يحتاج التأثير الدعوي إلى بصيرة تسهم في إدراك الواقع وفهم الواجب تجاهه، من أجل الوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية، وإن الدعوة الإسلامية تتطلع إلى تكوين هذه البصيرة في الدعاة، حتى يدركوا ما تنطوي عليه نفوس الناس، وما يجب لهم من مهارات وأدوات تستطيع أن تقودهم إلى الصراط المستقيم.
وتأتي هذه السلسلة من المقالات الدعوية تحت عنوان «الأسس النفسية للتأثير الدعوي» من أجل الوقوف على الركائز النفسية التي يستند إليها الداعية ليحقق النجاح في مهمته السامية، ويأتي الأساس الرابع عشر بعنوان «حُسن تصوير الأحداث».
يقصد بـ«حُسن تصوير الأحداث» قيام الداعية بتصوير الأحداث التي يتناولها بطريقة تكشف عن مضمونها وتعين على استحضارها، من أجل الانتباه لها، وحسن التعامل معها.
التأصيل الشرعي
إن الناظر في القرآن الكريم يجد أنه يصور الأحداث التي تحمل المعاني والدلالات الدعوية بطريقة تجعل القارئ يشعر أنه يعيش في وسط هذه الأحداث، وذلك من خلال الحديث عن قصص الأنبياء والصالحين، وما أعده الله للمؤمنين من أجر عظيم، وتصوير أحوال العصاة والمكذبين، وما أعده للكافرين من عقاب أليم.
تصوير الأحداث يهدف إلى استثارة عواطف الجماهير حيث إن الصورة تعيش في أعماق النفس
كل هذا صاغه القرآن الكريم بصورة تأخذ بالعقول والقلوب، حتى لكأن القارئ لها يشعر أنه المخاطب بها، بل إنه سبحانه وتعالى يجعل في ختامها رسالة موجهة إلى كل من يطالعها، مثل قوله تعالى: (كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ) (القمر: 35)، وقوله: (كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) (البقرة: 191)، كما حرص القرآن الكريم على غرس القيم من خلال التصوير المؤثر في النفس، ومن ذلك ما جاء في النهي عن الغيبة، بقوله تعالى: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) (الحجرات: 12)، فقد صوّر القرآن المغتاب بصورة تجعل المؤمن ينفر من هذه الصفة.
أما السُّنة النبوية، فقد تنوعت فيها الأحاديث التي يحكي فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أحداث الأمم السابقة وما ناله الطائعون والعصاة من الجزاء العادل، كل هذا في صورة واضحة تسهم في غرس المعاني الدينية والسلوكيات التطبيقية في واقع الحياة الدعوية.
التوظيف النفسي
يهدف تصوير الأحداث إلى استثارة عواطف الجماهير، فالصورة تعيش في أعماق النفس في فعالية دائبة، حيث تميل بنا إلى العمل الذي تمثله، وذلك لأنها تحمل عنصراً شعورياً وشحنة عاطفية، فتَصَوُّر حادث محزن يحمل على البكاء، وتصَوُّر حادث مفرح يبعث على السرور، وتصور شيء قذر يولّد الاشمئزاز(1)، وهنا يتبين أن حسن تصوير الأحداث يؤدي إلى تغيير الرأي أو الاتجاه أو السلوك على وفق مقتضى الصورة.
.. ويمكِّن الداعية من التأثير في المدعوين فيحملهم على قبول رسالته والاقتناع بها والاستجابة لها
ولهذا كانت وسائل الإعلام فاعلة ومؤثرة في توجيه الجماهير، حيث إنها تستخدم خطاب الصورة المجسمة أو المتخيلة، من خلال تسخير إعلاناتها وبرامجها وأفلامها وأخبارها بشكل منهجي من أجل الترويج لفكرة محددة، سواء كانت هذه الفكرة قيمة أخلاقية، أم منهجاً تعليمياً، أم تراثاً فكرياً، أم نظاماً سياسياً، أم تسويقا ًتجارياً(2)، إلى غير ذلك من الأفكار، بحيث يجد الأفراد أنفسهم أمام فيض من الصور المتنوعة والهادفة إلى فكرة واحدة، فينزعون إلى التجمع حول مضمونها والتلاحم معها بل والقناعة المؤقتة بها.
التوظيف الدعوي
يحرص الداعية على توصيل رسالته إلى الناس، من خلال استمالة قلوبهم وإقناع عقولهم، وضبط فكرهم، وتوجيه سلوكهم إلى الصراط المستقيم، وهذا يستلزم أن يتفنن في تصوير مادته الدعوية بطريقة تحقق هذا المقصد النبيل، ومما يساعده في حسن تصوير هذه المادة أن يستخدم الأساليب الآتية:
أولاً: ضرب الأمثال؛ وهو يعني تشبيه الشيء بغيره من أجل الاعتبار به، وهو أسلوب حسي يهدف إلى تقريب المعاني ووضعها في صورة محسوسة، طلباً للتوضيح والتأثير، ومن ذلك ما رواه مسلم عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟»، فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله! قال: «هي النخلة»(3).
فقد ضرب النبي صلى الله عليه المسلم المثل حين شبَّه النخلة بالمسلم في كثرة خيرها ودوام ظلها وطيب ثمرها والمنفعة الحاصلة من خشبها وورقها وأغصانها ثم جمال نباتها وحسن هيئة ثمرها، فهي منافع كلها وخير وجمال، كما أن المؤمن خير كله من كثرة طاعاته ومكارم أخلاقه ومواظبته على صلاته وصيامه وقراءته وذكره والصدقة والصلة وسائر الطاعات وغير ذلك(4)، وفي هذا التشبيه حسن تصوير يؤدي إلى التأثير.
