فوزية عرفان
الحمد لله!
انتهى الصيف القائظ، وهأنذا أستروح نسمات الخريف الباردة، في ليل سبتمبر المتقلب، الحمل يثقل، وأنا وحيدة في الدار التي يسميها أهل القرية بالقصر.
لهم حق، بناها أبي في فدان من الأرض الزراعية الخصبة، واستقدم لها أفضل البنائين، وعمال التشطيب والنجارين، صارت الدار تحفة فنية تختلف عن سواها من البنايات التي لا تعدو أن تكون خرسانة جهمة كالحة، لا ذوق فيها ولا فن.. عَهِد أبي إلى مهندس كبير من بنها بتصميمها والإشراف عليها.
قال له المهندس في حزم: لي طلب واحد.
رد أبي في استسلام: ما هو؟
قال: ألا تتدخل في عملي حتى أسلّمك المفتاح!
رد أبي: لك هذا.
وانتقل أبي بإحدى زوجاته إلى الدار الجديدة، وتركنا في بيته القديم بالقرية مع زوجتيه الأخريين.
انبهر الفلاحون بالدار وتصميمها وألوانها. سمّوها القصر.. قصر عرفان، أو قصر الحاج عرفان حين يتحدثون أمامه ويريدون توقيره.. أربعة طبقات يدخل النور غرفاتها جميعاً من جهات مختلفة، شرفاتها على هيئة أنصاف دوائر، والزخرفة الفنية الراقية تشمل كل جزء في الدار، بدءا من المدخل إلى السطح الذي زينه بالآجر الأحمر على هيئة الأهرام، تحفّه.. حديقة جميلة متنوعة الأشجار خطط لها مهندس زراعي متخصص في إنشاء الحدائق والبساتين.
تساءل الفلاحون، المثقفون منهم: ما علاقة أبي بهذا الجمال الفني؟
زرتها مرة مع بعض أخواتي، فرأيت الرخام المستورد يغطي أرضيتها، والألوان الرائعة تشدّ الأبصار، وشاهدت مصابيح الكهرباء تضيء الدار ليلاً وتحولها إلى نهار، أعدّ أبي مولّداً كهربياً ضخما يضيئها عندما ينقطع تيار الكهرباء الحكومي، وما أكثر انقطاعه. تساءلت في نفسي: “لماذا يا أبي تتركنا في البيت القديم وتأتي إلى هنا مع زوجتك الجديدة صغيرة السن، كأنها ابنتك، كأنها أنا؟”، هي تكبرني بأعوام قلائل، ولكنها ابنة المدينة التي ترتدي فساتين الموضة، هل يكسب الميني جيب في زمن الانفتاح؟
***
في حفل الخطوبة (الشبكة) حضر وجوه القرية، أقام أبي سرادقاً ضخماً رُصَّت فيه الكراسي المذهبة أمام المسرح الذي خصص لي وللعريس، على يميننا ويسارنا تتوزع فرقة موسيقية قيل إنها من أفضل الفرق التي تعمل في الإذاعة والتلفزيون، ويتحرك بامتداد المسرح مطرب ضخم الجثة بارد النغمة، يتفنن في تحريك الجمهور ليشارك بالتصفيق والهتاف والرقص أحياناً، لا يمكن أن يكون مطرباً في الإذاعة والتلفزيون.. تتفاعل معه راقصة تعرّي كثيراً من أجزاء جسمها “المكرمش”، الذي استهلكته سنوات “المرمطة”، وعلى وجهها أصباغ ثقيلة فاقعة، وبين الصخب وقرع الطبول وصلصلة الصاجات، رأيته في المقاعد الأمامية، تمنيت أن يكون عريسي، بدلاً من الكائن الذي يجلس بجواري، ابن أصول حقاً، مع أنه ترك الدراسة الجامعية وعاد إلى القرية كما سمعت ليتولى الإشراف على أرض والده الزراعية.. اشتهر بالاستقامة والمروءة، تحدثت عنه البنات كثيراً قبل أن أشاهده ذات مرة في مجلس القرية الذي أعمل به، عرفت أن اسمه “سعد إدريس حلاوة”، وفيه كثير من الحلاوة والشباب والنضارة، إنها القسمة والنصيب!
