نشرت وسائط إعلامية سودانية، في 15 نوفمبر 2023م، تصريحاً لعبدالرحيم دقلو، قائد ثاني مليشيا «الدعم السريع» المتمردة، ينفي فيه نية المليشيا فصل دارفور، وذلك على خلفية دخول قوات «الدعم السريع» إلى نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، وثاني أكبر المدن سكاناً بعد العاصمة الخرطوم، وتهديد المليشيات المتمردة للفاشر حاضرة إقليم دارفور؛ ولأن «المريب يكاد يقول خذوني»، كما في المثل العربي، فإن هذا التصريح يثير مسألة انفصال دارفور، ويؤكد الشكوك أكثر مما يطمئن، ويجعل التساؤلات تكثر حول هذه القضية على خلفية الحرب التي يخوضها الجيش السوداني ضد المليشيا المتمردة التي تدّعي بغير وجه حق أن دارفور تمثل حاضنتها الاجتماعية والسياسية، رغم أن المليشيا ارتكبت جرائم في حق مواطني دارفور، ومارست ما يمكن أن يعد تطهيراً عرقياً بحق بعض القبائل في إقليم دارفور، ولأن قادة المليشيا المتمردة غالباً ما يعملون في أحيان كثيرة عكس ما يقولون.
وبعيداً عن تصريحات المتمرد دقلو، يبدو أن دارفور -مثل جنوب السودان- قد دخلت في الإستراتيجيات الدولية وخاصة الأمريكية و«الإسرائيلية» منذ زمن بعيد، واستهدفت هذه الإستراتيجيات على المدى البعيد فصل دارفور عن السودان، كما فعلت بالجنوب؛ وذلك لما يتمتع به إقليم دارفور من موقع متميز مطل على غرب أفريقيا، وهو الإقليم التي يشهد صراعاً دولياً محموماً بسبب ما يزخر به من موارد نفيسة ونادرة.
والمعروف أن «إسرائيل» منذ خمسينيات القرن الماضي في عهد بن جوريون قد اعتمدت في مواجهة العالم العربي إستراتيجية «شد الأطراف»؛ والمقصود بها شغل العالم العربي بمشكلات وقلاقل في أطرافه حتى تخفف ضغط مواجهة العرب لـ«إسرائيل»؛ وذلك بإثارة القلاقل في أطراف العالم العربي خاصة مع ذوي الأصول غير العربية في محاولات لإثارة الفتن بين مكونات القطر الواحد؛ كالأكراد في العراق، والبربر في المغرب العربي.
وفيما يخص السودان من هذه الإستراتيجية، نشطت «إسرائيل» في دعم حركات التمرد في جنوب السودان في ستينيات القرن الماضي، وقد اعترف بهذا الدعم «الإسرائيلي» جوزيف لاقو، أحد قيادات تمرد جنوب السودان، في مذكراته التي نشرها لاحقاً، وقد وصل إلى منصب نائب رئيس الجمهورية في السودان في أواخر عهد الرئيس الراحل جعفر نميري، إثر اتفاقية أديس أبابا التي عقدها معه نميري.
ولأن التاريخ يعيد نفسه أحياناً في حوادث متشابهة، فقد وصل جون قرنق، قائد التمرد الثاني في جنوب السودان منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلى منصب النائب الأول في الدولة، إثر توقيع الرئيس عمر البشير معه على اتفاقية نيفاشا عام 2005م، والمعروف أن قرنق قد سقطت به طائرته الخاصة بعد أسابيع من حضوره للخرطوم نائباً أول لرئيس الجمهورية، لكن نائبه سلفاكير، الرئيس الحالي لجنوب السودان، قد خلف قرنق في موقعه إلى أن انفصل الجنوب في العام 2011م.
ثم انتقلت الإستراتيجية «الإسرائيلية» من «شد الأطراف» إلى إستراتيجية «بتر الأطراف»؛ وتعني السعي لانفصال أقاليم عن أوطانها، وهي الإستراتيجية التي تم تطبيقها في جنوب السودان، ولعله من تتبع الأحداث يخشى كثير من المراقبين أن يُسعى لتطبيقها على دارفور، لا قدر الله.
ولعل المتابعين للشأن السوداني قد لاحظوا بوضوح تبني مجموعات الضغط الصهيونية في الولايات المتحدة لقضية دارفور، يعاونهم في ذلك بعض العلمانيين والمتمردين من أبناء دارفور، وهذا الأمر لا يمكن أن يكون من فراغ وبلا هدف، ولعل المتابعين يلاحظون أيضاً أن معظم المهاجرين إلى «إسرائيل» من السودانيين بعد تفجر أزمة دارفور عام 2003م كانوا من إقليم دارفور، رغم أن القوانين السودانية تحظر الهجرة إلى «إسرائيل»، وهذا مؤشر آخر لما تخطط له «إسرائيل» لدارفور وفق إستراتيجياتها التي أشرنا إليها آنفاً.
هذا، باختصار، عن الدور «الإسرائيلي» في السودان، وهو دور متشعب ومتشابك ومؤذٍ، وتستعين فيه بمعاونين من السودانيين وغير السودانيين، فماذا عن الدور الأمريكي باختصار أيضاً.
الدور الأمريكي متشعب ومتشابك أيضاً، وتحكمه إستراتيجيات بعضها منشور، كما سنرى، ولا يستطيع الحزب الذي يحكم في البيت الأبيض تغيير هذه الإستراتيجيات حتى لا نقع في فخ أن الجمهوريين أفضل من الديمقراطيين أو العكس، وهذا وهْم كبير يسقط فيه البعض.
