تكتب في بحث علمي فيُقال لك: اقتَصِر على ذكر أسماء الصحابة وأمهات المؤمنين دون ألقاب تفخيم سابقة أو دعاء لاحق، فيُكتب الصحابي فلان وزوجة النبي فلانة، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو «النبي محمد» فحسب، لماذا؟ محاذاة للمنهج العلمي الذي وضعه أهل العلم من غير المسلمين!
تشارك في مؤتمر دولي عن المرأة في الإسلام، فيُطلب عدم الخوض في المسائل الحساسة كالحجاب والقوامة والميراث والتعدد والخِفاض، والالتزام بإطار المتفق عليه (وفق معايير الحساسية والاتفاق مما وضعها غير المسلمين)، كالجنة التي تحت أقدام الأمهات (وهذا النص ليس بحديث)، وتأكيد حق التعليم (مع أن التعليم في التصور الشرعي غيره في التصورات الأخرى)، واستقلال الذمة المالية للنساء (رغم أنف الرجال)!
هذه عيّنة من مظاهر لم تعد تدلّ على ابتغاء المسلمين العزة في غير الإسلام فحسب، بل على استحيائهم من الإسلام نفسه! فإنك تجد أهل الباطل بلغت بهم العزّة بالإثم والفخر بوجاهة ما هم عليه على ما هو عليه، أن يقعّدوا القوانين والأعراف والمواثيق السارية على الإنسانية جمعاء (لا إنسانهم فحسب)، وتوزيع أطراف الوجود الذين تسلّطوا عليه أرضًا وسماء، ويظل ناسهم أعلى اعتبارًا من بقية الناس، فيُجَرِّمون ممارسة أو يُزيّنونها على ما تجري به أهواؤهم وأمزجتهم؛ فكان الشذوذ الجنسي مثلًا في زمن ما جريمة يعاقب عليها القانون بالقتل حرقًا أو صعقًا وهو اليوم ممارسة لها حُرْمَتها! ويطيشون كيفما شاؤوا بالعقوبات الجائرة والإعلام المسيء والقوانين الإقصائية في حق الغير (وهم المسلمون بالأساس)، ويدعم أهل المصالح والأجندات بعضهم بعضًا ولو خالفوا صراحة مواثيقهم الدولية التي وضعوها بأنفسهم، لأن ناسهم غير ناسنا، والذات عندهم أسبق على الغير.
ونحن إلى اليوم ما زلنا نحمل همّ ذلك الغير والآخر في كل حركة للذات، تحت أوهام التصالح والتعايش السلمي الذي لم ينخدع به غيرنا، ولن يجد طريقه للتحقق في ضمن منظومة موضوعة أصلًا لمنعه حقيقة وإن ادّعت غير ذلك ظاهرًا! ذلك أنه لا تصور تشريعي منصف ومحيط يصلح لاجتماع البشر أجمعين إلا ما أقرّه رب البشر أجمعين.
وإذا كان الإلحاد ظاهر العداوة للألوهية، فالإنسانوية تأليه للإنسان، والعلمانية ترقيع دبلوماسي بين الاثنين، والكل باطل يخالف الحق ويَخافُه ويعادي وجوده باطنًا بالضرورة، مهما ادّعى ظاهرًا التحرر واللااكتراث، وتأمل كيف أن إظهار الشعائر الإسلامية –على رأسها زي المرأة المسلمة- ما يزال قضية فائرة إلى اليوم، تثير العداوة وتستثير الضغينة حتى في أكثر الدول والأزمان تقدّمًا وتحررًا!
والأدهى أن تجد المسلم أشد احترامًا لعقائد الغير وتشريعاتهم من احترامهم هم لإسلامه، تحت غطاء مبادئ الموعظة الحسنة والبر والإحسان وغيرها من المفاهيم الأصيلة شرعًا، ولكنها مفهومة خطأ عرفًا، والاحترام لغة صيغة افتعال من الحُرْمة، وهي ما لا يَحِلّ انتهاكه، والاحترام شرعًا يكون بالأساس لجناب الخالق تعالى، وفرعًا لما ومن جعل الله تعالى له حرمة، مثل حرمة دم المؤمن وعِرضه وماله.
