من أشهر الأناشيد التي سمعناها صغاراً مقطع يقول «المقليعة صارت رشاش»، وهي تمثل إصرار الفلسطيني على تحويل كل ما لديه من أدوات لمواجهة المحتل، حتى تحولت هذه الكلمات إلى هدف ضمني للمقاومة، وبكل تأكيد لم تقف عند الرشاش فقط، بل تجاوزت ذلك بكثير،
وقد حفلت معركة «طوفان الأقصى» بالعديد من المفاجآت، لم تقف عند الدخول البطولي إلى الأراضي المحتلة، في 7 أكتوبر 2023م، بل تتابعت المنجزات الجليلة بالتوازي مع التضحيات الكبيرة، واستطاعت من خلالها أن تصد قوات الاحتلال، وتكبده الخسائر الفادحة، وأسهمت في رفع الوعي العربي والغربي، وأعادت فلسطين إلى رأس أولويات هذه الشعوب.
راكمت المقاومة الفلسطينية على تجاربها في صراعها مع المحتلّ، ولم يكن الإعلان عن الكتائب في عام 1992م إلا جزءاً من هذه المراكمة، وقد أولت «كتائب القسام»، الجناح العسكري لحركة «حماس»، أولوية للتصنيع العسكري، وهو ما يُظهر وعياً إستراتيجياً في سيرورة الصراع مع الاحتلال، ففي عام الإعلان عن «القسام»، أعلنت عن مسدس من طراز «غولدستار»، وفي العام التالي صنعت نسخة للسلاح «الإسرائيلي» «عوزي»، ولم ينحصر هذا التصنيع بالأسلحة الخفيفة فقط، فقد أعلنت «القسام» في عام 2000م عن مدافع «الهاون» من عيارات مختلفة.
«طوفان الأقصى» رفعت الوعي وأعادت فلسطين إلى رأس أولويات الشعوب
وتُعد صواريخ المقاومة بلا ريب أبرز أسلحتها، التي مكنت المقاومة من أن تضرب قلب الأراضي المحتلة، وأن تجبر المستوطنين على الدخول إلى الملاجئ بالتوازي مع أي تصعيد مع القطاع، وأعلنت الكتائب عن صاروخ «القسام» عام 2000م، وقد شهدت كل الحروب مع القطاع إبداعات جديدة، والإعلان عن صواريخ بمديات تصل إلى أطراف الأراضي المحتلة، وقد تابعنا في المعركة الحالية، كيف أعلنت المقاومة عن العديد من الأسلحة، في البر والبحر ومضادة لطائرات الاحتلال، وقد استخدمت المقاومة قذيفة «ياسين 105» المضادة للدروع كواحدة من أبرز الأسلحة التي تصد عبرها التوغل البري، ولكن السلاح الأقوى هو المجاهد الذي يحمل القاذف بإيمانه وتوكله وقوته.
الضفة الغربية «عرينيّة» تقلق المحتل:
يمكن أن نصف المقاومة في الضفة بأنها جمرٌ تحت الرماد، على الرغم مما قامت به «السلطة» طيلة السنوات الماضية، من تنسيق أمني وقمع متواصل للمقاومة، فإن الأخيرة استطاعت الصمود على الرغم من الضربات المتتالية، ومن أواخر تجلياتها ظهور مجموعات المقاومة في قلب المدن في الضفة الغربية، وتحولها إلى «عرينٍ» لها، وكانت في مقدمة هذه المجموعات «كتيبة جنين»، التي ظهرت في سبتمبر 2021م، وقد حاولت أذرع الاحتلال ضرب الكتيبة أكثر من مرة.
وعلى غرار «كتيبة جنين» ظهرت مجموعة مسلحة في مدينة نابلس، أُطلق عليها ابتداءً «كتيبة نابلس»، إلا أنها عرفت لاحقاً بـ«عرين الأسود»، ظهرت في بداية عام 2022م، واتخذت من البلدة القديمة بمدينة نابلس معقلاً لها، ثم ظهرت مجموعات أخرى في طولكرم ومخيم نور شمس وغيرها، وإلى جانب تكوينها العابر للفصائل، تشكلت هذه المجموعات من عناصر شبابية عرفت أهمية المقاومة، وشاركوا في تنفيذ العمليات رداً على جرائم الاحتلال في «الأقصى» واعتداءاته على الفلسطينيين، وما زالت هذه المجموعات تقض مضجع الاحتلال، وتقلق أمنه.
