يحتفل جل العالم، إلا من رحم الله، بما يسمى بـ«الكريسماس» يوم 25 ديسمبر من كل عام، وهناك من يحتفل به ديانة قدسية، ومن يحتفل به عادة اجتماعية، أو عيداً موسمياً للتسوق أو لتزيين البيوت واللهو والأكل والشرب! ولكن، هل هو فعلاً يوم ميلاد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام؟ وهل هذا التوقيت له أصل في الأناجيل، أو علم الفلك؟ وكيف تدخلت السياسة في اختيار التاريخ؟
الأناجيل:
يقول بعض علماء اللاهوت: إن من ألَّفا إنجيلي «متى» و«لوقا»، ربما في منتصف الثمانينيات بعد الميلاد، لاحظا غياب قصة الميلاد وقررا تضمين قصة ما.. ويعتقد بعض العلماء أن قصة عيد الميلاد كانت إضافة متأخرة، في القرن الثاني، إلى الإصدارات السابقة من هذين الإنجيلين، لتأسيس روابط مع أسلاف المسيح المرموقين ومولده «الإلهي»، إذا كان الأبطال العظماء في العصور القديمة، مثل الإسكندر الأكبر، حصلوا على قصص درامية مثيرة للإعجاب بعد وفاتهم، ألم يكن من المناسب أن يكون للمسيح واحدة أيضاً(1)؟!
لا يذكر هذان الإنجيلان تاريخاً محدداً لميلاد المسيح، ولكن لوقا يصف حدثين أحاطا بولادته مما دفع الكثير إلى استنتاج أنه لم يولد في 25 ديسمبر، ففي إنجيل لوقا (2: 1-3): «وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة، وهذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرينيوس والي سورية، فذهب الجميع ليكتتبوا كل واحد إلى مدينته»، وسافر يوسف النجار مع مريم من الجليل إلى بلدته الأصلية بيت لحم وهناك ولدت مريم: «وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد» (لوقا 2: 6)، ولكن من المستبعد أن القيصر استفز رعاياه بإجبارهم على السفر الطويل خلال فترة الشتاء البارد للإحصاء السكاني.
في بيت لحم حينذاك، لم يكن الوقت شتاء، وكان الرعاة في الحقول، في الربيع لمراقبة ولادة الحملان؛ «وكان في تلك الكورة رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم» (لوقا 2: 8)؛ متبدين: أي يقيمون في الحقول لحراسة الغنم ليلاً، فكانت عادة القطعان أن تعيش في الهواء الطلق من أواخر مارس حتى نوفمبر، ثم يمضون الشتاء تحت الغطاء؛ وبالتالي فالتاريخ التقليدي لعيد الميلاد في الشتاء، من المرجح ألا يكون صحيحاً، فبيت لحم في ديسمبر تكون الأجواء فيها باردة وممطرة وقد ينزل الجليد، ويشكك المؤرخون في أن التعداد دفع يوسف إلى السفر؛ إذ كانت التعدادات لتحديد مكان السكان لفرض الضرائب عليهم.
وبحسب إنجيل «متّى»، وُلد المسيح «في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك» (متى 2: 1)، ولكن تشير معظم المصادر، حسب المرجع الأول السابق، إلى أن هيرودس توفي عام 4 ق.م، في حين أن الإحصاء الذي ذكره «لوقا» وأمر به كيرينيوس تم حوالي عام 6م؛ أي بعد سنوات من وفاة هيرودس، فكيف يولد المسيح في العام السادس بعد الميلاد؟! هذا يشكك في مصداقية الأناجيل، ويبين تناقضها فيما بينها، ومع المعرفة الحالية.
عيد مشكوك في تاريخه بالنظر إلى الأناجيل والفلك وفي السياسة عيد ملوث بتاريخ وثني شعبي قديم
وربما يمكن تقدير وقت ميلاد المسيح من خلال العد التنازلي منذ رفعه الله، حين تآمر اليهود لقتله في عيد الفصح، 14 أبريل 33م، كما جاء في يوحنا (19: 14-16): وكان استعداد الفصح، ونحو الساعة السادسة، فقال لليهود: «هوذا ملككم!»، فصرخوا: «خذه! خذه! اصلبه!» قال لهم بيلاطس: «أأصلب ملككم؟» أجاب رؤساء الكهنة: «ليس لنا ملك إلا قيصر!»، فحينئذ أسلمه إليهم ليصلب، فأخذوا يسوع ومضوا به»، كان عمر عيسى عليه السلام نحو 30 سنة «ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة» (لوقا 3: 23)، عندما بدأ الدعوة لمدة ثلاث سنوات ونصف سنة، لذلك يكون قد وُلد في أوائل خريف السنة الثانية قبل الميلاد.
ولكن في كتابه يقول البابا بنديكت السادس عشر: إن التقويم المسيحي يعتمد على حسابات خاطئة، وأن المسيح قد ولد قبل عدة سنوات من الاعتقاد الشائع(2).
الفَلك:
ذكر إنجيل «متّى» ما يعرف بنجمة عيد الميلاد: «إذا مجوس من المشرق قد جاؤوا إلى أورشليم قائلين: «أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له»، فلما سمعوا من الملك ذهبوا، وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدمهم حتى جاء ووقف فوق، حيث كان الصبي» (متى 2: 1-10).
