تتجلى عظمة الإسلام في تأصيل قواعد وسنن كونية تهدي الحيران في كل زمان ومكان، بل تجعله يرى مآلات الأمور وأسبابها بعين ثاقبة بعد أن يفقه تلك القواعد، ومن أهم تلك السُّنن الصراع بين الحق والباطل، وما يترتب عليه من انقسام الناس بين مؤمن بالحق وكافر به ومنافق.
ومن أهم القواعد التي بينها الإسلام هي فطنة العاقل للغة خطاب كل طرف، فمهما حاول الإنسان إخفاء ما يكنّ في صدره، فلا بد أن يتفلت في كلماته، فالألسن مغارف القلوب، يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) (محمد: 30)، وفي ظل أحداث فلسطين وما تبعها من خطابات تشد العزائم، وخطابات توهن العزائم؛ كانت الحاجة لإعادة التذكير بما ذكره القرآن في أسلوب خطاب التخاذل كي لا يفت في عضد أهل الحق.
سمات أسلوب خطاب المتخاذلين
المتأمل لقوله تعالى: ﴿وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ {167} الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (آل عمران)، يجد السمات العريضة لخطاب المتخاذلين، مثل:
1- الانتماء إلى أهل الحق:
إن خطاب التخاذل لا يصدر إلا ممن انتسب ظاهرياً لأهل الحق، ويتحدث بلسانهم في صورة الناصح الأمين؛ ولذا كان ضرره أشد وأخطر من العدو الصريح، فهو يدعم أهل الباطل من خلال تثبيط الهمم أو خذلان من يستنصرون به، مثل ما يحدث الآن من بعض المنتسبين إلى الإسلام ممن يمنعون المساعدات رغم استغاثات المستضعفين!
2- الحيادية بسبب ضبابية الصورة:
من أهم سمات المتخاذلين أنهم يُصدرون للناس ضبابية المشهد رغم وضوحه الشديد، والدعوة للحيادية رغبة في مدارة دوافعهم ولتشكيك الآخرين فيما يرونه بأعينهم، فكما تحكي لنا الآيات محاولات عبدالله بن أبي بن سلول رغم يقينه بقيام الحرب لإقناع المسلمين بأن الحرب ليست ضرورية لتثبيطهم، وكذلك ما يفعله أمثاله هذه الأيام من ادعاء نسبية الحق وقدسية جميع الأرواح ليتساوى بذلك المحتل الغاصب الظالم وصاحب الأرض المستضعف المظلوم!
3- استغلال النتائج ومآلات الأمور:
وكما ادَّعى المنافقون أن الشهداء لو تخلفوا معهم عن الغزوة لما ماتوا؛ فكذلك يدعي البعض أنه لولا المقاومة لما قتل الشهداء، وكأنهم نسوا حقيقة أنه لا فرار من الموت، فالمتخاذلون ينظرون للنتائج نظرة دنيوية، ويستغلونها لإثبات فشل أهل العزم وتثبيط الهمم بكثرة اللوم، ولكن المؤمن ينظر للنتائج بنظرة أخروية؛ فيرى الشهداء أحياء في الجنة، ويرى الهم ابتلاء من الله تعالى في الأنفس والأموال والثمرات، وشتان بين النظرتين.
4- استغلال الإعلام والبيان:
فهم يتشدقون بكلام يخدع الغافل؛ فيقررون تقريرات لا خلاف عليها، ثم يسوقون الحجج والعلل التي تُقعد عن العمل، وذلك في صيغة تبدو منطقية، كما فعل المنافقون حين تعللوا بقولهم بيوتنا عورة، في قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ (الأحزاب: 13)، وها قد تطابق قول المنافقين مع كثير من أبناء هذه الأمة، فيتركون نصرة أهل غزة خوفاً من ضرر يلحق ببلادهم.
وكما ذكر القرآن سمات الخطاب التخاذلي ذكر كيفية تحصين النفوس كي لا تتأثر به، فوجه إلى:
– قوة الإيمان بالله وما قدره: فمن آمن بالله وقدره وحتمية الموت لن يضعفه الخوف من الموت، بل سيفرح إذا أتته فرصة الشهادة، وسيُقْدم عليها بقلب قوي.
– أخوة المسلمين: أصّل الإسلام لفكرة أخوة المسلمين، بل جعل مدار الإيمان عليها، وجعل نصرة المسلم لأخيه المسلم واجبة، وعاقب على خذلانه في موضع يستنصره فيه بخذلان الله له، كما في الحديث: «ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موطن يُنتَقَصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمتِه، إلا خذله اللهُ تعالى في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتَه، وما من أحدٍ ينصر مسلماً في موطن يُنتقَص فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمتِه، إلا نصره اللهُ في موطن يحبُّ فيه نُصرتَه» (حسنه الألباني).
– عظم فضل الجهاد: حث الإسلام على الجهاد بالنفس أو بتجهيز المجاهدين، فبيَّن عظم ثوابه، ففي الحديث: «مَن جَهَّزَ غازِياً، فقَدْ غَزا، ومَن خَلَفَ غازِياً في أهْلِهِ، فقَدْ غَزا» (رواه مسلم).
– السؤال بين يدي الله: حينما تعلم النفس أنها ستقف بين يدي الله تعالى وستسأل وحدها، وذلك في قوله تعالى: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم: 95)، فهي وحدها من تتحمل نتيجة اختياراتها، ولن يعذرها تقليد أو يشفع لها من قلدته، فلن تتبع أبواقاً إعلامية لا تخشى الله ولا ترى سوى مصالحها.
إن صور الخذلان وسماته لا تنتهي وتتجدد بتجدد الوسائل، ولكن يبقى المسلم فطناً متأهباً لخوض المعركة وحده إن لزم الأمر؛ خشية أن يعصي الله ورسوله، فلا تشغله النتائج الدنيوية ليقينه أن هذا الدين منصور لا محالة، بل يشغله نجاة نفسه، وألا يستبدله الله كما في قوله تعالى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: 38).