ربما كان يوم 7 أكتوبر الماضي، وما تلاه على مدار أكثر من شهرين ونصف شهر، علامة فارقة في تاريخ النظريات العسكرية، سطرتها حركة مقاومة بأسلحة خفيفة ومتوسطة، أمام جيش مدجج بأقوى أنواع الأسلحة والمدرعات والقنابل والصواريخ والطائرات والغواصات، فضلاً عن دعمه عسكرياً واقتصادياً واستخباراتياً من جيوش دول عظمى حول العالم.
أكاديمية القسام، ومنتوجها الميداني والاستخباراتي والسياسي والإعلامي، في عملية «طوفان الأقصى»، قد تحير خبراء العسكرية والإستراتيجية لسنوات، وقد تطيح بنظريات عسكرية عفى عليها الزمن.
نحن بصدد أكاديمية عسكرية جديدة، تضاهي وربما تفوق أكاديمية «ساندهيرست» العسكرية الملكية في بريطانيا، ومدرسة «دي سان سير» الحربية الفرنسية، وجامعة «القوات المسلحة الاتحادية» في ألمانيا، وأكاديمية «ويست بوينت» أحد أشهر الأكاديميات العسكرية الأمريكية.
هذه المرة، وعلى أرض عربية محتلة، تبرز أكاديمية من نوع خاص، ليست مدرسة عسكرية فحسب، بل جامعة إيمانية وروحانية وعقائدية وعلمية وسياسية، تعيد للأمة بعضاً من مجدها وعزتها.
أكاديمية معنية في المقام الأول بإعداد العنصر البشري، الذي لا يهاب الموت، ويقاتل في ظروف صعبة ومعقدة، ويستطيع الصمود لشهور، تحت أحزمة نارية كثيفة، بل بإمكانه تكبيد العدو خسائر فادحة، بفضل قدراته المهارية، وتكتيكاته المتطورة، وعقيدته الصلبة التي لا تلين.
مقاتل ليس خريجاً من تلك الأكاديميات، ولا يحمل رتبة عسكرية، فقط مقومات بسيطة، وملابس رثة، مع قليل من الطعام والشراب، وتحت ظروف طقس صعبة، وقد تهدم منزله وفقد أسرته، ولا يملك من السلاح إلا القليل، لكنه يبهر الخبراء العسكريين، ووزارات الدفاع حول العالم، ويحرج «الموساد الإسرائيلي» وأجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية، وغيرها من استخبارات دول غربية وعربية تعمل في الخفاء.
إنه مقاوم صاحب قضية عادلة، وعزيمة خارقة، وعقيدة صادقة، وإرادة فولاذية، وعقلية نابغة، فشق الأرض بحثاً عن أسباب النصر، وهو متعلق برب السماء، فكان له ما أراد، من حرب أنفاق كسرت هيبة العدو، وحطمت أسطورته، وزلزلت أركانه، وقنصت جنوده، وأبكته بالنعوش تلو الأخرى.
رحلة تدريبية وإيمانية صعبة من الصغر، ربما استغرقت سنوات وسنوات، لتصقل قدرات ومهارات فلسطيني محاصر منذ عقود، وقد تكالب عليه الأعداء كما تتكالب الأكلة إلى قصعتها، لكن ذلك لم يفتّ في عضده، فقام ليله، وصام نهاره، وأعد ما استطاع، ورمى؛ (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى) (الأنفال: 17).
إن خريجي تلك الأكاديمية لهم جيل من مدرسة النبوة، دفعة جديدة من الصحابة، طليعة من أشاوس «بدر»، ورجال «الخندق»، وأبطال «خيبر»، وشهداء «مؤتة»، لا يخشون أحداً إلا الله، ولا يهابون إمبراطوريات هذا الزمان.
جيل تترس بالعقيدة والإيمان، وتسلح بالفكر والعلم، يد على المصحف، وأخرى على الزناد، بطن لا تشبع، وجسد لا يرتاح، بل عقل يتدبر، وقلب يخشع، ولسان يدعو، ويد ترمي، فاجتمعت لهم أسباب النصر.
لقد استعادوا رحيق أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، ولسان حالهم مقولة عمير بن الحمام: «لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة»، صاروا أنموذجاً في شجاعة زيد، وجعفر، وابن رواحة، وابن الوليد، فتسنموا قمم العطاء والبذل والجهاد في سبيل الله.
إنهم لا ينتظرون رتباً ونياشين عسكرية، وأوسمة دنيوية، وجوائز مادية، وأضواء إعلامية، بل إنهم من أكاديمية أخرى لم يعرفها العالم في التاريخ الحديث، يريدون نصراً أو استشهاداً، عزة أو جنة، وطناً حراً أو كفناً بدماء زكية تجعل منهم أحياء عند ربهم يُرزقون.
سيغيرون مناهج الحروب، وعقائد الجيوش، وعلوم الأكاديميات، ونظريات السياسة، فقد قهروا الدبابة والصاروخ والغواصة وحاملة الطائرات، ودمروا فخر صناعات العدو وحلفائه، وخدعوا أقماره الاصطناعية، وروبوتاته الذكية، بشفرة قرآنية؛ (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) (يس: 9).
شاهدوا ثباتهم وحركاتهم وصيحاتهم، أطربوا أسماعكم ببياناتهم، أمتعوا أبصاركم بفيديوهاتهم، سترون (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب: 23)، لا يقيمون للموت وزناً، يواجهون عدوهم من مسافر الصفر، وهم يشتاقون إلى أسمى الأماني؛ الموت في سبيل الله.
سطور من نور، في طيات كتب ومناهج أكاديمية «القسام»، نجحت في أن ترينا حقيقة «كان قرآناً يمشي على الأرض»، يتمثلون آيات الله، وكأنها تنزلت عليهم، يتدبرون (ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ) (المائدة: 23)، فيطلقون الطوفان، يؤمنون بالمعادلة الربانية؛ (غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ) (البقرة: 249)، فيثخنون في العدو، تتكالب عليهم الأمم فيثقون في وعده عز وجل؛ (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).