صورته لم تفارق مخيلتي، مذ غادر المجلس بعد انتهاء موضوعه مع الموظف المختص، يأتي يوم زفافي، ويجلس في المقاعد المذهبة التي أمامي بحكم أنه من أبناء الأعيان أو العائلة الكبرى والأغنى في القرية، كان هادئاً مطمئناً، بينما الآخرون يهتزون ويتمايلون مع الصخب الموسيقي والضجيج الغنائي، وتمايل الراقصة العجوز، كان تفكيري منصباً على العريس الذي بجواري ولا أريده، ولكن أبي أصر بعد أن كبرت سني وسقطت في بئر مظلمة أن أكون زوجاً له.. تجاهل أبي مرغماً الفارق المادي والعلمي بيني وبينه، فقد كان رجل الإنقاذ دون أن يدري أحد! هو يحمل دبلوم صناعة، وأنا أحمل الليسانس، هو فقير وأنا غنية.. أبي يملك أرنباً (مليون جنيه) أو أكثر وهو لا يملك إلا يوميته في إحدى ورش تصليح السيارات..
قالت أمي لأبي في بيتنا القديم ذات يوم حين سمعته يذكر الأرنب مع أحد التجار ويعقد معه صفقة: ما معنى الأرنب يا عرفان؟
ضحك ساخراً وهو ينفث دخان الجوزة، وقال: ألا تعرفين معنى الأرنب يا خضرة؟ إنه اسم المليون جنيه.. مليون جنيه يا خضرة!
تعجبت أمي، وأردفت بسذاجة ريفية:
ـ حتى الأرانب يسمون بها الفلوس!
– الأرانب اسم جديد اخترعه الأغنياء الجدد بعد الانفتاح.
– وما هو الانفتاح يا عرفان؟
– ألا تشاهدين التلفزيون يا خضرة؟ الانفتاح جاء بعد الانغلاق، في عهد الزعيم كان هناك انغلاق، وفي عهد المؤمن كان انفتاح.
ونظر إليها فوجدها حائرة، فهي لا تفكر في شيء أبعد من البيت والأولاد والمطبخ والزيجات الجديدة التي جعلت نساء أخريات يشاركنها البيت، بعضهن مضين بعد الطلاق، وأخريات جئن بديلا بالزواج، حتى بلغ أبي الكهولة فتوقفت حركة الزواج والطلاق..
قال لها شارحاً:
– في عهد الانغلاق كانت الدولة تتاجر في كل شيء وتتدخل في كل شيء وتملك كل شيء. تحكمت في التصدير، ومنعت الاستيراد من الخارج إلا لضرورة، فتوقفت أحوال الناس. أما الانفتاح فجاء ليتمكن الناس من الاستيراد والتصدير والسفر.
قالت خضرة تحاول التخلص من الكلام الذي لا يعنيها:
– طيب، ما الذي أدخل الأرانب إلى الانفتاح؟
ـ سحب أنفاس الجوزة، وقال لها في صيغة المعلّم وهو يتذكر ما سمعه من التجار الكبار الذين يخالطهم في المدينة، ويحفظ لغتهم ومصطلحاتهم:
– تمكّن التجار بفضل الانفتاح أن يستوردوا كل شيء يا خضرة، واستطاع بعضهم استيراد اللحوم الفاسدة، وأكل القطط والكلاب، والسلع التي لا يشتريها الفقراء، وراح كثير من النصّابين يقترضون الملايين من البنوك بأساليب ملتوية ويهربون بها إلى الخارج، بحجة الاستيراد أو إقامة مشروعات إنتاجية..
قاطعته خضرة متأففة:
– وما علاقة الأرانب بكل هذا يا عرفان؟
– الملايين هي الأرانب يا خضرة. من يملك عشرة ملايين فهو يملك عشر أرانب، وهو أغنى ممن يملك تسعاً، ومن يملك ثماني فهو أغنى ممن يملك سبعاً وهكذا….
– ومن لا يملك أرنبا؟
– يملك وركا.
– ورك؟
– نعم.. ورك يا خضرة. والورك ربع مليون، ونصف الأرنب نصف مليون، وثلاثة أوراك: ثلاثة أرباع المليون!