توصل عالم الفلك الألماني كيبلر عام 1603م أن «النجم» الذي اتبعه المجوس هو اقتران بين كوكبي المشتري وزحل في العام السابع قبل الميلاد، فقد تتبع حركات الكواكب عبر الزمن، وتوصل إلى أن الاقتران حدث في 27 مايو و6 أكتوبر وأول ديسمبر(3).
ومنذ سنوات، قام مجموعة من علماء الفلك باستخدام برنامج كمبيوتر متطور، برسم صورة تحاكي صفحة السماء في زمان عيسى عليه السلام، فوجدوا أن هناك احتمالاً أن تكون نجمة عيد الميلاد اقتراناً واضحاً لكوكبي الزهرة والمشتري، وكانا يضيئان بشكل براق؛ فقالوا: إن الميلاد كان في صيف العام الثاني قبل الميلاد، يوم 17 يونيو(4).
وهناك من يقول: إن الأدلة الفلكية تشير إلى أن النجمة كانت مذنباً، ظهر في العام الخامس قبل الميلاد، بين 9 مارس إلى 4 مايو، ووُصف في السجلات الصينية القديمة(5).
وقد لاحظ علماء الفلك في عهد البابا غريغوريوس الثالث عشر عام 1582م وجود خطأ في حساب السنة الشمسية، فهي أقل من السنة اليوليانية (نسبة ليوليوس قيصر)، وبناء عليه انفصل مسيحيو الشرق (الأرثوذكس) وبقوا على التقويم اليولياني ليحتفلوا متأخرين بالميلاد في 7 يناير، واستمر مسيحيو الغرب (الكاثوليك والبروتستانت) بالأخذ بالتقويم الغريغوري.
السياسة:
عبر التاريخ، كان الانقلاب الشتوي وقتاً للولائم والاحتفال، وكان النورمان في شمال أوروبا يشعلون النار، ويشربون الخمر، أما الرومان الوثنيون فكانوا يقيمون مهرجاناً في نفس الوقت ويتضمن مواكب وتزيين المنازل بالخضرة وإضاءة الشموع وتقديم الهدايا، وكانوا يحتفلون بعيد زحل لمدة أسبوع من 17 ديسمبر.
جاء في دائرة المعارف البريطانية: «في روما الوثنية القديمة، كان يوم 25 ديسمبر احتفالاً بالشمس غير المقهورة، إيذاناً بعودة الأيام الأطول، وبدأت الكنيسة في روما بتزامن الاحتفال بعيد الميلاد في 25 ديسمبر من القرن الرابع في عهد قسطنطين، أول إمبراطور مسيحي، ربما لإضعاف التقاليد الوثنية»، أو لجعل المسيحية ذات معنى أكبر للمتحولين الوثنيين(6).
ولم يكن هناك يوم للاحتفال حتى القرن الرابع الميلادي حين قرر البابا جوليوس الأول تعيين 25 ديسمبر موعداً لذلك، وكانت هذه محاولة لـتنصير الاحتفالات الوثنية التي تجري بالفعل في هذا الوقت من العام(7)، وبذا يشترك صناع القرار في القصر والكنيسة لتحديد التاريخ!
القرآن الكريم:
ولكن هل دلّ القرآن الكريم على الموسم الذي ولدت فيه مريم ابنها عيسى عليه السلام؟ بالنظر إلى قول الله: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) (مريم: 25)، قال القرطبي: أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع، وأورد قول ابن عباس: كان جذعاً نخراً، فلما هزت نظرت إلى أعلى الجذع فإذا السعف قد طلع، ثم نظرت إلى الطلع قد خرج من بين السعف، ثم اخضر فصار بلحاً ثم احمر فصار زهواً، ثم رطباً؛ كل ذلك في طرفة عين، فجعل الرطب يقع بين يديها لا ينشدخ منه شيء، أما ابن كثير فقال: الظاهر أنها كانت شجرة، ولكن لم تكن في إبان ثمرها.
وبالتالي أقول: إن الأمر كان كرامة وآية عظيمة لمريم عليها السلام، لا يُستدل به -على رأي من يقول: إن المقصود بالجذع هو نخلة كاملة- على موسم إثمار النخيل في المنطقة، فهو يثمر من مايو إلى أواخر أغسطس، وليس في ديسمبر.
وبعد، فهذا عيد مشكوك في تاريخه، سواء بالنسبة لسنة الميلاد وموسمه وشهره بالنظر إلى الأناجيل والفلك، وبالنظر إلى السياسة فهو عيد ملوث بتاريخ وثني شعبي قديم؟
_________________________
(1) Piñero, Biblical stories of Jesus’ birth reveal intriguing clues about his times, National Geographic,16 December 2021.
(2) Pope Benedict XVI, Jesus of Nazareth: The Infancy Narratives, US, Image Books, 2012.
(3) Henbest, Did the Star of Bethlehem really exist? Sky at night magazine.15 December 2022
(4) The Telegraph, Jesus was born in June, astronomers claim, 9 December 2008.
(5) Humphreys, The Star of Bethlehem a Comet in 5-BC, Royal Astronomical Society, 32 (4) 1991, p389.
(6) Hillerbrand, “Christmas.” Encyclopedia Britannica, 9 November 2023.
(7) BBC, Christmas is a Christian holy day that marks the birth of Jesus, 22 June 2009.