتها الإستراتيجية أمريكا، بل من الغرب الأوروبي عامة؛ تواجه المقاومة الفلسطينية العديد من التحديات التي تقف عائقاً أمامها، تتمثل في عداء بعض الأنظمة العربية لها، واعتبارها إرهاباً ووبالاً على الشعب الفلسطيني! متناسين أن اليهود لا يعرفون إلا لغة القوة، وأن أكثر صفاتهم هي الغدر وعدم الوفاء بالوعود والعهود، وأن علاقتهم بالعرب قائمة على المصالح دون إغفال العداء معهم.
وكذلك تنصل الأنظمة العربية من دعم ومساندة محور المقاومة في فلسطين؛ سياساً ومادياً، بل أكثر من ذلك حاولت العديد من الأنظمة العربية وصم المقاومة الفلسطينية بـ«الإرهاب»، وسلبت حقها في الدفاع عن نفسها في مقاومة المحتل، واعتبرت ذلك تعدياً على حقوق دولة الاحتلال، وجمدت كل منابع الدعم عنها، وحاربت كل من يدعمها مادياً، وحظرت كل المؤسسات التي تقدم الدعم لها، وطاردت كل شخص يؤيدها ويناصرها سياسياً ومادياً، وجمدت حساباتها المالية.
ومها يكن من أمور سابقة، تبقى المقاومة الفلسطينية عنوان الشعب الفلسطيني في الدفاع عن قضيته العادلة، ورأس الحربة في معادلة الصراع العربي الصهيوني، وإن خذلها بعض أبناء العروبة وشركاء الهدف والدم؛ لأنها أدركت منذ أن انطلقت أنه «ما حك جلدك مثل ظفرك»، وأنه لن يعيد الأرض إلا أصحابها حتى وإن كلفهم ذلك شلالات من الدماء، التي ستكون عنواناً للنصر، وإيذاناً ببزوغ شمس التحرير؛ (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً) (الإسراء: 51).