– كنت أحسب الأرانب في دارنا للذبح فقط!
– الحمد لله، عندنا أرانب للذبح، وأرانب من الملايين!
– ربنا يزيدك يا عرفان. ثم أردفت:
– كنا زمان نسمع عن الألف جنيه، فنقول إن الملك هو الذي يملك ألف جنيه..
ثم تنهدت:
- أيام!!.. الله يرحم زمان!!
ضحك أبي، وقال لها:
– تعرفين يا خضرة.. الألف جنيه يسمونه الآن باكو. أو أستك.. والمائة جنيه يسمونها بريزة!
– أووه.. دعنا يا عرفان من الفلوس وأصحابها.. وليتك تهتم بالعيال مثلما تهتم بالملايين أو الأرانب!
أمي لا تعرف الانغلاق ولا الانفتاح، وتحملت أبي مذ تزوجته فقيراً قبل عقود، ومع الألم الذي تشعر به وهو يدخل عليها بين حين وآخر بزوجة جديدة تعرف عليها وهو يلف بالقرى والمدن على عربته التي يجرها حمار، ويضع عليها الخردة التي يشتريها، فإنها من أجلنا نحن البنات صبرت، وواصلت الحياة، ورضيت بالأمر الواقع.
***
كنت على المنصة لا أدري هل ستتم الزيجة أم تلحق بخطوبة سابقة فاشلة.. يبدو أن التقاليد الجديدة لزيجات هذه الأيام لا تبشر بالخير، حفل كبير للشبكة، حفل آخر لعقد الزواج، حفل ثالث للزفاف، وهناك من يقيم مهرجاناً لشراء العفش والمنقولات من المدينة إلى بيت العريس، ثم بعدئذ تفشل الزيجة لأسباب تافهة في معظمها.. خطوبتي السابقة قبل عقد من الزمان أخفقت لأن العريس كان يريد أن نسكن في بيت أسرته، وأصررت أنا على السكن في المدينة، مع أنه لا يوجد بها أقارب أو معارف، أي سنكون وحدنا مقطوعين من شجرة، كان يحبذ السكن مع الأسرة، فهم أنس لنا، وقريبون منا، وعند الطوارئ يلحقون بنا، إنهم كما كان يقول يملأون حياتنا. المدينة وحدة وعزلة وحياة جافة، قبل موعد الزفاف بنحو شهر، قلت له في حسم:
– لابد أن أعيش حياة مستقلة، لا أحب أن يشاركني أحد في حياتي.
قال لي مستغرباً:
– نحن لنا شُقّتنا. وهم بجوارنا يطمئنون علينا ونطمئن عليهم، دون أن يتدخل أحد في حياة الآخر!
لم أعبأ بكلامه وقلت في تحدّ:
– لك الخيار. إما أن نعيش مستقلين في المدينة، أو يذهب كل منا في طريق!
– ألم نتفق قبل الخطبة على العيش في منزل أسرتي؟
– قلت ما سمعته!
تصورت أنه سيقبل ويخضع، ولكني فوجئت به يمهل أبي شهرا لإعادة التفكير، وإلا فليكن الفراق!
لا أنكر أنه كان شخصا طيبا، وقضى فترة طويلة في التجنيد قبل العبور حتى خرج بعده إلى وظيفته، وهو نظيف اليد والقلب، وكان عصاميا يجتهد في حياته العلمية والاجتماعية ليكون إنسانا محترما ذا حيثية بين أهله وذويه وأهل القرية. وتصورت أنه مع طيبته التي تقترب من السذاجة سيسلّم بما أريد، ولكنه فاجأني بما نقله إليّ أبي!
لم أكن أفكر فيه على كل حال، كنت متيمة بشاب يسكن بالقرب منا، كان يغازلني بكلام حلو، ويُسمعني ما أطرب له من الأحلام والأماني. كان يعمل مع أبي أحيانا، رفض الوظيفة التي كانت تمنحها القوى العاملة للخريجين من حملة الشهادات المتوسطة والعليا، ورأى أن دبلوم التجارة الذي يحمله لن يحقق له في الوظيفة الحكومية دخلا مثل الذي يحصل عليه من العمل في الخردة مع أبي. كان يضرب المثل دائما بأبي الأمي الذي لا يعرف كتابة اسمه. لقد صار من أصحاب الأرانب، مع أنه لم يتخل عن عربته وحماره وجلبابه البلدي، واللف في شوارع القرى والمدن لشراء الخردة والتجارة فيها!
