أيام، وربما شهور، تفصلنا عن نهاية الحرب على قطاع غزّة، فعلى الرغم من التصريحات «الإسرائيلية» بأن الحرب مستمرة حتى القضاء على «حماس»، وإخضاع غزة بالكامل للسيطرة «الإسرائيلية»، فإن الواقع السياسي والعسكري يكشف خلاف ذلك تماماً، فلو أردنا الحديث في المجال العسكري، فحتى الآن لا تزال المعارك العنيفة محتدمة في مناطق متفرقة من قطاع غزة وأشدها في المنطقة الشمالية، التي دخل إليها جيش الاحتلال منذ أسابيع، وأعلن سيطرته عليها، وصرح المسؤولون «الإسرائيليون»، بأن «حماس» تكبدت خسائر فادحة فيها، ولكن شدة المعارك في الشمال، وضراوتها، وخسائر الاحتلال الفادحة، أثبتت خلاف ذلك، خصوصاً المعارك التي حصلت في حي الشجاعية ومخيم جباليا ومخيم الشاطئ، بل إنه من الممكن القول: إن المعركة ما زالت في نقطة الصفر من ناحية النتائج الفعلية.
فالمشاهد تكشفت عن حضور قوي للمقاومة الفلسطينية على الأرض، وقد شاهد الجميع هجوم المقاومين على خيمة عسكرية للجيش «الإسرائيلي»، وهم حفاة من دون دروعٍ أو خوذ، وتسللهم لزرع الألغام في دبابات «الميركافا» العملاقة، ومن دون سلاح نوعي وحديث، فاقتصر ما يحملونه على «كلاشنكوف»، وتسلحوا بسلاح معنوي أمضى، وهو عقيدة إيمانية راسخة بأنهم منتصرون، وقد انتصروا بالفعل، ووثّقوا نصرهم.
وفي المقابل، شاهد الجميع مقطع فيديو نشره جيش العدو لجندي يرى فتحة نفق وسط دبابات جيشه، فيرتجف ويمسك بكتف زميله، ويرمي قنبلة في الفتحة، ويده ترتجف، وكأنه يرى الأشباح أمامه، وبعدها يطلق رصاصات عدة في الفتحة مرتجفاً ويرمي قنبلة أخرى، ويجري فزعاً، ويملأ الخوف قلبه.
أمام هذين المشهدين يمكننا فهم ما يحدث على الأرض في قطاع غزّة، وبالتأكيد فالإدارة الأمريكية نفسها قد فهمت أن إطالة أمد الحرب ليس في صالح كيان الاحتلال، الذي خسر على كافة الأصعدة؛ على الصعيد العسكري، بات الخوف يتسلل إلى قلوب الجنود «الإسرائيليين» كما يتسلل البرد إلى أجساد الأطفال الفلسطينيين في خيام الجوع والبرد في جنوب غزة، وعلى الصعيد المدني الداخلي، باتت التظاهرات تشكل جزءاً يومياً من حياة «الإسرائيليين»، وعنوان المرحلة أيضاً، خصوصاً بعد مقتل ثلاثة أسرى برصاص جيش الاحتلال في غزّة، فقد شكّل ذلك الحدث ضربة قاسية لثقة الشارع «الإسرائيلي» بجيشه، واللافت كان تلويح المتظاهرين بالعلم «الإسرائيلي»، وعليه لون أحمر يشير إلى الدماء؛ أيّ تورطه في قتل مواطنيه.
هذا بالإضافة إلى الخسارة على الصعيد الدولي، إذ إن الغطاء الدولي يُسحب عن كيان الاحتلال، فهناك رفض عام لما يحدث في غزة من مجازر مروعة ضد الأطفال والنساء والمدنيين العزل، وبالتالي لن تسمح حلفاء الكيان له بإطالة أمد الحرب، وتحديداً إدارة جو بايدن التي باتت تفقد الكثير من رصيدها الشعبي.
قبل أيام قليلة، أعطى رئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو، رئيسَ «الموساد» ديفيد برنيع الحرية المطلقة في العمل للإفراج عن الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية في غزّة، ويتضمن هذا التفويض، لقاء الوسطاء بهدف تحريرهم، وهذا ما جعل برنيع يوجه تنسيقه وورش عمله صوب قطر، وتصرف نتنياهو هذا يمكن تفسيره بأنه فهم أخيراً أن الحرب الطويلة لا فائدة منها، وأنه بالحرب لن يعود أحد حياً من الأسرى، ومن المعلوم أن أجهزة الأمن لدى كيان الاحتلال والمتمثلة بـ«الموساد»، و«الشاباك»، و«أمان» تمتلك سلطة أعلى من سلطة الحكومة نفسها، وكلامها ينفذ من دون تأخير أو رفض، وبالتالي أراد نتنياهو أن يمنع أصوات المعارضة التي ترفض المفاوضات مع المقاومة الفلسطينية، وخاصة تلك المتمثلة باليمين المتطرف مثل إيتمار بن غفير، وبتسلإيل سموتريش، وفي ظل هذا التخبط «الإسرائيلي» نرى أن شروط «حماس» ما زالت واضحة وثابتة، وهي وقف الحرب نهائياً، وإدخال المساعدات للفلسطينيين، ومن ثم الدخول في مفاوضات شاملة.
