الحرب على غزة، منذ 7 أكتوبر 2023م، كانت كاشفة لكثير من أخلاقيات الخطابات التي ظهرت خلالها، فكشف عن جانب من زيف خطاب فلسفي غابت عنه العدالة؛ فسوَّى فلاسفة كبار مثل «يورغن هابرماس» بين الضحية والجاني، وانطلق لتأييد الوحشية «الإسرائيلية»، وكذلك زيف الخطاب الدولي بعدما ساندت أغلب الدول الكبرى العدوان «الإسرائيلي»، وأمدته بمئات الأطنان من القنابل الأكثر تدميراً، وعنصرية الخطاب «الإسرائيلي»، الذي نظر للفلسطينيين كـ«حيوانات بشرية» يجب التخلص منها؛ وذلك لتبرير عمليات القتل المنهجية والهمجية التي ترتكب بحق المدنيين العزل في غزة.
ومن الناحية الأخرى، كشفت الحرب عن عدالة وإنسانية خطاب المقاومة الفلسطينية، وقدرتها على تجاوز الخطاب المنكسر للضحية إلى خطاب إنساني يتبنى قيماً واضحة في الدفاع عن الأرض والحرية والحق في الحياة، وتجاوزه للحدود الجغرافية والسياسية والأيديولوجية، ليفهمه ويتفهمه ملايين البشر؛ لعمق أخلاقياته، وتلازمها مع مفهوم العدالة والتحرر ورفض الاحتلال.
زيف أخلاقي
التلازم بين الخطاب والأخلاق وقت الأزمة ينشئ سياجات من القبول والتسويق للفعل للسياسي والعسكري، ومن بين أكثر قضايا الخطاب التي أثارتها أحداث غزة مفهوم الحرب العادلة، الساعي لإزالة أو حتى تفهم التعارض بين الجانب الأخلاقي والضحايا والدماء الناجمة عن الحروب، وكذلك التلازم بين الأخلاق وتفاصيل الصراع، وحدود استخدام القوة، والقيود الأخلاقية المفروضة على القوة، لكن من أهم الأشياء التي يطرحها مفهوم الحرب العادلة المبرر الأخلاقي لشن الحرب.
الخطاب «الإسرائيلي» كان أكثر اتساقاً مع أخلاقه العنصرية والاستعلائية إبان «طوفان الأقصى»!
وفيما يتعلق بعملية «طوفان الأقصى»، التي بدأت في 7 أكتوبر 2023م، نجد خطاباً فسلفياً معاصراً، تفهم الموقف الأخلاقي لـ«طوفان الأقصى»، ووضعها في خانة رد الفعل على الاحتلال والعنصرية الصهيونية، ومن الناحية الأخرى رفض هذا الخطاب التوحش «الإسرائيلي» ووصفه بالمجازر وحرب الإبادة الجماعية.
الفيلسوفة الأمريكية اليهودية «جوديث بتلر»، وصفت ما يجري بأنه حرب إبادة جماعية؛ لأن الهجمات لا تستهدف المقاتلين الفلسطينيين فقط، ولكن تستهدف المدنيين العزل في غزة، وطالبت الرئيس الأمريكي «جو بادين»، من خلال رسالة وقَّعتها مع عشرات من الكتَّاب والفنانين اليهود، بوقف فوري لإطلاق النار، وكتبت مقالاً قالت فيه: «العنف «الإسرائيلي» ضد الفلسطينيين شيء طاغٍ، فهناك القصف المستمر بلا هوادة وقتل الناس من كل الأعمار في بيوتهم وفي الشوارع.. هذا العنف بكل أشكاله مُوجَّه ضد أناس معرضين لأحكام الفصل العنصري وأحكام الاستعمار وسلب حق الدولة».
أما الفيلسوف السلوفيني «سلافوي جيجك»، فشبَّه خطاب المقاومة الفلسطينية التحرري بخطاب اليمين «الإسرائيلي» المتطرف، لكن ما أغضب الكثير من الحضور الغربي في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب من «جيجك» وقاطعوه كلمته أكثر من مرة؛ وهي وصفه لحكومة «نتنياهو» بأنها دينية وليست ديمقراطية عصرية كما يروج «الإسرائيليون».
أما الفيلسوف الإيطالي «جورجيو أغامبين»، فسخر من ازدواجية الأخلاق «الإسرائيلية»، وسخر من تباهي «إسرائيل» بتوصل علمائها في جامعة «تل أبيب» من أن يسجلوا بميكروفونات خاصة لصرخات الألم التي تصدرها النباتات عند قطعها أو ظمئها، وبين صمم تلك الميكرفونات عن سماع ما يجري في غزة!
ورغم هذا الخطاب الفلسفي الذي يبدو متحفظاً في التعاطف مع غزة، فإن هناك فلاسفة كباراً أعلنوا تأييدهم لـ«إسرائيل» فيما ترتكبه من مذابح، رغم نزعة هؤلاء الفلسفية الأخلاقية، في مقدمتهم «يورغن هابرماس» الذي أيَّد مع الفيلسوف والقانوني الألماني «كلاوس غونتر»، وفيلسوف التسامح «راينر فورست»، بياناً تضامنوا فيه مع «إسرائيل»، محملين الفلسطينيين المسؤولية عما يجري، واصفين ما قامت به المقاومة الفلسطينية بـ«المذبحة» ضد الشعب اليهودي!