فسخ الشاب الطيب خطوبته لي، وزغردت في داخلي، وأحسست بالحرية التي ستقربني من صبيّ والدي، وعشت أنتظر لحظة أن يطلبني من أبي، ولكنه كان يكتفي بالكلام الحلو، واللقاءات المختلسة، مرت شهور وسنوات وهو يمنيني ويعدني، ولكنه لا يفعل شيئا، عرفت أن له طريقا آخر. يقيم علاقاته الآثمة مع بعضهن، دون أن يتحمل مسئولية زواج أو أبناء، ولكني كنت متيمة به.. كبرت سنّي، وبدأ الأفول واقتربت من الذبول، وكان على أن أقبل بالجالس بجواري، بعد أن احتال أبي لالتقاطه، وقال للوسيط: سأتكفّل بكل شيء!
كان على أبي أن يتكفل بكل شيء ليداري أمرا جللا. خدعني صبيه، وضحك عليّ، ونال مني في لقاء حميم ما كنت أحرص على الاحتفاظ به لزوجي الشرعي، وفجأة اختفى، وبدت الكارثة تطل برأسها من خلال بطني التي أخذت تتكور وتبرز، وأوشكت الفضيحة أن تعلن نفسها على الملأ. عرفت أمي، وبالتالي عرف أبي، وكان عليهما التصرف، والتخلص من المصيبة، والصمت على العار. ولم يفعلا مثلما يفعل أصحاب الدم الحار بالتخلص مني جملة وتفصيلا. وفهمت أن أبي حريص على أرانبه أكثر من حرصه على أي شيء آخر.. وبعد حين تم العثور على الشخص الذي يغطي على ما جرى!
***
في بيتنا (القصر)، عشت زوجة لهذا الشخص. لا أحمل له أية مشاعر ودية، علاقتنا باردة، وهو يعمل موظفا في وزارة الصحة بشهادته المتوسطة. أحمل له جميلا أنه ستر علي بعد أن أغرقه أبي بالمال وأشياء أخرى، وأنشغِلُ عنه بالحمل والأحلام التي لم تتحقق، والذهاب إلى مجلس القرية للتوقيع بالحضور والانصراف، فالمجلس لا عمل واضحا له، والموظفون كثيرون، بعضهم لا يجد كرسيا يجلس عليه، معظمهم يوقع في الصباح ويولي الأدبار نحو عمل آخر، ويعود عند الإغلاق ليوقع بالانصراف. من يبقون في المجلس يتهارشون مثل الكلاب الضالة بمشكلات تافهة مفتعلة، كأن يقوم أحدهم مثلا بشطب زملائه الذين لم يوقعوا بالانصراف أو الحضور، فتشتعل المشاجرات والمشاحنات فيما بينهم، ويتدخل رئيس المجلس إن كان موجودا أو السكرتير، للفصل بين المتخاصمين والمصالحة بينهم وتناول الشاي، وتتحول الجلسة بعدئذ إلى فرصة لسرد حكايات القرية والنميمة، ولا بأس من أن يقوم أحدهم بالمزاح على طريقته، وإطلاق بعض النكات المرحة التي تجعل الضحكات تجلجل في الفراغ الحكومي البيروقراطي! لا يجتمع الموظفون إلا في المناسبات التي تفرضها الحكومة لتأييدها والهتاف لها. عدا ذلك فلا دور للمجلس غير الأنشطة الهامشية. كنس الشارع الرئيسي لاستقبال السيد اللواء المحافظ أو رئيس المدينة، أو أمين الاتحاد الاشتراكي، أو أمين الحزب الوطني الذي حل مكان الاتحاد الاشتراكي. يبحثون أحيانا عن وسيلة لصرف ميزانية المجلس. اقترح أحدهم تشجير الشوارع في القرية. وجلبوا من المشتل كمية من الأشجار، وطلبوا مني أن أشارك في الإشراف على زراعتها. كان المشرف الرئيسي يحمل دبلوما ويريد إثبات وجوده. قال لي ونحن في أحد الشوارع:
– يمكنك يا أستاذة أن تعودي إلى البيت وتستريحي.
