تعتبر معركة الوعي من الحروب الجديدة التي تقدَّمت في أهميتها على حساب الحروب التقليدية، ولا تزال ساحة هذه الحرب ساخنة بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، وهي في حالة احتدام غير مسبوق.
وتثبت مكاتب الدراسات ومراكز الأبحاث تراجع الأداء «الإسرائيلي» في معركة الرواية والصورة، الذي كان بارعاً فيها لعقود من الزمن، بينما أثبتت المقاومة تحقيق خطوات متقدمة للتفوق في معركة الوعي، في محطات فارقة لهذه التحولات الإستراتيجية، رسمت ملامح معركة الوعي، حيث نجحت في تحريك الرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي والعالمي؛ بما ينسجم مع إستراتيجيتها في المقاومة والتحرير.
ولعل توازن الرعب وحالة الردع التي حققتها المقاومة في المواجهات العسكرية، ومنها معركة «سيف القدس» عام 2021م، وما تحققه الآن في معركة «طوفان الأقصى»، هي التي سطَّرت هذه النجاحات في معركة الوعي، فقد جعلت هذا العدو المتوحش ينزل من علياء شجرة غرور القوة، ويخيب في تحكُّمه في الرواية والصورة كما يشاء.
الأمة أيقنت أن مشروع المقاومة خط الدفاع الأول عن الإسلام والمقدسات والأمن القومي
فالكيان الصهيوني يعاني أزمة متفاقمة في هذه المعركة، التي تحولت إلى انتكاسة حقيقية، فبالرغم من تفوقه التكنولوجي والتقني بفائض من الدعم بإمكانات الدول، ومع ذلك فإن المقاومة -برغم حجم الآلام وتواضع الإمكانات- تجاوزت هذه المعركة بوعي متراكم، وأثبتت معركة «طوفان الأقصى» أن المعارك لا تُقاس بالمعايير المادية والحسابات الدنيوية، بل تتجاوز الإطار الكمي العددي في عالم المشاهدة الظاهرية، وأن غرور القوة لا يصمد أمام معركة الوعي والصورة، فأسقطت كل تلك السرديات الصهيونية، وتلك البكائيات القديمة، وتلك المغالطات التاريخية، ولعب دور الضحية، بتعرُّض اليهود للاضطهاد النازي، وأن «إسرائيل» تعيش في بؤرة محاطة بالأعداء، فإذا بها تنكشف أمام العالم بأنها نسخة عملية للنازية الجديدة، وأنها متشبعة بثقافة العنف والإرهاب، وأنها غارقة في ذهنية التوحش والإجرام، وأنها انفضحت في هويتها العنصرية، وأنها قد ضربت بممارساتها العدوانية عرض الحائط كل القيم الإنسانية والأعراف البشرية والقرارات الأممية والاتفاقيات الدولية.
ولم تكتف «إسرائيل» بالعدوان الهمجي المادي، بل حاولت السردية الصهيونية عزل هذا الإجرام عن سياقه التاريخي، بمحاولة تثبيت مزاعم الحق في الدفاع عن النفس، وأنها تعرضت -ابتداء- إلى عدوان «إرهابي» يوم 7 أكتوبر 2023م، وبالغت في الصورة المأساوية للضحايا المدنيين من أجل تبرير حرب الإبادة وجرائم الحرب والمجازر ضد الإنسانية بكل تلك الوحشية في قطاع غزة، وأمعنت في طمس تاريخها الإجرامي، الذي كتبت صفحاته ببحار من الدماء، وقفزت كل هذا الزمن طيلة 75 سنة من الاحتلال على جبال من الأشلاء وجثث الأبرياء.
ولم يكتف هذا العدو الوحشي بتزييف التاريخ ضمن معركة الوعي، بل أصر على تزييف الحاضر عن طريق اختزال الصراع في تمثيلية مضحكة، وهي ثنائية الصراع بين «إسرائيل» و«حماس»، بل وسخَّر كل الأبواق الإعلامية العالمية والإقليمية والعربية «المتصهينة» في ترسيخ هذه الصورة المزيَّفة بهذا الاستخفاف الذي يصل إلى حد السذاجة!
إلا أن معركة الوعي والصورة التي تقودها المقاومة -إلى جانب المواجهة العسكرية الساخنة- أثبتت زيف هذه السردية الصهيونية، وأن المعركة يقودها ذلك التحالف الشيطاني الصليبي (الصهيونية المسيحية)، عبر تحالف دولي، تقوده أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، وبعض الدول العربية المطبِّعة، ضد كل الشعب الفلسطيني، بالقضاء على المقاومة أولاً، وإلغاء استحقاق الدولة الفلسطينية ثانياً، وعدم الاكتفاء بإلغاء حق العودة فقط، بل التهجير القسري والتطهير العرقي لكل الشعب الفلسطيني، ابتداءً بقطاع غزة إلى سيناء، ثم الضفة الغربية إلى وطن بديل في الأردن، وفسح المجال لاعتراف العالم بيهودية الدولة «الإسرائيلية»، وتحقيق تلك الأساطير الدينية لدى المسيحية الغربية بالعودة الثانية للمسيح، بعد عودة كل اليهود إلى أرض الميعاد، أرض فلسطين.
