مشاهد الإبادة الجماعية وصور المجازر الوحشية التي يرتكبها الجيش الصهيوني الغاشم في غزة، على مرأى ومسمع من العالم كله طوال أكثر من شهر ونصف شهر قبل إعلان الهدنة الحالية، ذلك القتل والتدمير والحصار والتهجير، وكل تلك المآسي التي تولد الكثير من مشاعر الحزن والألم للمتابع من بعيد ممن لديه ضمير إنساني، فكيف بأهل غزة الذين يعانون منها من قريب، وبطبيعة الحال فإن تلك المحنة العظيمة عادة تسبب الكثير من اليأس والإحباط، كل ما سبق لا ينبغي أن ندعه يتغلب على مشاهد الثبات والصمود الأسطوري لأهلنا الغزاويين العظماء؛ التي تدل على معاني قوة الإيمان وتبعث مشاعر الأمل والتفاؤل، والشموخ والصبر والاستعلاء؛ مما أثار في العالم إعجاباً منقطع النظير عبَّر عنه القريب والبعيد والمسلم والكافر.
تلك المشاهد الأسطورية وآثارها الإيجابية نحن أحوج ما نكون للوقوف عندها وإظهارها لتكوين توازن نفسي مهم جداً في ظل ركام صور الوضع المأساوي المؤلم، والله إنها لتتصاغر ذواتنا وتتضاءل كلماتنا أمام تلك المشاهد الملهمة التي أبهرتنا وأبهرت الناس في كل نواحي المعمورة، ويعجز اللسان عن التعبير عن مدى الاندهاش والإعجاب بها!
ذلك الصمود الأسطوري تتجلى حقيقته في تلك الصور والمشاهد المذهلة المتكررة التي تُنقل لنا يومياً ومن أمثلتها:
– مشاهد الرضا والتسليم لله وعدم الانهيار والسخط مهما كان المصاب أليماً وثقيلاً؛ كفقد العائلة كلها أو معظمها، وتدمير المنزل، فيتلقى أحدهم ذلك بقوله: الحمد لله، شهداء في سبيل الله، كل ذلك فداء لفلسطين و«الأقصى»!
– مشاهد الثقة والأمل لأهل غزة وهم يقولون في وسط مشاهد الدمار والقتل: سننتصر وسنلتقي ونصلي في «الأقصى» قريباً، إن شاء الله!
– مشاهد الثبات والتحدي والإباء التي نسمعها كل يوم بقولهم: لن نخرج من أرضنا وبيوتنا حتى لو استشهدنا كلنا!
– مشاهد الأمهات العظيمات المذهلات اللاتي يبهرن العالم بقولهن: أولادنا يستشهدون وبطوننا تحمل وتلد غيرهم وبيوتنا تدمر ونحن نبني غيرها!
– مشاهد الأطفال وهم يتحدون الوحشية بابتساماتهم وكلماتهم القوية المدهشة؛ مثل ذلك الطفل الذي انتشر له فيديو يحكي حواراً دار بينه وبين أمه مفاده: هي تقول له: يا بني، ألم يتحرك أحد لنصرتنا؟ فيرد عليها: نحن مثل النبي إبراهيم، لو جاءنا جبريل وقال لنا: ماذا تريدون؟ لقلنا له: أما منك فلا نريد شيئاً، وأما من الله فنعم!
ما سر هذا الصمود الأسطوري؟!
لقد أحدثت تلك المشاهد المذهلة هزة كبيرة للإنسان الغربي ووقْعاً خاصاً في عقله المادي وهو غير معتاد على ذلك، وشغله تساؤل محير صار بمثابة لغز يتمنى فكه وحله، هذا التساؤل مفاده: ما سر هذا الثبات والصمود الأسطوري؟!
وممن عبر عن ذلك الانبهار بأوضح عبارة تلك المرأة الأمريكية في فيديو نشرته وتم تناقله بشكل كبير قالت فيه: «هذا شيء لم أر مثله في حياتي، رأيت كثيراً من المقاطع لأشخاص خسروا كل شيء حتى أطفالهم، يحملون جثث أطفالهم بين أيديهم، وما زالوا يحمدون الله!».
دفعهم هذا التساؤل للبحث عن الجواب، وهل هو مادي أو روحي؟! ولعدم وجود جواب مادي محسوس، لا يبقى أمامهم إلا البحث عن الجواب الروحي، وهو المعتقدات التي يؤمن بها أهل غزة، فلعلهم يجدون فيها السر الذي يبحثون عنه، وأعلن بعضهم على مواقع التواصل الاجتماعي أنهم بدؤوا دراسة الإسلام وقراءة آيات القرآن، بل تطور ذلك لدى البعض أن دعوا غيرهم لمشاركتهم تلك الدراسة وأسسوا مجموعات لمن يرغب في ذلك، وبفضل لله قاد ذلك بعضهم إلى اعتناق الإسلام وإعلانه على الملأ، وبعضهم ما يزال في مرحلة البحث عن الحقيقة والرجاء أن يصل إليها إن صدق، ويمكن القول هنا: إن أحداث غزة وصمود أهلها كان بمثابة انطلاق مشروع عملي للدعوة العامة والتعريف بالإسلام بطرق إعلامية مفتوحة في كل أنحاء العالم، وبلغات مختلفة على يد أشخاص غير مسلمين، وهذا بحد ذاته مكسب مهم يذكر من ضمن مكاسب أحداث غزة.
