ما زلنا نتنسم فنونًا(1) من طيوب آل البيت، ونمدُّ أبصارنا معجبة طوَّافة في بستانيهم الغنَّاء(2)، فهل أتاكم نبأ هذا الجواد الكريم عبدالله بن جعفر رضي الله عنه؟
لنستمع إلى شيء منه، قال عنه شهاب الدين الأبشيهي في «مستطرفه»: كان من الجود بالمكان المشهود، وله فيه أخبار يكاد ينكرها سامعها لبعدها عن المعهود.
ثم ساق الأبشيهيّ من أخبار جوده ما يقيم الدليل جليًا على معنى مقولته، فقال: وكان معاوية رضي الله عنه يعطيه ألف ألف درهم(3) في كل سنة، فيفرقها في الناس ولا يُرى إلَّا وعليه دين، فلمَّـا مات معاوية وفد عبدالله بن جعفر على ابنه يزيد فقال له: كم كان يعطيك أمير المؤمنين معاوية؟ فقال: كان رحمه الله يعطيني ألف ألف، فقال يزيد: قد زدناك لترحمك عليه ألف ألف! فقال عبدالله: بأبي وأمي أنت، فقال يزيد: ولهذه ألف ألف!
فقيل ليزيد: أعطيت هذا المال كله من مال المسلمين لرجل واحد؟! فقال: والله ما أعطيته إلَّا لجميع أهل المدينة!
كان يزيد يعني أن عبدالله يتعهد كل أهل المدينة ويتفقد حاجاتهم.
ووكَّل به يزيد من صَحِبَهُ وهو لا يعلم لينظر ما يفعل، فلمَّـا وصل المدينة فرَّق جميع المال حتى احتاج إلى الدَّيْنِ بعد شهر، ولمَّـا لامه ابنا عمه الحسن، والحسين، رضي الله عنهما: إنك قد أسرفت في بذل المال!
قال: بأبي أنتما، إن الله عزَّ وجلَّ عوَّدَني أن يتفضل عليَّ، وعوَّدْته أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عني المادة!
لِيُعقب كلٌّ بما شاء، ثم يعيد الإنصات إلى شهاب الدين الأبشيهي، وهو يقول: خرج عبدالله بن جعفر يومًا إلى ضيعة له، فنزل على حائط به نخيل لقوم وفيه غلام أسود يقوم عليه، فأتى بقوته ثلاثة أقراص(4)، فدخل كلب فدنا من الغلام، فرمى إليه بقرص فأكله، ثم رمى إليه بالثاني والثالث فأكلهما، وعبدالله رضي الله عنه ينظر إليه، فقال: يا غلام، كم قوتك كل يوم؟ فقال الغلام: ما رأيت! قال عبدالله: فلمَ آثرت هذا الكلب؟ قال الغلام: أرضنا ما هي بأرض كلاب، وإنه جاء من مسافة بعيدة جائعًا فكرهت أن أرده، قال عبدالله: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي(5) يومي هذا! فقال عبدالله: أُلام على السَّخاءِ، والله إن هذا لأَسْخَىَ مني!
فاشترى الحائط وما فيه من النخيل والآلات، واشترى الغلام ثم أعتقه، ووهبه الحائط بما فيه، فقال الغلام: إن كان ذلك لي فهو في سبيل الله.
فاستعظم عبدالله ذلك منه، وجعل يردد: يجود هذا وأبخل أنا؟ لكان ذلك أبدًا!
لله در عبدالله بن جعفر، والله لو سبق حاتمًا بيوم ما ذكرته العرب(6)، ولله در الغلام الذي ناظره في جوده، وربما أطلّ من بين أفكارنا سؤال خجول: أليس ما يفعله عبدالله بن جعفر تبذيرًا وإسرافًا؟ وربما وقع في ذهن أحد القراء قوله تعالى: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ) (الإسراء: 27).
فنقول: إن المعنى المقصود أن المبذرين أمثال الشياطين في هذه الصفة، وأن كل ما ينفق في ألوان الباطل البعيدة عن وجوه الحق كان تبذيرًا ولو كان قليلًا، أمَّـا ما ينفق في وجوه الحق من أجل وجه الله فحسب لا يكون تبذيرًا حتى لو أنفق الإنسان في ذلك ماله كله.
ثم نردف سائلين: هل كان عبدالله بن جعفر ينفق في وجوه الحق من أجل وجه الله، أم كان ينفق ابتغاء وجه آخر؟
ولندعه يجيب كما أجاب على ابني عمه الحسن، والحسين رضي الله عنهما، لمَّـا لاماه على الإسراف: إن الله عوَّدني على أن يتفضل عليَّ، وعوَّدته أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع عنهم العادة فيقطع عني المادة.
وإن قوله «وعوَّدته» عن الله عز وجل يفيد تمام الإفادة بأنه كان يقصد وجهه سبحانه وتعالى، كما يصح أن نستعين على الإجابة بقول يزيد بن معاوية عندما قيل له: أعطيت هذا المال كله لرجل واحد، فقال: والله ما أعطيته إلَّا لجميع أهل المدينة.
ولمَّا وكَّل به من ينظر ما يفعل دون أن يعلم، وجده فرَّق جميع المال في أهل المدينة حتى احتاج إلى الدَّيْن بعد شهر! فهل كان فقراء المدينة وجوه حق أم ألوان باطل؟
وهنا نشعر برغبة ملء الجوانح في الضرب صفحًا عن كلام يزيد وفعلته، بل سيرته كلها فما أعجبتنا يومًا، وما زالت أفئدتنا التي تبغضه بين جوانحنا(7)، ونتعداه إلى أبيه معاوية رضي الله عنه ونستميحه عذرًا في استعارة مقولته في عبيد بن العباس رضي الله عنهما: لله درّ(8) عبيد الله من أي بيضة خرج ومن أي عش درج(9)؟!
