مع دخول العدوان الصهيوني على غزة شهره الثالث، مع تزايد القصف والقتل، واشتداد المعارك البرية وفشل الجيش الصهيوني في ضرب المقاومة، وإفقادها السيطرة وتحقيق أي من أهدافه المعلنة، وتمكن المقاومة من الإمساك بزمام الأمور، ورسم قواعد المعركة، وإلحاق الهزائم المتتالية في القوات الصهيونية المتوغلة، وإجبار قادة الحرب الصهاينة على الرضوخ لشروط المقاومة في الموافقة على هدنة مؤقتة من أجل تبادل الأسرى بين الطرفين، بعد تعنت ورفض صهيوني مستمر؛ تسيطر على الساحة الآن تصريحات صهيونية جديدة حول فكرة عودة الجهود الرامية لصفقة تبادل جديدة، والاستماع الى مقترحات حول ذلك، مقابل ثبات الموقف الفلسطيني المقاوم حول أنه لا صفقات جديدة دون وقف كامل لإطلاق النار وتبييض السجون الصهيونية.
صمود على الأرض
إن إبداع المقاومة في التصدي للقوات الصهيونية البرية، ومهاجمة دباباتها ومدرعاتها وناقلاتها بقذائف «الياسين»، و«RBG» و«TPG»، من مسافة صفر ونصب الكمائن لها، ومواجهة القوات البرية بالرشاشات والألغام وإيقاع العديد من جنودها بين قتيل وجريح، وإبطال التكنولوجيا الصهيوأمريكية، ومقولة «الجيش الذي لا يُقهر»؛ وجد ضباط وجنود العدو الصهيوني أنفسهم وقد استدرجوا إلى مستنقع من الاستنزاف لا فكاك منه، ثم جاء ضغط الرأي العام العالمي، وضغط الإدارة الأمريكية للقبول بهدن إنسانية واتفاق تبادل جزئي للأسرى، ليشكل مخرجاً لجيش الاحتلال لأجل محاولة التقاط أنفاسه، وتبرير وقف عدوانه، في رضوخ واضح لشروط المقاومة، وطغت على وسائل الإعلام الصهيونية مناخات الإقرار بانتصار المقاومة، وأشارت إلى أن دولة الاحتلال وجدت نفسها بأنها لا تملك خيارات سوى القبول بما كانت ترفضه في بداية الحرب.
لقد شكل رضوخ الاحتلال لشروط المقاومة تأكيداً جديداً على أنّها تمسك بزمام المبادرة، وتفرض الشروط التي يحاول الاحتلال التملص منها، وهذه ليست سوى مجرد بداية ستقود إلى إرغام حكومة نتنياهو على قبول إطلاق جميع الأسرى؛ وبالتالي تحقيق المقاومة مكاسب كبيرة على المستويات السياسية والشعبية، تعزز من شعبيتها وحضورها كقوة أساسية لا يمكن القفز فوقها إن كان على صعيد تبادل الأسرى، أو في الحديث عن خيارات الشعب الفلسطيني، وآفاق أي حلول سياسية مستقبلية للقضية الفلسطينية.
حركة «حماس»، التي تقود المقاومة في غزة عبر جناحها العسكري «كتائب القسام»، إلى جانب الفصائل الأخرى، تبدي موقفاً صلباً منذ بدء العدوان الصهيوني بأنه «لا تبادل قبل وقف الحرب»، وبأنها لن تقبل بهدن إنسانية أو مؤقتة جديدة مقابل الإفراج عن عدد من المحتجزين، بعدما نجحت في الهدنة المؤقتة السابقة في وقف إطلاق النار الذي استمر أسبوعاً برعاية قطرية أمريكية مصرية، والإفراج عن أسرى فلسطينيين مقابل بعض الأسرى الصهاينة من النساء وكبار السن ومزدوجي الجنسية، في الوقت الذي عادت فيه الحرب والمعارك بين الطرفين مجدداً، وبشكل أعنف من السابق، وسط محاولات صهيونية لإجبار المقاومة على الاستسلام وتسليم بقية الأسرى.