الخطاب الأخلاقي بالإعلام العالمي كان في أغلبه ساعياً لتبرير الوحشية «الإسرائيلية» في غزة!
في حين التزم البيان الصمت المخزي أمام ما يرتكبه «الإسرائيليون» من إبادة جماعية في غزة، فكان الخطاب تغطية فلسفية على العنصرية والنازية الصهيونية؛ وهو ما مثَّل تناقضاً صارخاً مع فلسفة «هابرماس» الأخلاقية التي نادى بالتزام السياسة بها، في حين كان هو أبرز المناقضين لها بهذا البيان المجافي لقيم العدل والحرية والأخلاق.
نزعة فاشية
أما الخطاب «الإسرائيلي»، فكان أكثر اتساقاً مع أفكاره وأخلاقه العنصرية والاستعلائية إبان معركة «طوفان الأقصى»، فكان يحتقر الفلسطينيين، ويصفهم بالحيوانات التي يجب أن تُباد، خطابٌ يبرر الوحشية، ويرى في مبادئه الصهيونية واليهودية معياراً للأخلاق، ولا يرى الآخر الفلسطيني إلا شيئاً يتأذى من وجوده، وهذا ما عبرت بجلاء عنه تصريحات وزير الدفاع «يوآف غالانت» عندما أعلن أن «إسرائيل» تقاتل «حيوانات بشرية»، وهو اختزال عنصري لما يجري في غزة، أو دعوة الكاتب «الإسرائيلي» «أرئيل كهانا» بإرجاع غزة إلى العصر الحجري، والسحق لغزة بدون رحمة، وعدم وضع محكمة العدل الدولية في الحسبان.
وقد لخص الصحفي «الإسرائيلي» «جدعون ليفي» المشهد داخل «إسرائيل» بتأكيد انتشار النزعة الفاشية في جميع المستويات «الإسرائيلية» فيما يتعلق بغزة، حتى لتبدو وكأنها الموقف الوحيد السائد، واصفاً «إسرائيل» بفقدان الضمير والحكمة.
أما الخطاب الأخلاقي في الإعلام العالمي أثناء المعركة، فكان في أغلبه ساعياً لتبرير الوحشية «الإسرائيلية» في غزة، وطرح وجهة النظر «الإسرائيلية» في الحرب وحدها، وإغفال أو تشويه الموقف الفلسطيني، والترويج لعدالة الحرب «الإسرائيلية»، وكانت أخلاقيات المهنة، من حيث الابتعاد عن التحيز، وتحري الحقيقة، بعيدة بنسبة كبيرة عن وسائل إعلامية كبرى، بل إن بعضها مثل شبكة «CNN» زيفت الحقائق وزعمت أن الفلسطينيين يذبحون أطفال اليهود، وهي معلومة استند إليها الرئيس «بادين» ثم أعلن البيت الأبيض عن أنها لم تكن حقيقية.
المقاومة الفلسطينية طرحت خطاباً أخلاقياً من حيث مبررها الأخلاقي والتضحيات التي تقدمها
أما شبكة «BBC» فشوَّهت المتظاهرين ضد الحرب في بريطانيا ووصفتهم بداعمي «حماس»، واتهمت عدداً من صحفيِّيها بالتحيز ضد «إسرائيل» وأحالتهم للتحقيق، لمخالفتهم لنهجها في إدانة «حماس» في تغطياتها الإعلامية.
أما المقاومة الفلسطينية، فاستطاعت أن تطرح خطاباً أخلاقياً في المعركة، من حيث مبررها الأخلاقي للحرب، والتضحيات التي تقدمها، ويتكبدها المدنيون في غزة، وكذلك في تعاملها الإنساني مع الأسرى «الإسرائيليين» الذين أشادوا من داخل «إسرائيل» بحسن التعامل أثناء فترة أسرهم، وفي إصرار المقاومة على التفاوض من منظور عادل وليس انصياعاً لإرهاب القوة الذي تمارسه آلة الحرب الصهيونية.
ومن ناحية أخرى، كانت بيانات المقاومة تتسم بالحقيقة والابتعاد عن التهويل أو المبالغة في خسائر الجانب الصهيوني، كما كانت تقدم الأدلة على ما تطرحه من معلومات وأرقام، وتصر على مطلبها العادل في التفاوض مع «إسرائيل» بعد وقف إطلاق النار، وإنهاء أزمة الأسرى والمعتقلين من الجانبين، وابتعاد المقاومة الفلسطينية عن تسويق صورة الضحية للشعب الفلسطيني، وترويج صورة مغايرة في كونها حركة تحرر وطني ضد مشروع استعماري عنصري عنيف، كذلك تبديدها لكثير من معالم الصورة السلبية التي رسمها الإعلام الصهيوني والغربي عن الفلسطينيين طيلة عقود طويلة، من كونهم متطرفين وإرهابيين.