كنت فعلا في حاجة إلى العودة إلى البيت. شكرته، وفي طريقي إلى المجلس بعد أسبوعين لم أجد أثرا للأشجار إلا بقايا جذور استعصت على الماعز والخرفان والطيور التي أتت عليها؛ حيث لم توضع عليها أقفاص تحميها أو موانع تحول بينها وبين من يشتهون أكلها.
حاولوا في مشروع آخر أن يضعوا لافتات بأسماء الشوارع. قرروا أن يسموا الشوارع بأسماء الأعلام، قلت لهم:
– قريتنا معروفة، ومن يأتي غريبا ويسأل عن أحد فإنهم يدلونه على بيته ومكانه بسهولة، وقد يقوم أحدهم بتوصيله إلى المكان أو الشخص الذي يريد.
أرادوا استهلاك الميزانية وحسب، وفوجئت بأن من كتب اللافتات رديء الخط، ولا يحسن الإملاء أو الفهم. ضحكت حين رأيت على ناصية شارعنا الذي يوجد فيه البيت القديم لافتة تحمل اسم (رفاعي الطهطاوي)، سألتهم في المجلس:
– من رفاعي الطهطاوي؟
أجاب أحدهم:
– ألا تعرفين رفاعة الطهطاوي؟
– لكن اللافتة التي على رأس شارعنا تحمل اسم رفاعي الطهطاوي؟!
نظر بعضهم إلى بعض، ثم ركزوا نظرتهم على كاتب اللافتة، الذي شعر بالاضطراب فقال:
– تقصدين أنها تكتب بالألف (رفاعا)؟
ابتسمت خجلا، وقلت:
– ليست بالألف ولا الياء. إنها بالتاء المربوطة (رفاعة).
ولزمت الصمت، وظلت اللافتة قائمة سنوات عديدة حتى حال لونها، واختفت الكتابة تماما، كما اختفى التعليم الجيد.
قسموا المجلس إلى أقسام بمسميات هلامية، ولكن الموظف الوحيد تقريبا الذي يعمل هو من يستخرج شهادات الميلاد والوفاة، الآخرون في واد آخر، ذات يوم استغربت لوجود جيش الموظفين الذين لا يعملون من أجل استقبال المحافظ، قالت لي زميلتي في المجلس:
– إنه أكل عيش، وإشباع أفواه دون مقابل، وابتسمت ساخرة!
***
ما يزعجنى الآن بشدة هو كثرة التفكير فى طفولتى البائسة، إذ عانيت الأمرين من التنمر بسبب زيجات أبى المتكررة فى المدرسة والشارع، وظل سؤال واحد يلاحقنى أينما كنت، وهو:
– كم مرة تزوج والدك؟، وما ترتيب الزوجة التى مازالت على ذمته الآن..
سألته أمي مرة، وهي مستسلمة:
– لماذا تتزوج أكثر من واحدة، وتغيّر زوجاتك يا عرفان؟
رد عليها ببساطة:
– أريد أن يكون لي ولد ذكر يرثني، وبرفع اسمي بعد الموت.
قالت له خائفة عليه:
– لا قدر الله. وكتب لك العمر الطويل..
ولم ينجب أبي ولدا ذكرا مع كثرة زيجاته. حتى فتاة المدينة أو فتاة الميني جيب لم تمنحه ما تمنى!