فرض وإجبار
لقد نجحت حركة «حماس» في فرض معظم شروطها في الهدنة المؤقتة التي جرت في الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي، بينما ما زالت قادرة على التصدي للقوات الصهيونية في محاور القتال المختلفة وفرض وقائع جديدة في أرض المعركة، وإيقاع الخسائر الفادحة في المعدات والأرواح بين الجنود المتوغلين وقتل أعداد كبيرة من الضباط والجنود؛ لإجبار الرأي العام الصهيوني على التنازل، والضغط على حكومته لوقف القتال، والقبول بشروط المقاومة أمام الكم الهائل من أعداد الجنود القتلى في غزة والجثث العائدة إليهم في توابيت، والخوف على أبنائهم من المحتجزين لدى المقاومة، واليقين بعدم قدرة الجيش على تحريرهم عبر هذه العملية العسكرية أمام الصمود الأسطوري للمقاومة بعد ما يزيد على شهرين على حرب الإبادة الصهيونية بحق الفلسطينيين المدنيين الأبرياء؛ مما يشير إلى أن المقاومة ماضية في هذه الحرب ولن تتنازل عن مطالبها وتحقيق شروطها بعد سقوط الأهداف الصهيونية المتمثلة في لا وقف لإطلاق النار قبل تحرير الرهائن، ولا بقاء لـ«حماس» في غزة.
ضغط صهيوني شعبي
في المقابل، فإنّ استطلاعات الرأي داخل الكيان الصهيوني بدأت تعكس تداعيات الإخفاق في مواجهة المقاومة، حيث أشارت إلى تراجع كبير في شعبية نتنياهو، الذي يقود الحرب من أجل بقائه في السلطة، وتراجع نسبة المؤيدين لهذه الحرب مقابل تزايد نسبة المطالبين بوقفها، وعقد صفقة تبادل مع المقاومة وإطلاق السجناء الفلسطينيين مقابل المحتجزين الصهاينة؛ مما يعني توقف العدوان والقبول بشروط المقاومة؛ الأمر الذي سيكون له انعكاسات زلزالية على الكيان الصهيوني، ويؤشر لبروز احتمالين لا ثالث لهما؛ الأول: تمديد الهدنة مرة تلو الأخرى مقابل عمليات تبادل تفضي لوقف العدوان؛ لأن الخيار العسكري لاستعادة الأسرى غير ممكن، ويكون ذلك هو السبيل لنزول نتنياهو عن شجرة مواصلة العدوان والقبول بشروط المقاومة لوقفه والانسحاب من غزة، وفك الحصار عن القطاع كمدخل للبدء بالتفاوض حول شروط إطلاق الأسرى من الجنود الصهاينة مقابل الإفراج عن جميع الأسرى في سجون الاحتلال.
الثاني: استئناف العدو لعدوانه، وعدم تراجع نتنياهو الذي لا يريد دفع ثمن الفشل، والهزيمة؛ مما يعني زيادة حجم خسائر الجيش الصهيوني والكيان برمته، إضافة إلى الفشل في تحقيق أي من الأهداف التي يسعى إليها؛ لأنّ المقاومة أثبتت أنها قادرة على إغراق جيش الاحتلال في رمال غزة وتحويلها إلى مقبرة للجنود الصهاينة، واحتمالات تصاعد المواجهة مع «حزب الله»، وضد قوات الاحتلال الأمريكية في العراق، إلى جانب تشديد حصار «أنصار الله» (الحوثيين) للسفن الأمريكية والصهيونية وتهديد حركة الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب؛ مما يرفع منسوب الضغط على دولة الاحتلال والولايات المتحدة التي يزداد قلقها من توسع دائرة الحرب الدولية.
ومن هنا، فإنّ حكومة نتنياهو وواشنطن تجدان نفسيهما أمام خيارين أحلاهما مرّ؛ إنهاء الحرب والقبول بشروط المقاومة، أو استمرارها وتحمل تداعياتها الخطيرة، وهو ما لا تريده الولايات المتحدة، وهما نابعان من مأزق الفشل في الميدان، على أن سلوك الخيار الأول يبقى بالنسبة لدولة الاحتلال وواشنطن أقل ضرراً من اتباع الخيار الثاني؛ لأن نتنياهو ومجلس حربه سيدفعون ثمن الهزيمة والفشل والإخفاق في تحقيق أهداف العدوان بالقضاء على المقاومة، بل الخضوع لشروطها عاجلاً أم آجلاً.