العطاء يتحول إلى لذة وسعادة للمعطي قبل أن يكون كذلك للمتلقي، وفي فعل العطاء الذي ينبع من داخل النفس يتدفق تيار من السعادة والفرح.
إن أفضل أنواع العطاء هو الإسهام بما نحب، وتقديم الدعم لمن يحتاجه، مما يخلق سيولاً من السعادة ويغمر القلب بالفرح.
يكمن جمال العطاء في إيلاء الاهتمام لما يحمله الآخرون في حاجة، وكما جاء في قول الله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (آل عمران: 9).
وفي هذا الموقف، حكاية واقعية عن علبة جبنة لم ينسها صاحبها ما بقي.
يقول أحدهم: في إحدى أيام الشتاء ذهبت وقت العصر وهو وقت غفلة بعد الدوامات والأعمال غالباً لإحدى البقالات، واشتريت بعض حاجات المنزل.
في طريق العودة، لمحت امرأة ابنتها الصغيرة ذات السنوات الخمس تنقبان في حاوية كبيرة للقمامة، موضوعة في ساحة تحفها عشرات العمارات والشقق السكنية، ولا تسأل عن رثاثة الثياب، وسوء المنظر والنظافة، يقول: فأوقفت عجلات السيارة، وأنزلت طرفاً من زجاجة النافذة قائلاً لها: عن ماذا تبحثين يا أختي؟ فقالت: أجمع بقايا الطعام والخبز، ثم أقوم بتنظيفه ووضعه في الشمس، ثم أطعمه أولادي الصغار، وقد كانت بالفعل تحمل كيساً نظيفاً شفافاً استطاعت أن تجمع فيه كسرات من خبز وأشياء أخرى.
يقول هذا الرجل: لقد هزني الموقف، وحرك وجداني، وودت لو أنني أملك من المال ما يمكنني أن أغيّر من هيئتهم، بل من حياتهم، ولم يكن قد تبقى معي من مال أحمله في محفظتي سوى بضعة دنانير، فأخرجتها وأعطيتها ثم قمت مباشرة بفتح كيس البقالة واقتسمت كل ما فيه.. فلما نظرت إلى الجبن، فإذا هو علبة واحدة اشتريتها لا ثاني لها، وقد كانت هي سبب خروجي من المنزل أصلاً للذهاب إلى البقالة، وجاءني الشيطان سريعاً بأزة اللعين ليقول: كفاك ما أعطيتها، علبة الجبن لك، زوجتك تنتظر العلبة لتصنع الطعام لأولادك.. لكنني قطعت عليه السبيل سريعاً فقلت: تفضلي علبة الجبن.
هنا، شعرت بسرور غريب يغمرني، وسعادة عظيمة تحفني، وعدت إلى البيت وأنا أحمل معي هذا الشعور، فوضعت ما تبقى من أغراض البقالة بين يدي زوجتي، فلم تسأل عن جبن ولا غيره.
عندما نتحدث عن تلك العلبة البسيطة من الجبن، نجد فيها قصة لا تُنسى.
يشير صاحبها إلى أنه يجد حلاوة طعم الجبن في كل مرة يتناولها، ولكن هذا القول يرتبط بموقف لا يُنسى حيث كانت تبحث عن قطعة خبز يابسة ملقاة في سلة القمامة، بحثاً عن شيء لتطعم به ابنتها.
كيف كانت تلك الليلة التي قضتها هي وابنتها مع تلك العلبة البسيطة من الجبن وبقية الحاجيات؟
يعتبر صاحب القصة أن مثل هذه اللحظات السعيدة لا يمكن شراؤها بالمال، بل تأتي كهبة وقدر من الله، يؤكد أيضاً أن مشاعرها لا تأتي بسبب الثروة، بل تأتي من التجارب الحياتية التي قد تكون بسيطة في مظهرها ولكنها تحمل قيمة كبيرة في القلوب.
________________________
(1) كتاب من روائع وبدائع القصص الواقعية والافتراضية في الصدقات، انتقاء د. محمد الملا الجفيري.