أبي ابن زمانه. لم يتعلم ولم يذهب إلى مدرسة. عمل مع تاجر خردة منذ صغره، ففهم المهنة وعرف أسرارها، واستطاع بعد أن صار شابا أن يستقل بنفسه، ويورّد لكبار التجار أصنافا ذات عائد محترم، وفي الوقت نفسه يستثمر في الأصناف الأخرى. كل شيء له ثمن، وتمكن أن يكون لديه فريق من الصبيان معظمهم من تلاميذ الإعدادي وما بعده يقومون بالفرز والتعبئة والتجهيز للمشترين من كبار التجار وصغارهم، ومن بينهم أحببت الولد الذي تعلقت به وضحك علىّ. قال لي:
– هل حضرت عرس الدكتورة ليلى من الولد بلية الميكانيكي؟
قلت باستغراب:
– أنت تعلم أني حضرته، فلِمَ تسأل؟
أجاب عاقدا حاجبيه:
– نحن في زمن لا قيمة فيه للشهادات. الليسانس لا يساوي مليما، والبكالوريوس لا يباع بتعريفة.
قلت باندهاش:
– لماذا؟
– لأن صاحب الليسانس أو البكالوريوس لا يستطيع أن يدفع خلو شقة، ولا يجهز عروسا إلا إذا كان أبوه يملك أرانب! أما الولد بلية الذي يغضب الآن من النداء عليه بهذا اللقب، ويطلب من زبائنه أن ينادوه بالباشمهندس حسن، فهو يستطيع أن يدفع الخلو ويجهز العروس، وقد فضلته ليلى على زميل طبيب كانت تحبه من أيام التلمذة!
– ما معنى هذا الكلام؟
– معناه أني أستطيع أن أتزوج أي فتاة تحمل الليسانس أو البكالوريوس.
قلت متعجبة:
– وما أهمية هذا الآن؟
قال بعجرفة:
– لأني أحبك، وأريد أن أتزوجك، فلا تعترّي مني.
– هل صدر مني لا سمح الله شيء يجرح إحساسك؟ إني أحبك بكل جوارحي.
صمت بعض الوقت. ثم ابتسم ابتسامة خبيثة، وقال:
– وأنا أيضا أحبك، وسأجعلك ملكة على عرشي. و….
أسكرتني مغازلته، وأنساني نفسي، وسمحت له أن يواصل ما بدأه معي، ونسيت الرجل الطيب الذي كان خطيبي، ويعمل بجدية وإخلاص ليبني عش الزوجية.!
***
يعذبني الحمل، وأجد مشقة كبيرة في الأيام الأخيرة، أمي تهتم بي، تترك البيت وتأتي إلى القصر لتتابع معي، وزملاء المجلس يراعون ظروفي ويوقّعون نيابة عني في دفتر الحضور والانصراف. أبي لا يسأل عني، ويقضى معظم وقته مع زوجه الصغيرة، يهمه من الحياة الأكل والنوم بجوارها، وقد يذهب في بعض الليالي إلى رفاقه من أصحاب الأرانب في المدينة، وقد يعقد مع بعضهم صفقات كبيرة، لا يهمه ما يقولون عن مظاهرات يناير 1977 التي وصفها الرئيس بمظاهرات الحرامية، ومبادرة السلام واتساع المعارضة لها. عندما سأله أحدهم عن رأيه فيما يجري، قال:
– السلام حلو، وسنعقد صفقات مربحة مع اليهود. هذا هو الذي يهمّنا!