وبالتالي كلّ فعل أو قول أو شخص ينتهك حرمة جناب الله تعالى، ليس مُحترَمًا لذاته أو بذاته، وإنما قد يُراعى أو يُعتبر لموازين أخرى، وسائر العقائد غير الإسلام تقع لا ريب في سوء الأدب مع الله تعالى، وقد وصفها الله تعالى في القرآن بـ«الإدِّ» (المنكر العظيم)، الأذى، البغض.. فلهذا لا احترام لها لذاتها أو بذاتها أو بدافع أي ميثاق دولي أو نزعة إنسانية، وإنما يقع لها اعتبار ومراعاة (لا احترام) لسبب خارج عنها، لا لذاتها، وذلك بحسب أمر الشارع: مثل بِرِّ غير المحاربين من أهل الملل الأخرى، أو التلطّف لهم لحق الجيرة أو القرابة، أو تأليف قلوبهم طمعًا في هدايتهم، أو استلال ضغينتهم حال ضعف المسلمين بينهم.. إلخ.
وبهذا يتضح لماذا لا يجوز أن ينجرف المؤمن بالله تعالى في الإنسانية مع غير المؤمن بالله تعالى، فيُعظِّم إلهه أو يمدح اعتقاده أو يظهر أي استحسان لضلاله، تحت دعوى تعاطف أو توادٍّ أو أي عذر لا وجه شرعي له، فتكون مجاملة مخلوق أعلى اعتبارًا عنده من حرمة جناب ربّه تبارك وتعالى، التي يجب ألا تُنتهك من المؤمن به خاصة، ولو على سبيل المزاح! بل إن المؤمن إذا أُكرِه على قول كلمة الكفر بلسانه ليحفظ نفسه، جاز له التلفّظ بها ولم يجب عليه، فتأمل في المنطق وراء ذلك، واحترمه!
ثم تأمل في الحرمة التي جعلها الله تعالى للمسجد الحرام: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»، وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ»، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَّا الْإِذْخِرَ» (الإذخر نبات معروف طيب الرائحة).
ويليه في تلك الحرمة المسجدان الشريفان المذكوران في الحديث المشهور: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثِ مَسَاجِدَ: إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»، فأين المسلمون من احترام هذه الحرمات ونحن في زمان صار فيه المسلم متذبذبًا في موقفه من انتهاك حرمات الأقصى، الذي بارك الله تعالى حوله؛ (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء: 1)؟!
فصار علينا مراجعة القوانين الدولية، والاعتذار للمواثيق الوضعية والاحتراز مراعاة للأعراف الإنسانية (التي أرستها كلها حفنة من البشر للبقية ولم يتواضع عليها الكل سواسية)، قبل أن نتمكن من مناصرة الحق ومؤازرته ولو بمجرد اللسان دون البنان! مع أن القانون الذي يلزمنا حقيقة في شرع الإسلام: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ»؛ أي لا يُخلّي بينه وبين من يريد به سوءًا وهو قادر أن يحجز عنه!
وكان من كلام سيدنا عليّ رضي الله عنه، في خطبته المشهورة: فيا عَجَبًا من جِدّ هؤلاء القوم في باطلهم، وفشلكم عن حقكم! فقُبحًا لكم وتَرحًا، حين صرتم هدفًا يُرمى، وفَيئًا يُنتهب، يُغار عليكم ولا تُغيرون، وتُغزَون ولا تَغزُون، ويُعصَى الله وترضون! ولئن كان عليه الرضوان قد عجب من فشل أهل الحق عن القيام بحقه، فكيف لو شهد زماننا.. حقًّا عجبًا وأي عجب؟!
وخير جواب على مثل تلك المواقف المخزية: (قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (البقرة: 93).