في العاشر من ديسمبر من كل عام، يحتفل العالم باليوم العالمي لحقوق الإنسان، لكن ذكرى هذه السنة جاءت في سياق دولي غير عادي، بل في وضع تسوده مفارقات بارزة، وقد أصاب من سمَّى الحرب على غزة بالكاشفة أو الفاضحة؛ لأنها كشفت، بل وفضحت زيف شعارات رُفعت بشأن حقوق الإنسان، وبقدر ما تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في هذا الزيف الذي ساد العقول لقرون، بقدر ما كانت الصدمة.
فما معنى أن تستمر الإبادة الجماعية لشعب أعزل على مرأى ومسمع من العالم لأكثر من شهرين في القرن الحادي والعشرين؟!
وما معنى أن يُستهدف بالقتل والإعدام أطفال ونساء وشيوخ وأناس أبرياء، بل وصحفيون وطواقم إسعاف وأطباء، وكذلك مساجد تهدم على مصلّيها، وأبراج سكانية تهدم على ساكنيها، ومدارس تهدم على تلاميذها ونازحين إليها، ومستشفيات تهدم على مرضاها وطواقمها ونازحين لجؤوا إليها؟!
وما معنى أن تُستهدف مقومات العيش من أكل وشرب وسكن وصحة، فتدمَّر المخابز وتُقصف آبار الماء الصالح للشرب، وتحاصر المستشفيات، ويمنع حتى من دفن الشهداء داخلها، وتمنع الحركة بين أقسامها بسبب القناصة؟!
وما معنى أن تستخدم أحدث أسلحة القتل والدمار التي تقطع الأطراف وتفصل الرؤوس عن الأبدان وتحدث تشوهات بدنية مدمّرة، بل تستخدم أسلحة كيميائية محرّمة دولياً مثل «الفوسفور الأبيض» والقنابل الحارقة، والنتيجة آلاف الشهداء وآلاف الجرحى والمصابين؟!
وما معنى أن تُعتقل نخب فلسطينية في غزة ومن بينهم أطباء ومهندسون وصحفيون وطلبة، ويتم تعريتهم واقتيادهم لأماكن مجهولة في شاحنات، في مشاهد تذكّر بترحيل اليهود داخل أوروبا على يد النازيين في الحرب العالمية؟!
اهتزاز مصداقية الغرب «المتحضر»!
وما معنى -وهذا الأخطر- أن تشهد المنظومة الغربية حالة تعبئة لدعم الإبادة الجماعية والانخراط في المساندة السياسية والإعلامية لسردية الكيان المحتل، بل المساندة العسكرية بتزويد الكيان المحتل بأحدث أنواع الأسلحة وبقوة ردع جبارة من بوارج وحاملات طائرات تحت الخدمة ليلاً ونهاراً؟!
وما معنى أن تستعمل الولايات المتحدة، وهي أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، حق النقض لمنع وقف إطلاق النار في غزة؟! وهو قرار تزامن تقريباً مع ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان في بلد يقدم نفسه على أنه رأس العالم الحر الليبرالي والديمقراطي؟! أليس في ذلك إعطاء ضوء أخضر للكيان المحتل لمزيد من التقتيل والدمار لشعب في سجن مفتوح؟!
وما معنى أن تمنع مظاهرات التأييد للشعب الفلسطيني المظلوم ولأهل غزة المكلومين، مقابل مظاهرات تأييد للكيان المحتل، وتزيين وجهات المعالم الكبرى في الغرب بالعلم «الإسرائيلي»؟!
وما معنى أن يُمنع أئمة مساجد من الحديث عن المظلمة، مقابل مظاهرات للتنديد باللا سامية كما حصل في فرنسا، بلد حقوق الإنسان والثورة الفرنسية التي ترفع شعارات الحرية والمساواة والأخوة، بلد يعتبر نفسه مرجعية العالم في الحداثة والعلمانية؟!
وما معنى أن يُفرض على الأئمة في ألمانيا التوقيع على التنديد بـ«حماس»، بل تتقدم إحدى الولايات الألمانية بمشروع قانون يربط الحصول على الجنسية الألمانية بشرط الاعتراف بدولة «إسرائيل»؟
ولكن السؤال الأكبر: ما معنى أن يحتفل العالم بـ«اليوم العالمي لحقوق الإنسان»، تزامناً مع مشاهد الإبادة الجماعية في ظل دعم وسند مكشوفين للظالم وتحويل الضحية إلى مجرم؟!
