مع نهاية عام 2023م وبداية عام 2024م، يمكن القول: إن تركيا قد دخلت بشكل فعلي في مسار الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها في 31 مارس المقبل، بعد أن كانت دخلت أجواءها بشكل نسبي وغير مباشر منذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023م، حيث ركزت كلمة الرئيس «رجب طيب أردوغان» ليلة إعلان النتائج على الانتخابات البلدية، وخصوصاً بلدية إسطنبول الكبرى.
لطالما عرفت تركيا بمنظومة الائتلافات لتشكيل الحكومة في ظل النظام البرلماني الذي طبق لعقود في البلاد، بسبب صعوبة حصول أحد الأحزاب على نسبة 50% من أصوات الناخبين في ظل التنوع العرقي والأيديولوجي والفكري والسياسي في البلاد، وقد كانت هذه الائتلافات أحد أسباب اضطراب الحالة السياسية وانسدادها.
ولذلك، كان التخلص من الائتلافات الحكومية أحد الدوافع والمكاسب المفترضة التي قدمها حزب العدالة والتنمية وحليفه حزب الحركة القومية لدى طرحهما فكرة النظام الرئاسي بدل البرلماني، ومن ناحية نظرية، ليس ثمة حاجة لائتلافات لتشكيل الحكومة في ظل النظام الرئاسي، إذ يكفي اختيار الرئيس للتشكيلة، ووفقاً للنظام المطبق في تركيا، فهي لا تحتاج حتى لثقة البرلمان، بيد أن التطبيق العملي أثبت أن التبشير بعدم الحاجة للائتلافات والتحالفات كان مبكراً جداً وربما حالماً، بل ظهرت هذه الحقيقة قبل بدء سريان النظام الرئاسي.
ذلك أن حاجة الرئيس لنسبة 50% من الأصوات زائد واحد، وعدم قدرة أي حزب بمفرده على ضمان ذلك لمرشحه، دفعت لفكرة التحالفات بين الأحزاب بشكل ملحوظ، وقد أقر البرلمان قانوناً يؤطر لهذه التحالفات في عام 2017م بعد إقرار النظام الرئاسي وقبل بدء تطبيقه في انتخابات عام 2018م.
«تحالف الأمة» لم يعد قائماً وسيخوض الشعب الجمهوري الانتخابات المحلية المقبلة بمفرده
وعلى هذا الأساس، خاضت الأحزاب السياسية المختلفة انتخابات عام 2018 ثم عام 2023م الرئاسية والبرلمانية، حيث كانت التحالفات أساس الانتخابات البرلمانية، وكانت حاضرة ضمناً في الانتخابات الرئاسية التي قدم فيها كل تحالف مرشحاً واحداً.
بيد أن قانون التحالفات الانتخابية مخصوص حصراً بالانتخابات التشريعية أو البرلمانية وليس المحلية، ولذلك فقد سعت الأحزاب السياسية للتعاون والتنسيق غير الرسمي بخصوص هذه الأخيرة وإن لم يكن هناك تحالفات رسمية معلنة.
الانتخابات المقبلة
من جهة أخرى، فقد أعلنت معظم أحزاب المعارضة انفضاض تحالف الأمة المعارض بعد الانتخابات الأخيرة، بل ودبّت خلافات شديدة وعلنية بين بعضها مثل حزبَيْ الشعب الجمهوري، والجيد، على خلفية ترشيح زعيم المعارضة في حينها «كمال كليجدار أوغلو» لمنافسة «أردوغان» في الانتخابات الرئاسية على غير رغبة الحزب الجيد.
هذا التطور ذو أهمية ملموسة في سياق الانتخابات المحلية المقبلة، حيث كان تعاون أحزاب المعارضة وتنسيقها فيما بينها السبب الأبرز لفوزها ببعض البلديات، وفي مقدمتها بلديتا إسطنبول وأنقرة، وانتزاعهما من حزب العدالة والتنمية لأول مرة منذ تأسيسه وتسلمه حكم البلاد.
حيث كانت آلية التعاون تتمثل في الاتفاق على مرشح أحد الأحزاب لبلدية معينة، وعدم تقديم الأحزاب الأخرى مرشحين مستقلين لها للبلدية نفسها، وحشد أنصار جميع الأحزاب للمرشح الأوحد، وهذا ما فعله تحالفا الجمهور الحاكم، والأمة المعارض، في عام 2018م، وهذه الآلية كانت مرشحة لأن تتبع في الانتخابات المحلية المقبلة كذلك بالنسبة للحزب الحاكم والمعارضة، حتى الانتخابات الأخيرة في مايو الماضي حين اتسعت الهوة بين أحزاب المعارضة وخصوصاً بين أكبر حزبين فيها؛ الشعب الجمهوري، والجيد؛ وعليه، قال الحزب الجيد: إنه لن ينسق مع أحد في الانتخابات المقبلة، وإنه سيخوض الانتخابات بمفرده ومرشحيه.