ثغرة في جدار المستحيل:
لم تكن آثار معركة «طوفان الأقصى» تقف عند حدود الإنجاز العسكري فقط، فقد استطاعت إحداث ثغرة في جدار الوضع الراهن، وصنعت المستحيل، ووضعت المسجد الأقصى في قلب المعركة، تأكيداً على دوره وأهميته، ولم تضع حداً لمحاولات إنهاء القضية الفلسطينية فقط، بل عملت على تحقيق جملة من الإنجازات على الصعد المعرفية والتربوية والإيمانية.
المقاومة الفلسطينية راكمت على تجاربها في صراعها مع الاحتلال الصهيوني
فقد أعادت الأمة إلى فعل المواجهة بعد سنوات من تغييبها، وشكلت جزءاً من خطوات المقاومة نحو التحرير، ستكون آثارها دافعة للنهوض الحضاري للأمة، فمنذ اللحظات الأولى للمعركة سقطت مشاهد التفاهة في وسائل التواصل، وحلّ محلها الجديّة والاهتمام بالصراع، وعادت فلسطين إلى الجموع بكل ما تحمله من رمزيات وأفكار، ولم يعد الحديث عنها مقصوراً على نخب متضامنة، بل عادت لتلتحم مع الجماهير، وفي النقاط الآتية إطلالة على جملة من منجزات «طوفان الأقصى»:
فعلى الصعيد العربي، أنهت المعركة حالة الخوف من التضامن مع المقاومة، بعد سنوات من تكميم الأفواه، على إثر موجة التطبيع مع الاحتلال، فعادت الشعارات المعتادة إلى الميادين العربية والإسلامية، مؤكدين أن المقاومة هي الحل الوحيد لاستعادة الأرض، وشهدنا تصاعداً في الزخم الجماهيري العربي والإسلامي.
أما على الصعيد التربوي، فقد أعادت المعركة إحياء الرموز في النشء الجديد، حتى أصبح الملثم نموذجاً يحتذى به، يتابعه الفتيان قبل الشيوخ والكبار، فلم تعد الشخصيات السينمائية أو الكروية هي النماذج التي يقتدي بها شبابنا، فقد حلّ محلها نموذج المجاهد الذي يسطر البطولات، وبانت أهمية المحاضن التي خرّجت المقاوم القسَّامي، من المسجد والبيئة الحاضنة، وصولاً إلى القدوات، فعادت إلى الأذهان صور الياسين، والرنتيسي، وقادة المقاومة.
ولم تقف هذه الإنجازات عند حدود العالمين العربي والإسلامي فقط، بل امتدت إلى الغرب، إذ نتابع حالة منقطعة النظير من التضامن مع فلسطين، وكيف تخرج المظاهرات الضخمة رافعة أعلام فلسطين ومسقطة رواية المحتل، نعم لم يتغير المزاج السياسي الغربي حتى الآن، ولكن غزة ربحت الشعوب، بل لقد دفعت غزة وتضحياتها بالغربيين إلى التعرف على الإسلام، فغيّر الكثير نظرتهم إليه، وآمن به آخرون كثر، فكأن الدماء الزكية التي سالت في غزة، كانت منارة ليهتدوا بها إلى الإسلام، ومن ثمّ تعرف الملايين على مظلومية الشعب الفلسطيني، وتاريخ معاناته.
وفي سياق الحديث عن الإسلام في الغرب، فقد كان من آثار المعركة أن تحرك ما ركد في وجدان المؤمنين، فلم تعد الأسئلة تتعلق بسفاسف الأمور، ولم يعد المشككون بالدين يجدون لهم تجاوباً، إذ شهدنا عودة إيمانية صادقة، وقد كان الإيمان بمظلومية هذا الشعب، والإيمان بعدالة القضية روافع للإيمان بالله تعالى.
أخيراً، هذا غيض من فيض ما حققته غزة، وما أنجزته المقاومة، وفي كل واحدة منها تؤسس مساراً يقود إلى التحرير، من البندقية الأولى، وصولاً إلى الصوت الأخير؛ ما يجعل تحرير القدس و«الأقصى» أقرب من أي وقت مضى، وأن ما تقوم به المقاومة من إنجازات وتضحيات، تستلزم منا المزيد من العمل، علنا نستطيع مواكبة ما تحقق هذه المقاومة الباسلة، ونضرب معهم سهماً في صرح التحرير القادم لا محالة، فنحن أمام وعدين؛ وعد المحتل بالخسارة والبوار، ووعد العليّ الجبار القائل في كتابه العزيز: (فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً) (الإسراء: 7).