غيَّرت معركة «طوفان الأقصى» كثيراً من الصور الذهنية والقواعد النمطية في كيفية الاشتباك مع العدو الصهيوني، كما غيَّرت في الخطابات والخيارات السياسية التي يتبناها الفاعلون والناشطون، وضمن هذا السياق هناك تغيرات ملحوظة في خطاب إدانة المقاومة الذي يتمثل في «خطاب التطبيع» الذي يرى إمكانية القبول بفكرة دولتين على أرض فلسطين، أو في «خطاب التثبيط» الذي ينزع عن جماعات المقاومة صفة المشروعية الدينية بحجج وادعاءات مختلفة.
وفي السطور التالية، محاولة لتحليل بنية الخطابين تجاه عملية «طوفان الأقصى» والوقوف على أبعادها.
أولاً: خطاب التثبيط:
ينطلق خطاب التثبيط من المرجعية الدينية وخصوصاً ذات المنحى السلفي، وهو يضم أطيافاً شتى، وتعبر عنه رموز سلفية في منطقة الخليج العربي أو مصر أو المغرب، ويمثل هذا الخطاب أصدق تمثيل الشيخ السعودي «س. هـ» الذي لا يتردد في وصف «حماس» بأنها «شر، بل هي الشر بعينه»! ذاهباً إلى أنها هي من جلبت القتل والهدم لإخواننا الفلسطينيين بما أقدمت عليه في 7 أكتوبر، وبطبيعة الحال لا يستطيع الداعية السلفي المضي في ادعاءاته دون مرجعية نصية من قرآن أو حديث؛ لذلك يستند إلى بعضها دون أن تكون ذات دلالة مباشرة أو غير مباشرة بما يدعيه.
«خطاب التثبيط» ينطلق من المرجعية الدينية وخصوصاً ذات المنحى السلفي
فيقول ما نصه: «قال تعالى: (أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) (المائدة: 32)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُقتل نفس ظلماً، إلا كان على ابن آدم الأول كِفل من دمها، لأنه كان أول من سَنَّ القتل» (متفق عليه)، فيا ويل من تسبب بإراقة دماء مسلمة كثيرة بمؤامراته وتكسبه المالي والسياسي!»، وهنا يغض الشيخ الطرف عن أن الخطاب الإلهي موجَّه إلى القاتل؛ أي إلى الصهاينة، لا إلى «حماس».
ويشاطره الرأي الشيخ «م. أ» الذي افترض أن قرار الهجوم كان ينبغي أن يكون فلسطينياً لا ينفرد به فصيل واحد، متناسياً أن القرارات العسكرية يجب ألا تخرج عن نفر معدودين، وأنها ليست مما يُطرح على الرأي العام، وإلا فقدت عنصر المفاجأة الإستراتيجية، فليست هناك حرب وقعت بعد استطلاع الرأي العام.
وهذا الطرح يجد له امتداداً في مصر، وأبرز ممثليه الشيخ «م. ر» الذي يقيم رابطاً بين «طوفان الأقصى» و«أحداث 11 سبتمبر 2001م» في الولايات المتحدة، ذاهباً إلى أن ما جرى في 7 أكتوبر صنيعة دولة الاحتلال الصهيوني التي غضت أجهزة استخباراتها الطرف عنه، بل أغمضت العين وتجاهلت ما علمته يقيناً، وأفسحت المجال لوقوعه ليبدو هجوم الفلسطينيين ساحقاً على الكيان ويبيده! وكما ضحت أمريكا بـ3 آلاف قتيل في «أحداث 11 سبتمبر» لتصل إلى جني الثمرات التي جنتها بمحاربة الإرهاب بزعمها، ضحى الكيان ويضحي بألف ونصف ألف ليصل إلى إنفاذ مخطط التهجير وصنع الوطن البديل!
ولا ينفرد الشيخ بهذا الرأي، وإنما يشاطره الشيخان «م. أ»، و«أ. م»، وغيرهما ممن يعتقد أن «إسرائيل» أفسحت لهذا الهجوم، بل إن حركة «حماس» نفسها هي صنيعة «إسرائيل»، كما يعتقدون!
«خطاب التطبيع» يتأسس على فرضية القبول بفكرة دولتين عربية وأخرى يهودية
ويتأسس هذا الرأي على فرضية مسكوت عنها في الخطاب السلفي؛ وهي أن الوهن والمظلومية قدر المسلمين الحتمي الذي لا فكاك منه، فلا يتصور هؤلاء أن يمتلك العقل المسلم خيار الإعداد والتخطيط في ضوء ما يمتلكه من إمكانات محدودة يمكن توظيفها إعمالاً لقوله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60).
