يكاد يجمع المراقبون على أن «طوفان الأقصى» الذي أطلقته «كتائب عز الدين القسام» في غزة، في 7 أكتوبر 2023م، سيكون حدثًا فاصلًا في تاريخ الصراع الفلسطيني مع المحتل الغاصب، وليس غريبًا أن يمتد تأثيره في المنطقة العربية، ويتردد صداه في عواصم العالم ذات الفاعلية في المشهد الدولي.
إن من طبيعة الأحداث المهمة في التاريخ أن مجمل تأثيراتها ونواتجها لا تظهر بالضرورة وقت الحدث، ولا في مداه الزمني القصير.. ومع هذا، فقد رأينا طرفًا من تأثير «طوفان الأقصى» فيما كشفه من حقائق تتصل بقضية المسلمين المركزية، وفيما أعاد التذكير به فيما يخص علاقة الغرب بالشرق، وأيضًا فيما أبان عنه من وضعية العرب والمسلمين من حيث تضامنهم وتأثيرهم وفاعليتهم، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي.
حقًّا، يوم السابع، بما استتبعه من تطورات وأحداث، قد جاء منبِّهًا وكاشفًا ومذكِّرًا.. وما زلنا نعيش في هذه الموجات المتتابعة التي حركَّها.. مما نرصد بعضها في هذا المقال، من خلال ما استدعاه الحدث الكبير من أسئلة.
سؤال الاحتلال ومقاومته
أول الأسئلة التي استدعاها «طوفان الأقصى» هو ما يتعلق بسؤال الاحتلال ومقاومته؛ ذلك أن البعض كأنما نسي هذه الحقيقة؛ حقيقة أن «إسرائيل» دولة احتلال، وأن فلسطين واقعة تحت الاحتلال.. حتى راح يتساءل حينما مارس الفلسطينيون حقهم الطبيعي في مقاومة الاحتلال: لماذا يهاجمون «إسرائيل»؟ ثم راح يقرر أيضًا أن هذا الكيان المحتل الغاصب له حق الدفاع عن النفس، كما رأينا في تصريحات الدول الأوروبية -ألمانيا وفرنسا وبريطانيا- التي حرص قادتها على زيارة «إسرائيل» إبان أحداث اليوم السابع، إضافة إلى تصريحات الرئيس الأمريكي جو بادين، والذي كرر هذا الزعم عن حق الدفاع عن النفس، في أكثر من مناسبة!(1).
لو كانت الذاكرة ما زالت تحتفظ بحقيقة أن «إسرائيل» دولة احتلال، ما كانت هناك حاجة للاختلاف حول مدى أحقيتها في الدفاع عن نفسها من عدمه. لأن الاحتلال بحد ذاته فعل عدواني يستوجب الرفض والمقاومة! فكيف تنعكس المعادلة ليصير الأمر: مِن حق المعتدِي أن يدافع عن نفسه، بدل أن يكون: من حق المعتدَى عليه أن يدافع عن نفسه، وأن يسعى جاهدًا لاستخلاص حقه!
فجاء «طوفان الأقصى»، لا ليذكِّر فحسب بحقيقة وجود الاحتلال وما يترتب عليه من مشروعية المقاومة ووجوبها، وإنما ليذكِّر أيضًا بهذا الوجه العدواني الغاشم للاحتلال، الذي لا يتورع عن إفناء البشر وحرق الشجر وتدمير الحجر، لإنفاذ عدوانيته ومخططاته.. هذا الوجه الذي طالما حاول الاحتلال إخفاءه تحت دعاوى كثيرة، ليروِّج نفسه باعتباره دولة الحقوق والديمقراطية الوحيدة في المنطقة!
سؤال الشرق والغرب
كما جاء «إسرائيل» ليذكِّر بسؤال الشرق والغرب، من خلال ما رأيناه من تكتُّلٍ وتحشُّدٍ للدول الأوروبية خلف الاحتلال، حتى دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بداية العدوان، وأثناء زيارته لـ«إسرائيل» دعمًا لها، إلى توسع التحالف الدولي الذي يحارب «داعش» ليقاتل «حماس»(2)!
كما رأينا دعمًا غربيًّا، عسكريًّا ولوجستيًّا، لدولة الاحتلال في عدوانها على غزة؛ فقد وضعت ألمانيا طائرتين مسيرتين حربيتين من طراز «هيرون تي بي» تحت تصرف «إسرائيل» لتستخدمهما في الحرب الدائرة مع «حماس»، وأعلن وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس عن مناقشات حول تزويد «الإسرائيليين» بذخيرة للسفن(3)، بينما أعلن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك بأن المملكة المتحدة قررت إرسال سفينتين حربيتين وطائرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لتقديم دعم عملي لـ«إسرائيل» وضمان الردع، فيما تستمر الحرب بين «حماس» والدولة العبرية(4).
إذن، ثمة أمور كثيرة أعادت سؤال الشرق والغرب إلى الواجهة من جديد؛ منها:
– الدعم السياسي والعسكري واللوجستي لدولة الاحتلال؛ كما أشرنا توًّا.
– الدعم الإعلامي وتبني الروايات «الإسرائيلية» حتى بعد أن ثبتها كذبها، وأشهر ذلك كذبة قطع رؤوس الأطفال(5).
– كتم الأصوات المؤيدة للحق الفلسطيني، وتصريح حكومات غربية بالعمل على سن قوانين تحظر المظاهرات الداعمة أو العبارات المتصلة بالحق الفلسطيني مثل عبارة «من النهر إلى البحر»، كما حدث في ألمانيا مثلاً(6).