صار يرتدي جلاليب من الصوف الإنجليزي المهرّب. يقول عنه البائعون الذي يدورون به في القرية: إنه من شوارع الشواربي أو من بورسعيد!، لم يعد أبي يرتدي طاقية على رأسه، عرف استخدام المشط يسوي به فوديه بعد أن ازدادت مساحة الصلع في أعلى رأسه. يجد لذة كبيرة والناس ينادونه: الحاج عرفان.. ذهب إلى الحج مع إحدى زوجاته، ولم يأخذ أمي معه، وأحضر لها بعض العباءات السوداء المناسبة لعمرها، لم تعلن غضبها حين تجاهلها في رحلة العمر، ولكنه وعدها أن تذهب معه في رحلة أخرى، ولم يف بوعده حتى الآن. ومع أن اللقب (الحاج) يفرض عليه أن يذهب إلى المسجد ويؤدي الصلاة إلا إنه لم يحاول. أحيانا يؤدي صلاة الجمعة فقط، حيث يقابل أهل القرية ويستعرض أمامهم جلاليبه الفاخرة وخواتمه الذهبية الغليظة، وعطوره الفواحة. لا يشغل نفسه بما يقوله الخطيب ولا مفاهيم الإسلام، ولكنه يحرص على الظهور بمظهر الغني الذي يمكنه شراء كل شيء، وأنه يفوق أهل البلدة جميعا بما فيهم عائلة حلاوة، حكام البلد والمالكين لأكبر مساحة زراعية فيها، ومنهم أكبر عدد من المتعلمين والمثقفين وأصحاب الوظائف العليا في الدولة. أجل! صار غنيا، واشترى بعض العمارات في المدينة يقبض عائدها شهريا، وقيل إنه اشترى عددا كبيرا من الأفدنة الزراعية المستصلحة بسعر رخيص جدا بمعرفة بعض الكبار الذين أطعم أفواههم فاستحت أعينهم. ميزة أبي أنه لا يتحدث عن أرانبه أمام الناس خوف الحسد. يحركها في هدوء من خلال صفقات مختلفة، وفي الوقت نفسه على أي دخل ولو كان بسيطا، يشتري تصاريح الأسمنت والخشب التي تحقق أرباحا بسيطة بالنسبة لملايينه، ويمنح أصحابها مقابلا مرضيا، ويتولى هو التخليص، فيكسب في الطن أضعاف ثمنه الرسمي، ويفعل مثل ذلك مع الخشب، يحصل على التصريح، ويبيع المتر مضاعفا، وعربة الخردة تحمل الإسمنت والخشب وتمضى في شوارع المدينة وهو يسوق الحمار، والإدارة الهندسية في مجلس المدينة التي تصدر التصاريح تعرفه وتتفاهم معه، ومنها يعرف أصحابها الذين يذهب إليهم، فمن تمنعه الظروف من البناء أو لا يحتاج إلى الكمية كلها، فإن عرفان يشتريها ويقوم بالترضية اللازمة، وأحيانا يسلم صاحب التصريح جزءا مما تسلمه، فيشعر الرجل أنه حصل على ما يريد مجانا، ويفوز عرفان بنصيب من الغنيمة. للريف أحوال يفهمها أبي جيدا، بل يفهمها بدقة، ويتصرف على أساس حاجة أصحاب الحاجة. وبالمناسبة فأبي لا يعرف الصدقة ولا العطاء، ولكن الناس يلهجون باسمه لأنه صاحب أرانب!
يتمنى أبي لو استطاع أن يقرأ الصحف، ويكتب حسابات العملاء بنفسه بدلا من استخدام كاتب. ولكنه متصالح مع نفسه طالما يعقد الصفقات، وتحميه مجموعة التجار الكبار الذين يحتكرون السلع والبضائع في المدينة، فيحددون الأسعار وفق ما يريدون، ويتحكمون في السوق بالإغراق أو التعطيش، ويطوّعون المسئولين بالهدايا والعطايا. أموره تمضي سهلة ومريحة، لا ينغصها إلا تمرد بعض التجار الصغار على دستور مجموعة الكبار في المدينة..
أحدهم كان يملك كشكا يبيع فيه الحلوى والسجاير، واستطاع عن طريق الدلاّلات، ثم عن طريق رشوة موظفي الجمعية الاستهلاكية، أن يحصل على معظم بضائعها بسعرها الرخيص، ويبيعها بالسعر الذي يروقه، فاغتنى وصعد إلى مستوى الكبار، وصار صاحب رأي مع مجموعتهم، ولكنه خرق دستورهم وتحداهم في بعض الصفقات التي تتصادم مع مصالحهم، وكان لا بد من تحييده، فسلطوا عليه من يصدمه بسيارة، ليكون قعيد البيت. أبي يفهم أسرار التعامل مع الكبار، وبفطرته البسيطة يتقدم حين يكون الأمر سهلا، ويتراجع عندما يرى العين الحمراء. يحرص أن يتمتع بلذات الحياة بعيدا عن وجع الدماغ، وطالما تجري الآرانب في يديه فكل شيء طيب، حتى ما يخص أسرته يتركه لأمي أو زوجاته الأخريات، ويتدخل عندما يتعلق الأمر بحل مشكلة كبرى أو زواج بعض الأولاد، كما فعل معي حين أغلق بهدوء الموضوع بتزويجي، حتى لا تنتشر الفضيحة وتتشعب آثارها وتتضخم. هداه ذكاؤه الفطري إلى شراء رجل يمسح كل شيء بممحاة ليتفرغ لرعاية الأرانب. قال لي:
– هل ندخل في صراع مع الولد (يقصد حبيبي الذي ضحك علي)، أم نشتري رجلا أيا كان يجعل رأسنا في الهواء بدلا من الطين؟
أطرقت قهرا، وقلت له:
– ما تراه يا أبي!