على صعيد آخر، فإن الربط بين «أحداث 11 سبتمبر»، و«طوفان الأقصى» مجرد ادعاء لا تدعمه أي براهين مادية أو حتى منطقية، ولم يشغل السلفيون أنفسهم بتقديم أدلة تدعمه، وهي مسألة لافتة لكون المنهج السلفي يعلي من شأن الدليل، وكثيراً ما رفض اجتهادات المعاصرين لكونها لا تستند إلى دليل.
ورغم هذا، يمكن ملاحظة وجود تراجعات ضمن هذا الخطاب، ويعبر عنه بيان الدعوة السلفية المصرية المؤرخ في 8 أكتوبر 2023م الذي ورد به: «إن كل صور المقاومة السلمية أو المسلحة وفق ما يقدره قادة العمل الفلسطيني -وهم أدرى بحالهم وحال عدوهم- هو من الجهاد الشرعي الذي قال الله عز وجل في شأنه: (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) (التوبة: 111)، وإن على الأمة الإسلامية أن تقف وقفة، وتنتزع -على الأقل- توصيفاً صحيحاً للإجرام الصهيوني في القدس وفي غزة وفي الضفة، وأن تقرر حق المقاومة في مقاومة الاحتلال حتى يرحل، أو -على الأقل- يكفّ يده عن مقدَّسات المسلمين».
ثانياً: خطاب التطبيع:
يتأسس هذا الخطاب على فرضية أساسية وهي القبول بفكرة دولتين؛ إحداهما عربية والأخرى يهودية، وكان أول ظهوره عام 1947م حين تبنت الأمم المتحدة قرار التقسيم الذي أفضى إلى نشوب حرب عام 1948م، وقبل بهذه الفكرة نفر من أرباب الفكر اليساري، ثم صارت مقبولة لدى التيار الليبرالي، والتجلي المثالي لهذا الخطاب نجده لدى بعض السياسيين والناشطين أمثال «ع. أ» الذي كتب في «نيوزويك» الأمريكية أن «حماس» تحتل غزة، وأن الفلسطينيين يعانون بسبب «حماس» لا «الإسرائيليين»؛ ولذا يجب تحرير غزة من «حماس» ومن النفوذ الإيراني!
التطبيع في طريقه للانهيار.. والتثبيط لن نجد من يرفع لواءه سوى علماء السلطة
ويوافقه السياسي الأردني «ص. أ» الذي كتب مقالاً في جريدة «الشرق الأوسط» قبيل «طوفان الأقصى» جاء به أنه «ليس صحيحاً على الإطلاق أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هي حركة تحرر وطني.. هل من الممكن أن يصدق أي معنى بهذه الأمور أن «حماس» حركة تحرر وطني؟ وليس لها أي علاقة بكل هذه الاستقطابات والتمحورات التي تشهدها هذه المنطقة، بينما هي تلتصق بإيران كل هذا الالتصاق».
أما الباحثة المصرية «د. ز»، فقد وصمت «حماس» بالإرهاب، في لقاء بثه معهد دراسات الأمن القومي «الإسرائيلي»، وذهبت إلى أن «إسرائيل» تخوض حرباً ضد الإرهاب بالنيابة عن منطقة الشرق الأوسط والعالم، كما وصفت عملية «طوفان الأقصى» بأنها مذبحة بشعة، وأن رد الفعل «الإسرائيلي» الدامي بحق المدنيين الفلسطينيين دفاع عن النفس!
ورغم هذه المواقف المسيطرة، فقد شهد خطاب التطبيع بدوره مراجعات فكرية تمت على يد المفكر المصري «أ. ح»، الذي كتب بجريدة «الأهرام» المصرية مقالاً ورد فيه: «إنني اليوم وقد تابعت بغضب وسخط وألم، ما حدث ولا يزال يحدث من جرائم وفظائع في غزة يندى لها جبين الإنسانية، أقول: إني أعتذر عن حسن ظني بـ«الإسرائيليين»، الذين كشفوا عن روح عنصرية إجرامية بغيضة، أعتذر لشهداء غزة، ولكل طفل وامرأة ورجل فلسطيني إني أعتذر»، ذاهباً إلى أن ما يجري يتجاوز «حماس» إلى عقاب شعب بأكمله.
هذه الكلمات تحْمِلنا على الاعتقاد بأن مشروع التطبيع مع العدو الصهيوني في طريقه للزوال والانهيار، وكذلك خطاب التثبيط الذي لن نجد بمضي الوقت من يرفع لواءه سوى علماء السلطة.