– استدعاء مصطلح «الحرب الدينية»، وهو ما جاء على لسان السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام(7)، مثلما سارع، من قبل، الرئيس الأسبق بوش الابن للحديث عن «حرب صليبية» إبان أحداث 11 سبتمبر 2001م.
كل ذلك وغيره يستعيد سؤال الشرق والغرب، وعلاقة الدول الغربية ونظرتها إلى الدول العربية والإسلامية.. ويجعل من المشروع أن نتساءل:
– هل ما زالت فعلاً تنظر هذه الدول الغربية إلينا، نظرة متأثرة بما خلفته الحروب الصليبية التي دامت نحو قرنين، وتركت أثرًا بالغًا في المخيلة الغربية عن الشرق، ثم جاءت فترة الاستعمار في القرنين التاسع عشر والعشرين لتعيد ذلك للذاكرة؟
– وإلى أي مدى برئت الدول الغربية من نظرتها العنصرية؛ المنطلقة من تفوق الرجل الأبيض.. ومن مركزيتها؛ التي تحجب عنها رؤية غيرها.. ومن سياستها الاستعمارية؛ التي أدت إلى استنزاف خيرات الشعوب العربية والأفريقية؟
سؤال القانون والقوة
وجاء أيضًا سؤال القانون والقوة والعلاقة بينهما، ليطرح نفسَه على الساحة بعد «طوفان الأقصى»؛ وذلك بعدما رأينا خروقات كثيرة للقانون الدولي ولحقوق الإنسان، حين قُصفت المستشفيات، واستُبيحت المدارس وأماكن اللجوء التابعة لـ«الأونروا»، وحين قصفت غزة بمئات الأطنان من المتفجرات.. حتى المساجد والكنائس لم تَسْلم من ذلك!
صار الكثيرون يتساءلون، وبكثير من العتب والألم: أين القانون الدولي من ضمان حقوق الإنسان، ومن هذا التوحش الموغل في القتل والتدمير؟
نعم.. جاء هذا العدوان الغاشم، والصمت المطبق، بل والتواطؤ البيِّن والدعم المعلَن؛ ليضع العالم أمام لحظة كاشفة، وليكون اختبارًا حقيقيًّا للمؤسسات الدولية والمنظمات الحقوقية.
ومع هذا، فمن المهم أن نشير إلى أن استدعاء سؤال القانون، وحده، في مثل هذا السياق، يُغفل حقيقة أن القانون لا يَنْفُذ بذاته في حياة الناس ولا في العلاقة بين الدول، وإنما يحتاج إلى أداة تحفظه وتصونه وتُنْفِذ أحكامه وآلياته.. فالقانون لا بد له من قوة تحميه وتُفعِّله. وحين لا يجد من يملك القوة، رادعًا له عن أن يخترق مساحة الحقوق المقررة والمكفولة؛ فإنه لن يتورع عن استخدام هذه القوة والإفراط فيها.
نعم، مَن أعجزته الحيل، وعدم الناصرَ، ليس أمامه إلا أن يستنجد بالقانون والضمائر.. لكن التاريخ لا يجري هكذا، والدول لا تستحي أن تستدعي القانون متى شاءت -طبقًا لمصلحتها- وأن تغمض عينَها عنه متى شاءت!
وهذا من ناحية أخرى، يجعل دعاة الحل السِّلمي وحده، في لحظة انكشاف أمام أنفسهم، وأمام تهافت خيارهم.. لو كانوا صادقين حقًّا في نصرة القضية وتحرير الأرض.
_________________________________
(1) صدر بيان أمريكي أوروبي مشترك يؤكد أن «إسرائيل» لها حق الدفاع عن نفسها بما يتماشى مع القانون الدولي والإنساني. موقع «العربية»، 13 نوفمبر 2023م، وواضحٌ أن إضافة عبارة «بما يتماشى مع القانون» وُضعت لرفع الحرج فقط، وإلا فهل قَتْل أكثر من 5 آلاف طفل يتماشى مع القانون الدولي والإنساني!
(2) موقع «سكاي نيوز عربية»، 24 أكتوبر 2023م.
(3) موقع «فرانس 24»، 12 أكتوبر 2023م.
(4) موقع «فرانس 24»، 12 أكتوبر 2023م.
(5) تراجع البيت الأبيض عن التصريحات الصادرة عن الرئيس الأمريكي جو بايدن حول رؤيته صور أطفال «إسرائيليين» قطعت رؤوسهم على أيدي عناصر «حماس»، ونقلت شبكة «CNN» عن مسؤول في الإدارة الأمريكية، قوله: إن هذه التصريحات كانت مبنية على مزاعم مسؤولين «إسرائيليين» وتقارير إعلامية محلية، وأوضح المسؤول أن بايدن والمسؤولين الأمريكيين لم يروا هذه الصور، ولم يتحققوا بشكل مستقل من أن حماس تقف خلف هذه المزاعم، موقع «روسيا اليوم» (RT)، 10 أكتوبر 2023م.
(6) أعلنت ولايتا بافاريا وزارلاند الألمانيتان، تجريم استخدام شعار «من النهر إلى البحر» الذي يتم ترديده في المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، موقع جريدة «الشروق» المصرية، 13 نوفمبر 2023م.
(7) قال السيناتور الأمريكي، ليندسي غراهام، خلال مقابلة أجراها مع قناة «فوكس نيوز» ونشر مقطعًا منها في تدوينة على صفحته الرسمية بمنصة «إكس»: «نحن في حرب دينية هنا، أنا مع «إسرائيل»، قوموا بكل ما يتوجب عليكم القيام به للدفاع عن أنفسكم، قوموا بتسوية المكان»، موقع «CNN Arabic»، 12 أكتوبر 2023م.