لنخلعها في أبهى حُلَّةِ على عبدالله بن جعفر، ثم نجيب وملء نفوسنا إعجاب: خرج من بيضة أسماء بنت عميس رضي الله عنها السيدة المصونة صاحبة السيرة الميمونة، أخت السيدة ميمونة بنت الحارث، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأخت أم الفضل بنت الحارث امرأة العباس رضي الله عنه، أسلمت قديمًا وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب وأنجبا عبدالله هناك.
ولئن استشهد أبوه جعفر قبلما تذاع عنه أخبار جوده، وتشيع منه أنباء كرمه فيكفينا هذا الخبر مقيماً الدليل على ذلك، فمن أخبار كرم جعفر بن أبي طالب أنه كان يقول لأبيه في بواكير شبابه: يا أبتِ، إني لأستحيي أن أُطعم طعامًا وجيراني لا يقدرون على مثله.
وكان أبوه يقول له: إني لأرجو أن يكون فيك خلف من عبدالمطلب.
ولمَّـا استشهد جعفر عن السيدة أسماء تزوجها أبو بكر الصديق، ولمَّـا مات عنها أبو بكر، تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً.
عَمِدتُ إلى سوق هذه الفقرة التي تبرز لنا أزواج السيدة أسماء لنأنس لمعنى أن عبدالله بن جعفر نشأ في أكناف أهل الرِّفْدِ(10) والإحسان، ودرج في أعشاش خاصَّة الإنَـاَلَةِ(11) والإنعام، حيث نشأ في كنف أبيه جعفر بن أبي طالب، ثم ربيبًا في كنف أبي بكر الصديق، وربيبًا في كنف عمه عليّ بن أبي طالب، والذي نشأ في أكناف جعفر، وأبي بكر، وعليّ لا بد أن يكون من طراز عبدالله بن جعفر.
ولسنا واهمين إذا قلنا: بل إنه نال حظه من النشأة في الكنف النبوي الشريف، أما كان النبي صلى الله عليه وسلم عمه؟ أما كانت خالته ميمونة عنده صلى الله عليه وسلم؟ بلى، كان وكانت.
أمـا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويردفه وراءه؟ يقول رضي الله عنه: «ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلته وأردفني خلفه»(12).
وهكذا ولِد عبدالله بن جعفر ودَرَجَ بين أحضان العزَّةِ والشرفِ، وسار في أيامه يُبْسِط عليه النعيم رداءه، وتتألق في مزاياه استنارة عقله، وبسطة كرمه ويحفران له في الحياة مجراه.
وعندما دخلت الدنيا في عام ثمانين هجرية توفي عبدالله بن جعفر وعمره تسعون عامًا، وقيل: نحو إحدى وتسعين عامًا، وقيل: مات وله اثنان وتسعون عامًا، وأمير المدينة أَبان بن عثمان بن عفان للخليفة عبدالملك بن مروان فحضر غُسْلَهُ وكَفَّنَهُ، والناس يزدحمون على سريره، وأبان بن عثمان حاملًا السرير بين العمودين وما فارقه حتى وضعه بالبقيع وإن دموعه لتسيل على خديه وهو يقول: كنت والله خيرًا لا شر فيك، شريفًا واصلًا برًا.
وروى عبدالله بن جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث، وروى عن أمه أسماء بنت عميس، وعمه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم، وروى عنه بنوه إسماعيل، وإسحاق، ومعاوية، وكذلك محمد بن عليّ بن الحسين، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، والشعبي.. وغيرهم.
وعندما أَسْفَر القدر(13) عبدالله إلى ربه كان قد منح سيرته عظمة تُذْكر، وثناء يخلد.
______________________________
(1) أنواع وألوان.
(2) الحسنة المليئة بالأشجار والثمار، كناية عن جمال أخبار آل البيت وكثرتها.
(3) مليون درهم.
(4) أرغفة وقوته يعني طعامه.
(5) الطُوَى: الجُوعُ، بات على الطَّوى: بات جائعًا.
(6) وردت هذه العبارة على لسان أعرابي قالها في عبيد الله بن عباس رضي الله عنه.
(7) جَوَانِحُ الإنسان: أضلاعه القَصِيرَةُ ممَّا يلِي الصَّدر.
(8) لله درّ: كلمه تقال في المدح والتعجب، وهي كناية عن التعجّب من مزيَّة فاق بها المتعجَّب منه غيره.
(9) يقصد رضي الله عنه بالبيضة التي خرج منها البطن التي أنجبته، والعش الذي درج فيه كنف الرجل الذي رباه، وكان معاوية يعلم البيضة والعش، ولكنه قال ذلك إعجابًا بعبيد الله بن عباس.
(10) العطاء والصلة.
(11) أكثر أهل الإنَـاَلة والعطاء.
(12) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/ 204).
(13) جعله يسافر إلى ربه ونهاية مصيره.
(14) سيرة ابن هشام (1/ 187)، أنساب الأشراف (3/ 292)، تاريخ الطبري (10/ 305)، الإصابة (4609)، الاستيعاب (1506)، أُسد الغابة (2864)، المستطرف في كل فن مستظرف/ باب في الجود والسخاء والكرم، وباب في الشرف والسؤدد وعلو الهمة (1/ 149)، سير أعلام النبلاء (3/ 456).