نجاح وسائل الإعلام بالتأثير في الجماهير يرجع لاستخدامها خطاب الصورة المجسمة أو المتخيلة
ثانياً: فن حكاية القصص؛ حيث يحكي الداعية من القصص ما يشبه المشكلة التي يريد علاجها، ويتفنن في تصويرها وتقريبها، من خلال أساليب التشويق وترتيب الأحداث ورسم الصورة الكاملة لها، كأن المستمع يشاهد أحداثها تقع أمامه، ثم بعد ذلك يؤكد الدروس المستفادة منها في خدمة موضوعه الذي يتحدث فيه.
ومن الأمثلة التي تدل على ذلك ما صور به القرآن الكريم قصة لوط عليه السلام، حين جاءته الملائكة وأراد قومه أن يرتكبوا معهم الفاحشة فوقع في حرج شديد، وعرض عليهم السبيل الرشيد، فأبوا وأصروا، حتى عاقبهم الله بالعذاب الشديد، كما في قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ {82} مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (هود)، والناظر في التصوير القرآني للمشهد يجد أنه يرسم الصورة الكاملة للأحداث، والنتيجة المترتبة عليها، ثم يسوق الحق سبحانه وتعالى في خواتيم الآيات ما ينذر الناس إلى يوم القيامة أن من فعل مثل ما فعلوا فسيصيبه ما أصابهم، وهذه رسالة دعوية واضحة جاءت بعد تصوير مشهد العذاب، وهي الواردة في قوله تعالى: (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).
ثالثاً: حسن استخدام الحواس في تصوير الأحداث؛ حيث يستخدم الداعية حواسه في تصوير المعاني التي يريد أن يتحدث فيها، فإذا كان المعنى المقصود مبشِّراً؛ فإنه يبسط وجهه، ويبدي ابتسامته، ويشير بمجامع يده باسطاً جميع أصابعه، راسماً بذلك صورة مشرقة تضيف إلى كلامه جمالًا وسرورًا، وإذا كان المعنى المقصود منذِرًا؛ فإنه يُظهر الحزن على وجهه، ويقبض يده مشيرًا بسبابته، راسمًا بذلك صورة غاضبة تضيف إلى كلامه تهديدًا ووعيدًا.
ويدل على ذلك ما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم في أحواله الدعوية، التي نُقِل عنه فيها مثل هذه التعبيرات من أقوال الرواة: «وكان متكئاً فجلس..»، وكذلك قولهم: «رفع بها صوته»، وقولهم: «وأشار بالسبابة والوسطى»، وقولهم: «وشبك بين أصابعه».. إلى غير ذلك من التوظيف الدعوي لكلام الداعية وصوته وجسده وإشاراته في حسن تصوير الأحداث وتقريبها للناس بقصد التأثير فيهم.
الدليل على التأثير الناجح
يسهم حسن تصوير الأحداث في تمكين الداعية من التأثير في المدعوين، حيث ينفذ بذلك إلى قلوبهم وعقولهم، فيحملهم على قبول رسالته والاقتناع بها والاستجابة لها، ومن الأمثلة التي تدل على ذلك ما رواه مسلم عن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بالسوق، داخلاً من بعض العالية (مكان بأعلى أراضي المدينة)، والناس يمشون بجانبه، فمر بِجدي أَسَكَّ (مقطوع الأذن) مَيِّتٍ، فقال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟»، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ والله لو كان حيًا كان عيباً فيه أنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: «فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم»(5).
فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين حقارة الدنيا عند الله، فصوّرها لهم في شكل مهين، حتى لا يغتروا بها، وحين أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحث أصحابه على قراءة القرآن وتعليمه، صوّر لهم فضل ذلك من خلال ما تشاهده أعينهم، فقال: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَومٍ إلى بُطْحَانَ، أَوْ إلى العَقِيقِ (أقرَبُ المواضعِ الَّتي تُقامُ فيها أسْواقُ الإبلِ إلى المدينةِ)، فَيَأْتِيَ منه بنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ (عظيمة السنام، وهي من خير مال العرب) في غيرِ إثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟»، فَقُلْنَا: يا رَسولَ اللهِ، نُحِبُّ ذلكَ، قالَ: «أَفلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إلى المَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِن كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ له مِن نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ له مِن ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ له مِن أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإبِلِ»(6)، إنه يرسم في أذهانهم صورة عظيمة لقراءة القرآن وتعلمه من خلال التصوير الجيد للثواب الحاصل منه.
والخلاصة؛ أن الداعية يحتاج في توضيح مقصوده إلى تبيين المعاني وتقريبها إلى الناس، من خلال حسن تصوير الأحداث، وإيضاح جوانبها، والكشف عن نتائجها، والتوصية بحسن التصرف تجاهها.
____________________________________
(1) علم النفس الإسلامي: معروف زريق، ص79.
(2) المتلاعبون بالعقول: هربرت أ. شيللر، ترجمة: عبدالسلام رضوان، ص18 – 30
(3) صحيح مسلم (2811).
(4) شرح النووي على مسلم (17/ 154).
(5) صحيح مسلم (2957).
(6) صحيح مسلم (803).