والحقيقة أن أكثر ما يُقلق نتنياهو سؤال: ماذا سيحدث في اليوم التالي للحرب؟
فالكل يعلم أن نتنياهو، ووزير الحرب يوآف غالانت، ورئيس الأركان هرتسي هليفي، سيتوجهون إلى المحكمة العليا التي تملك بحقهم ملفات كثيرة ستجعلهم يقبعون في السجن سنوات عديدة، وهو ما حدث مع رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت الذي فشل في حرب لبنان عام 2006م، وإن حادثة خطف جنديَين «إسرائيليَين» جعلته يعيش في السجون 16 شهراً، فكيف بهذه الحرب الكارثية على جميع المستويات النفسية والاقتصادية والمعنوية والأمنية، وما ترتب عليها؟!
هذا ناهيك عن الدعاوى التي ستُرفع عليهم في المحاكم الدولية، وبالتالي الصورة التي حاول نتنياهو رسمها لنفسه ليُوصف بأنه «أعظم» رئيس وزراء في تاريخ كيان الاحتلال، بل وأنه أعظم من ديفيد بن غوريون، ستتحطم تلك الصورة وتنتهي، وسيمهد ذلك لنهاية حكم اليمين، وعودة تيارات الوسط واليسار (حمائم الاحتلال) إلى سدة الحكم، وهو ما يُسهل إجراء مفاوضات تسوية سياسية وأمنية برعاية أمريكية في الشرق الأوسط على أساس حدود عام 1967م، وهي المبادرة العربية التي قدّمتها السعودية في قمة بيروت عام 2002م.
أما فيما يتعلق بالفلسطينيين، فاليوم التالي للحرب هو أيضاً سؤال جوهري، فقد دمرت أساليب الحياة اليومية، وغاب الكثير من الأهل والأصحاب، وانعدمت الخدمات بالجملة، وانهارت البنى التحتية كلها في غزّة، وفي حال تم التوصل لحل سلمي وتفاوضي، يجب أن تكون هناك جهود دولية سريعة لإعادة شريان الحياة فيه إلى النبض من جديد، بالإضافة إلى ضرورة فك الحصار وعدم السماح للكيان الصهيوني بإعادة حربه مجدداً، لأنه سيمهد بذلك الطريق لطوفان فلسطيني جديد، لن يكون هدفه غلاف غزة فقط، بل قد يمتد إلى أعمق وأبعد من ذلك بكثير.
وربما الحل الوحيد يكون في التوافق على رئيس وزراء فلسطيني جديد لديه قدرة سياسية واقتصادية وخبرة دبلوماسية، وقبول في الشارع الفلسطيني، مثل د. سلام فياض، الذي يعد شخصية يقبلها جميع من في الساحة الفلسطينية، بالإضافة إلى عودة غزة إلى إدارة السلطة الفلسطينية، من دون إقصاء أي حركة من حركات المقاومة فيه، ومنح الحكومة الجديدة صلاحيات كبيرة بحيث يكون نظام الحكم في السلطة الفلسطينية شبيهاً بالعراق، فيمتلك الرئيس بيده بعض السلطات التشريعية، في حين تبقى الصلاحيات الفعلية بيد رئيس الوزراء.
بعد هذا كله، يجب العمل لإعادة اللاجئين، وهو شرط أساسي في اتفاق «أوسلو»، ومن يعود منهم فعليه القبول بالبقاء في فلسطين، وعدم العودة إلى الخارج، ثم تهيئة الأرضية خلال مدة خمسة أعوام لإجراء استفتاء عام في الأراضي الفلسطينية كافة، يتعلق بطريقة الحكم، ومن يحكم.
هذا الحل ربما يكون الحل الأمثل المتاح لمأزق فلسطين والمنطقة، لأنه من دون إقامة دولة فلسطينية في حدود عام 1967م، لن يكون هناك هدوء في المنطقة التي هي أساساً مقبلة لتكون بوابة العالم الاقتصادية، وبالتالي التوترات فيها لن تفيد أحداً، وهو أمر على الإدارة الأمريكية أن تعيه وتديره جيداً، وإلا البديل مزيد من الفوضى والدمار والكراهية والحروب.