إن آثار الصدمة عميقة، وبدأت مؤشراتها في محاولة فهم ما يجري.
هنا تأتي الحرب الإعلامية الضروس التي لا تقل ضراوة عن الحرب في الميدان.
ولعل عقدة المشهد الإعلامي أن الصورة في هذه الحرب أبلغ من ألف خطاب، وبالتالي، بالرغم من كل الحملات الدعائية لتشويه حقيقة ما يجري من إبادة ودمار؛ فإن وقع صورة الأشلاء ودماء الأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء ورجال أكبر تأثيراً على النفوس.
كما أن عملية تبادل الرهائن الأسرى خلال الهدنة القصيرة كشفت للعالم المفارقة الكبرى بين معاملة الرهائن من طرف المقاومة ومعاملة الأسرى في سجون الاحتلال، وقد صُدم الرأي العام وهو يرى صور الرهائن والابتسامة على وجوههم يوم إطلاق سراحهم، في المقابل شاهد العالم صور أسرى أطفال كسرت أيديهم في الأسْر، كما منع التعبير عن الفرحة بالإفراج عن الأسرى الذين تحدثوا عن ظروف قاسية في الأسْر!
وبالتالي، كانت الصور الكاشفة لعملية تشويه وقلب الحقائق كافية لتهز مصداقية سردية الكيان المحتل ومن سار في ركبه من سياسيين وإعلاميين غربيين؛ الأمر الذي يفسر بداية التحول لدى الرأي العام الدولي في نظرته للصهيونية والكيان المحتل الذي يمثلها.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تجاوزه إلى بداية تزعزع الثقة في القيادات الغربية الداعمة للكيان المحتل، التي أظهرت ولاء غير محدود ومساندة بالقول وبالممارسة لحكومة المحتل ولمجموعات الضغط الصهيونية، الأمر الذي يفسر التحول الكبير في خطاب بايدن بعد أن تأكد من تراجع شعبيته.
رسائل سلبية ومثبطة للأجيال القادمة
في هذا السياق، جاءت ذكرى «اليوم العالمي لحقوق الإنسان» الموافقة للعاشر من ديسمبر، لتطرح السؤال الكبير: عن أي حقوق نتحدث والدمار والإبادة الجماعية للأطفال والنساء وللبشر على مرأى ومسمع من العالم في ظل عجز دولي عن إيقاف آلة الدمار؟!
ما الرسائل التي سترسخ في ذهن الأجيال الصاعدة خاصة من الشباب الذين تشربوا معاني الحرية واحترام كيان الإنسان بل والحيوان، ودرسوا عن القانون الدولي ودور المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن في الحفاظ على السلم؟! إنها رسائل سلبية مثبطة، حيث بات من الصعب الإقناع بمصداقية حقوق الإنسان وشعاراتها والقانون الدولي والمؤسسات الدولية التي تنادي به!
إن التسبب في انهيار منظومة حقوق الانسان تعني باختصار تشجيع الفرد على التمرد على القانون بداية من داخل الأسرة إلى المدرسة إلى المجتمع إلى الدولة، وتمرد الجماعات على بعضها، وتشجيع الأنظمة الاستبدادية على ظلم شعوبها والتضييق على حرياتها ما دام ليس هناك رادع، وتشجيع على تحكيم قانون الغاب حيث تكون الغلبة للأقوى والأكثر بشاعة وعنجهية، وما يترتب عن ذلك من غياب للتعايش المشترك والسلم الاجتماعي وتغذية للعنصرية والكراهية.
إن البشرية اليوم على شفا منعرج خطير في مجال حقوق الإنسان بعد أن اختلط الحابل بالنابل وضاعت البوصلة وفقدت المرجعية؛ بسبب عنجهية الكيان المحتل وتمرده على المؤسسات الدولية وضربه عرض الحائط القوانين والمواثيق والأعراف الدولية، في ظل عجز كامل عن كبح جماح تمرده، فمتى يستفيق أصحاب العقول الحكيمة؛ قادة ومفكرين ودعاة، في العالم لوقف هذا الانزلاق الخطير الذي سيدمر الحضارة الإنسانية؟!