وقد حدث ما يشبه ذلك للدبلوماسي والفيلسوف الألماني مراد هوفمان في ستينيات القرن الماضي أثناء عمله في الجزائر في فترة الاستعمار الفرنسي، فقد لاحظ الصمود الأسطوري الجزائري والكفاح من أجل الاستقلال ومدى التحمل والثبات رغم المعاناة القاسية بسبب وحشية الجيش الفرنسي وقيامه بمجازر مروعة، وكان ذلك من أهم أسباب إقباله على دراسة الإسلام ثم اعتناقه بعد ذلك، وقد عبر عن ذلك في بعض حواراته فقال: «خدمتُ 30 سنة في السلك الدبلوماسي الألماني، وكانت البداية في الجزائر أثناء حرب الاستقلال، وقد أثّر فيّ التزام الشعب الجزائري، بالرغم من كلّ المعاناة، فقلتُ في نفسي: إنه يجب عليَّ قراءة الكتاب الذي يجعلهم يتصرّفون بهذا الشكل، ولم أتوقف عن قراءة القرآن، هذا هو الذي هداني للطريق إلى مكّة».
يدخلون في دين الله أفواجاً
وهنا يستحق أهلنا في غزة التهنئة والبشرى بهذا الأثر الدعوي العظيم الذي أحدثوه، والشرف لهم بأن كانوا سبباً في ذيوع صيت الإسلام عالمياً وانتشار سمعته الجميلة، وبفضل الله فإن من يدخل في الإسلام بسببهم ليسوا أفراداً فقط، بل جماعات وأفواجاً، وقد ذكرونا بسورة «النصر» التي قال فيها ربنا عز وجل: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ {1} وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً {2} فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر).
ونبشرهم بالأجر الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام: «فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم» (متفقٌ عليهِ).
آمنا بالله رب أهل غزة
وذلك يذكرنا أيضاً بالقصة المشهورة العجيبة التي حكاها النبي عليه الصلاة والسلام عن الغلام المؤمن مع الملك الكافر الظالم، حيث تأثر الناس بثباته وتضحيته بنفسه في سبيل إظهار الدين الحق، وكان نتيجة ذلك أن أعلن الحاضرون جميعاً إيمانهم وصاحوا: «آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام»، ولما عرّضهم الملك الظالم للتعذيب الوحشي والحرق بالنار صمدوا ذلك الصمود الأسطوري،
وقد أشار القرآن لذلك في سورة «البروج» حيث قال تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ {4} النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ {5} إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ {6} وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ {7} وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ {8} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ {9} إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ {10} إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) (البروج).
والحقيقة أن ذلك الإقبال على التعرف على الإسلام والدخول فيه بسبب التأثر بذلك الصمود الأسطوري لأهلنا في غزة ليس مقتصراً فقط على من ظهروا في مواقع التواصل الاجتماعي فقط، بل لاحظنا كمقيمين في أوروبا أن هناك تزايداً واضحاً في أعداد الذين يقدمون إلى المساجد والمراكز الإسلامية في المدن الأوروبية من غير المسلمين للسؤال عن الإسلام وإعلان الدخول فيه بحمد الله تعالى.
الشهود الحضاري
إن ذلك الصمود الأسطوري الذي أدهش العالمين ليمثل صورة من صور الشهود الحضاري على الأمم في عصرنا الحاضر الذي أشار إليه القرآن بقوله: (كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة 143).
وبالتحديد، فإن هذا الشهود يظهر من جهة آفة من آفات هذا العصر، ومرضاً من أمراضه المستعصية التي سيطرت على البشر بشكل غير مسبوق؛ ألا وهو مرض «القلق»، حتى أصبح يطلق على عصرنا «عصر القلق»، القلق لأي سبب ولفقد أي شيء من ملذات الحياة من مال أو حبيب، الاكتئاب المروع الذي تزداد نسبه كل يوم، وأدى بالكثير إلى المعاناة النفسية الخطيرة، ثم الانتحار في كثير من الأحيان، وكل ذلك دليل على الضعف والهشاشة النفسية أمام صدمات وتحديات الحياة، وهنا يظهر أهلنا في غزة وبكل فخر ليمثلوا نموذجاً فريداً وتحدياً أسطورياً لداء هذا العصر، ويسطّروا صفحة بيضاء في سجله المظلم، فرغم أن الكثير منهم بطبيعته البشرية يقاسي المعاناة الكبيرة لفقد منزله وعائلته في لحظة من زمن من جراء القصف الوحشي الهمجي لطائرات الجيش الصهيوني الظالم الغاشم، وأمام تلك المناظر المرعبة التي تهز الجبال وينهار بسببها أقوى الرجال، وتوحي بفقد الأمل في الحياة والشعور بالمستقبل المجهول، لكنهم يتلقون ذلك كله بنفوس مؤمنة قوية فولاذية، ووجوه مبتسمة، ولا يصدر منهم إلا كل عبارات الرضا والتسليم بقدر الله وقضائه، كل ذلك امتثالاً لقوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة).
ولو أن ديل كارنيجي، صاحب كتاب «دع القلق وابدأ الحياة»، كان حياً وعايش معنا أحداث غزة، لنصح بني قومه في الغرب بمشاهدة هذا الصمود الأسطوري كعلاج للقلق، واستلهام الدرس منه للبداية بحياة جديدة مليئة بالأمل والتفاؤل.
اللهم اربط على قلوب أهل غزة، وثبت أقدامهم، وزدهم صموداً وثباتاً وصبراً، وانصرهم على عدوهم الظالم الغاشم يا رب العالمين.