«طوفان الأقصى» نجحت في اجتثاث السرديات والخرافات المؤسِّسة للمشروع الصهيوني
وأيضاً، أن مسلسل السلام وعبثية المفاوضات ومكر المؤتمرات الدولية لحل القضية الفلسطينية لم تكن إلا مجرد خداع في معركة الوعي، كآلية في تخدير الشعوب، من أجل كسب الوقت، وربح التاريخ والجغرافيا لصالح المشروع الصهيوني، فجاءت معركة «طوفان الأقصى» لتبطل كل البهتان والسِّحر، وأن هذه المخططات لن يكتب لها النجاح إلا ببقائها خيالاً حالماً في أذهان أصحابها، وأن هذه السرديات الصهيونية لن تمر إلاَّ عبر مواجهة حضارية مع الأمة بأكملها.
فقد أيقنت الأمة أن الحرب على المقاومة حرب عليها، وأن مشروع المقاومة خط الدفاع الأول عن الإسلام والمقدسات والأمن القومي الإستراتيجي لكل الدول العربية والإسلامية، وأن انتصار المقاومة على المشروع «الصهيو أمريكي» انتصار لكل الشرفاء والأحرار في العالم، بإنهاء الهيمنة الغربية، وكسر الأحادية القطبية في هذا الزمن الأمريكي الظالم أهله.
لقد عاشت الحضارة الغربية المادية المتوحشة دَهْراً من الزمن في وَهْم غرور تفوُّق العقل الغربي، الذي وصل إلى اليقين بأنه قد بلغ ذروة الكمال البشري، وأنه الأنموذج المثالي الأوحد للبشرية، وأنه تجسيد لمقولة نهاية التاريخ، إلا أن الأنموذج الرباني الذي اشتغلت عليه المقاومة في التخفُّف من هذه الحمولات الأيديولوجية الغربية، عبر صناعة رجل العقيدة، بذلك الإشعاع الإيماني المتوهج، جعل سحر محاصرة الأمة ينقلب على الساحر بمحاصرة المشروع الصهيوني الغربي نفسه.
لقد ترسخت في الذهنية الغربية -والصهيونية تحديداً– تلك الفكرة المكتنَزَة في المخيال الصهيوني بأن غير اليهود، وخاصة العرب والمسلمين، هم مجرد مجتمعات حيوانية متخلِّفة، مصداقاً لقوله تعالى على لسانهم: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 75)، فلا حرج في إبادتهم والقضاء عليهم، دون الاكتراث لأي محاسبة أو معاقبة، سواء كان هذا العقاب على الأرض بالتفوُّق في المعركة العسكرية الخشنة، أو في معركة الوعي والصورة الناعمة، أو على المستوى الدولي لدى الرأي العام أو في المحاكم الجنائية والمؤسسات الدولية.
.. وتُشكِّل بداية لمرحلة جديدة من تاريخ الأمة باستعادة وَعْيها ومركزيتها في هذا الوجود
إلا أن معركة «طوفان الأقصى» كانت طوفاناً عالمياً حقيقياً بدأ في اجتثاث كل تلك السرديات والخرافات المؤسِّسة للمشروع الصهيوني، وهي أقسى عقوبة تتعرض لها الرواية «الإسرائيلية»، ضمن معركة الوعي والصورة، فقد أدرك الجميع أن معايير النصر لم تعد مقتصرة على النتائج العسكرية والمادية، وحسابات الربح والخسارة في عالم الأرقام والأشياء، بل هي معركة استراتيجية للوعي الثقافي والحضاري والقيمي عبر تحرير العقول والضمائر والإرادات.
لقد أثبتت معركة «طوفان الأقصى» تلك العلاقة المتلازمة بين الحرية والتحرير، فثورة العقول والقلوب والضمائر الحرة هي التي تبتكر ثورة الأفكار والخطط والآليات لتحرير الأرض والإنسان، وأن معركة العقول في الوعي أقوى من معركة السلاح في المواجهة، فانتصرت المقاومة في معركة العقيدة والثقافة والحضارة والإيمان، وهي التي تصنع الفارق في عقيدة المقاتل بين المجاهد الفلسطيني الذي يركض وراء الشهادة، والجندي «الإسرائيلي» الجبان والأحرص على حياة.
إنَّ معركة «طوفان الأقصى» تمثل إجابة جديدة ومبدعة عن الانتصار في معركة الوعي والصورة، وهي تُشكِّل بداية لمرحلة جديدة من تاريخ الأمة، باستعادة وَعْيِها ومركزيتها في هذا الوجود، وأن غرور القوة المادية العسكرية لدى هذا الكيان الصهيوني لن يجرُّه إلا إلى مزيد من الهزائم الإستراتيجية في معركة الوعي، وهو ما يهدد المستقبل الوجودي له.