ولنضرب مثالاً لخطة أمريكية تحدد إستراتيجياتها في المنطقة، وهي واحدة من خطط كثيرة معروفة ومنشورة، وما خفي أعظم، فقد نشرت صحيفة «الصحافة» السودانية، في عددها (4188) الصادر يوم الثلاثاء 1/ 2/ 2005م، تقريراً يلخص ورقة عمل أعدها مستشارو بوش الابن للشرق الأوسط بعنوان «هل يبدأ سقوط القوى الأمريكية العظمى من الشرق الأوسط؟»، تحدد الورقة ملامح الإستراتيجية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط، وتقدم توصيات، وأخطر ما في هذا الجزء من الخطة أن الورقة تدعو إلى تحديد المفصل الإستراتيجي الذي تتمكن من خلاله الولايات المتحدة من القضاء على فكرة الرباط الإستراتيجي بين الدول العربية في شمال أفريقيا والدول الأفريقية، وتشير الورقة تحديداً إلى موريتانيا وجنوب السودان كنقطتين مهمتين يجب تعزيز الاهتمام بهما في المرحلة القادمة.
ثم تأتي الورقة إلى أخطر السيناريوهات القريبة؛ إذ لا تستبعد تقسيم السودان إلى 3 دويلات؛ ترتبط الشمالية منها بمصر، والجنوبية بالولايات المتحدة، والغربية بـ«إسرائيل»، وقد تم للورقة ما أشارت إليه في موضوع جنوب السودان، ومؤكد أن البعض من قادة السياسة الأمريكية سيواصلون بقية المخطط.
ها قد التقينا بـ«إسرائيل» مرة أخرى في ورقة أمريكية قدمت للرئيس الأمريكي، وقد تمكنت الولايات المتحدة، بمساعدة الساسة من الجنوب، من فصل جنوب السودان، حسب الخطة، في العام 2011م.
وقد استمعت لوزير الخارجية السوداني الأسبق د. مصطفى عثمان إسماعيل الذي ذكر في محاضرة عامة بالخرطوم أنه شاهد في الولايات المتحدة خريطة للعالم العربي وهو مقسّم إلى دويلات، وهذه الأيام ينشر السفير السوداني السابق عبدالله الأزرق مقالات عن دور الولايات المتحدة في فصل جنوب السودان، يمكن أن يراجعها من شاء الاستزادة في الموضوع، وهي مقالات تكتسب أهميتها من أن كاتبها عمل في السفارة السودانية بواشنطن في تسعينيات القرن الماضي، والمقالات مليئة بالمعلومات المفيدة المثيرة.
والملاحظة الجديرة بالاهتمام هنا أن الورقة الأمريكية التي أشرنا إليها آنفا قدمت إلى بوش الابن وهو من الحزب الجمهوري، ومن تم في عهده فصل الجنوب أوباما وهو من الحزب الديمقراطي، وفي هذا دليل على أن الإستراتيجيات الدولية الأمريكية لا تتأثر كثيراً باللون السياسي لساكن البيت الأبيض.
والملاحظة الأخرى أن الولايات المتحدة رعت مع آخرين اتفاقية نيفاشا، وتشارك الآن في رعاية محادثات جدة بين الحكومة السودانية ومليشيا «الدعم السريع» المتمردة.
ومما يثير القلق في مسألة دارفور ويزيد المخاوف من انزلاقها في المخططات الأمريكية و«الإسرائيلية»، أن اتفاقية جوبا التي تم توقيعها مع الحركات المتمردة بعد سقوط نظام البشير قد جعلت دارفور، من دون أقاليم السودان، إقليماً قائماً بذاته ونصّبت عليه حاكماً؛ وهكذا أصبح لدينا في دافور 3 مستويات للحكم؛ المستوى الاتحادي (الفيدرالي)، والمستوى الولائي، وبينهما المستوى الإقليمي، وهو نفس ما حصل في جنوب السودان الذي جعلت منه اتفاقية نيفاشا إقليماً قائماً بذاته، وهو ما قاد لاحقاً، مع عوامل أخرى، لانفصال الجنوب، رغم أن طرفي الاتفاقية نصّا على أن تعمل أطراف الاتفاقية للوحدة الجاذبة! فهل يخطط البعض لتكرار نيفاشا في دارفور؟
كنت أتحدث بعيد انفصال الجنوب مع أحد شيوخ الحركة الإسلامية السودانية، وهو إمام مسجد شهير بالعاصمة الخرطوم، فقال لي: لقد تم انفصال الجنوب، ولكننا يجب ألا نسمح بانفصال دارفور وجنوب النيل الأزرق؛ لأن هاتين المنطقتين شهدت قيام سلطنة دارفور الإسلامية وسلطنة الفونج الإسلامية (وتسمى أيضاً السلطنة الزرقاء أو مملكة سنار)، وما ذهب إليه هذا الشيخ يجب أن يكون مبدأ لا حياد عنه لدى المسلمين في السودان، وهم الأغلبية الكاسحة بنسبة تتجاوز 97% بعد انفصال الجنوب، وإذا اتفق المسلمون في السودان على هذا المبدأ يمكن، إن شاء الله، أن نهزم المخططات والإستراتيجيات أياً كان مصدرها.