العدالة والتنمية يدخل بمعنويات أفضل بعد الفوز في الرئاسة والبرلمان وتحالفه مع الحركة القومية
في ذلك الوقت، ساد اعتقاد بأن الأمر متعلق بشخص «كليجدار أوغلو»، رئيس حزب الشعب الجمهوري آنذاك، وأنه في حال خسارته رئاسة حزبه فإن باب التعاون والتنسيق قد يفتح مجدداً أمام الحزبين، خصوصاً أن منافسه الأبرز «أوزجور أوزال» مقرب من رئيس بلدية إسطنبول الكبرى «أكرم إمام أوغلو» ذي العلاقات الوثيقة سياسياً، وكذلك شخصياً مع رئيسة الحزب الجيد «ميرال أكشنار».
وفعلاً فاز «أوزال» برئاسة أكبر أحزاب المعارضة، وزار الحزبَ الجيد، وعرض عليه رسمياً التعاون في الانتخابات المحلية، بيد أن الأخير قرر بإجماع أعضاء قيادته رفض هذا التعاون وتأكيد قراره السابق بخوض الانتخابات منفرداً، كما أن الأحزاب المحافظة حديثة التأسيس في خلاف واضح مؤخراً مع الشعب الجمهوري؛ ما يعني أن تحالف المعارضة قد انتهى فعلاً وإلى غير رجعة في سياق الانتخابات المقبلة.
انعكاسات
ينطبق كل ما سبق على المعارضة التركية، أما بخصوص التحالف الحاكم فيبدو أكثر تماسكاً، إذ ثمة إرادة سياسية واضحة لدى الحزبين الأكبر في تحالف الجمهور باستمرار التحالف بضمانة موقف رئيسيهما؛ «أردوغان»، رئيس حزب العدالة والتنمية، و«دولت بهجلي»، رئيس حزب الحركة القومية.
وعليه، تكون الصورة في الانتخابات المحلية المقبلة كما يلي: تحالف الأمة انفض ولم يعد قائماً، وبالتالي سيخوض حزب الشعب الجمهوري الانتخابات المقبلة بمفرده على الأغلب، اللهم إلا من دعم محتمل من حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) باسمه المستجد؛ وعليه، ستكون مهمته في الاحتفاظ ببعض بلديات المدن الكبرى صعبة للغاية، وتحديداً في مدينتي إسطنبول وأنقرة حيث أدى الحزب الجيد (القومي) والأحزاب الأصغر حجماً دوراً حاسماً في فوز مرشحيه بها في عام 2018م.
في المقابل، يدخل العدالة والتنمية الانتخابات المحلية المقبلة بمعنويات أفضل تحصل عليها بعد الفوز في الانتخابات الرئاسية وأغلبية البرلمان مع حلفائه، وباستمرار تحالفه مع الحركة القومية على أقل تقدير، وفي ظل خلافات المعارضة وتراشقها وتشتتها، فإذا ما وضعنا في الحسبان أن حضور العدالة والتنمية أفضل من الشعب الجمهوري في كل من إسطنبول وأنقرة في عام 2018م والمنعكس في حصوله على أغلبية المجلس البلدي في المدينتين (رغم فوز المعارضة برئاسة البلديتين)، يمكن القول حينها: إن فرصه في استعادة البلديتين تبدو ملحوظة، فضلاً عن بلديات أخرى قد يكون فوزه فيها بات مضموناً.
فرص العدالة والتنمية باستعادة بلديتي إسطنبول وأنقرة أكبر بكثير حالياً مما كانت عليه سابقاً
أخيراً، ثمة فوارق ملحوظة بين البلديتين الأهم في البلاد قد يكون لها تأثير ملموس على نتائج الانتخابات المحلية فيها، ففي أنقرة تبدو فرص احتفاظ رئيسها «منصور يافاش» بمنصبه أعلى من نظيره في إسطنبول «أكرم إمام أوغلو»، فهو صاحب جذور قومية؛ الأمر الذي قد يؤمن له أصوات بعض القوميين رغم قرار قيادات أحزابهم، وقد حافظ على نفسه خارج مساحة المناكفات السياسية مركّزاً على عمله على رأس البلدية إلى حد بعيد باستثناء لحظة الانتخابات الماضية، كما أن أداءه كان جيداً إلى حد ما خلال سنوات عمله.
في المقابل، فقد أغرق «أكرم إمام أوغلو»، رئيس بلدية إسطنبول، نفسه في السياسة إلى درجة إهمال عمله على رأس البلدية الأهم والأكبر في البلاد، وفق معارضيه على أقل تقدير، ومعهم الكثير من السياسيين والإعلاميين، كما أنه لم يُثبت تميزاً كبيراً خلال سنوات رئاسته للبلدية، بل أثار الجدل أكثر من مرة وفي عدة محطات في مقدمتها العاصفة الثلجية الأسوأ في تاريخ المدينة الحديث.
وعليه، فإن التقديرات المبنية على المعطيات الحالية، وقت كتابة هذه السطور، تقول: إن فرص العدالة والتنمية في استعادة بلديتي إسطنبول وأنقرة، وبعض البلديات الأخرى، أكبر بكثير حالياً مما كانت عليه سابقاً، وفي ظل تحالف أحزاب المعارضة، وإن فرصه في إسطنبول تحديداً أكبر منها في أنقرة، وإن مهمة حزب الشعب الجمهوري ستكون صعبة للغاية في الاستحقاق الانتخابي المقبل.