وهكذا رضيت باختياره، وأوشكت أن ألد، ومرت المحنة بسلام!
***
بعد شهور من الولادة رأيت سعد حلاوة يجلس في مكتب الرئيس وحولهما عدد من الموظفين الذين لا يعملون، والساعي يقدم لهم المشروبات، ويثرثرون بكلام حول القرية وما يجري فيها. دعوني للجلوس بدلا من الجلوس وحيدة على مكتبي حيث لا عمل هناك يشغلني.
قال الرئيس:
– لو أن الأستاذ سعد أكمل تعليمه الجامعي لكان له شأن كبير في الدولة.
فأضاف السكرتير:
– إنه من الأذكياء. حصل على مجموع كبير في الثانوية فاق أبناء قرية أجهور جميعا. أهّله ليدخل كلية محترمة..
قال رئيس قسم البيئة:
– إنه يتمتع بمواهب عديدة، ولكنه آثر متابعة الأرض الزراعية ومتطلباتها.
كنت صامتة، وأحتسي مشروبي، وأنتظر أن يتكلم سعد، ولكن الرئيس أردف مشيدا بأخلاق سعد، ومتملقا لأسرته الكبيرة، فقال:
– سعد خلوق، وأسرته من أكرم العائلات.
أغضى سعد حياء، وشعر أنهم يغرقونه في المديح المبالغ فيه، فراح يظهر تواضعه وبساطته:
– نحن من الناس وإلى الناس، ونرجو الله أن يرضى عنا ويوفقنا إلى عمل الخير..
تطرق الحديث إلى بعض أحداث القرية الساخنة، فأشاعت الحرارة في الحديث الروتيني المتسم بالمجاملات.
تساءل أحدهم عن مريض مهم، فقال بأسى:
– زرت الأستاذ عنتر الكاشف بالأمس. حالته حرجة، ولكنه كان يتماسك ويحاول النهوض ليجلس معي، ولكني أقسمت عليه ألا يفعل. تبادلنا بعض الدعوات والكلمات، وتركته كي لا أجهده.
قال الرئيس:
– إنه قدوة لنا. تصوروا أنه حارب في اليمن وأكمل في سيناء، وشهد الهزيمة، ونجا من الأسر بأعجوبة، واستمر حتى شارك في العبور. كان راضيا وصبورا ويحمل بين جنبيه أملا لا ينقطع.
ردّ أحدهم بما ينبئ عن قربه منه، ومعرفته الدقيقة بأحواله:
– طالت مدة تجنيده أكثر من تسع سنوات، لأنه كان سائقا، وهو تخصص كانت تفتقر إليه قواتنا، وطوال هذه الفترة كان يرعى أسرته بكل السبل المتاحة، فلا ينفق من مرتبه شيئا إلا ثمن التذكرة التي توصله من القرية إلى الوحدة العسكرية أو تعيده منها، ولم يضيع لحظة متاحة في تنمية وعيه وثقافته بالقراءة، وفي الإجازات يناقشنا فيما قرأ وما نقرأ، وعندما تسلم وظيفته في الزراعة كان مثالا للموظف المجتهد الذي يساعد الفلاحين بقدر ما يستطيع، وربى أبناءه تربية حسنة، وكان يصطحبهم معه إلى المسجد، ويحرص على تحفيظهم القرآن.
وجدت الحديث يطول، ورضيعتي تنتظرني مع أمي، فاستأذنت من أجلها، وتركتهم يواصلون الحديث عن الأستاذ عنتر الكاشف.
ولكنني في الطريق كنت أفكر في سعد، وصبي أبي الذي غدر بي، وزوجي الذي أعيش تحت رايته!
***