الخطاب هنا موجَّه للسادة العلماء، وأخص الربانيين العاملين منهم، الغيورين على دين الله، وعلى ما يجري لأمة سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين عرفتهم الأمة بمواقفهم الثابتة على المبادئ، المنحازة لنصرة الأمة، والدفاع عن حماها، والانتصار لقضاياها، فوثقت بهم أمتهم، واطمأنت لسلوكهم، وقبلتهم بقبول حسن.
فهؤلاء السادة الأجلاء هم من أقصد بهذا الخطاب، نصيحة لله ولرسوله وللأمة، وكلي أمل أن تتسع له صدورهم، وأن يجد عندهم آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، وهمة عالية، وإقداماً في غير تردد، وجرأة في غير تمرد، وقياماً بواجب الوقت والمقصد.
فما كان يجزئ بالأمس فإنه دون المستوى اليوم، وما كان يكتفى بفعله بالأمس ما عاد يكتفى به اليوم، وما كان يسد الخلل بالأمس فليس لهم محل من الإعراب اليوم، فاليوم الخطب جلل، والفجيعة عظيمة، والهول مزلزل، والكرب اشتد وقعه، والأذى فاق توقعه.
اليوم يشهد إبادة غير مسبوقة، وجرائم حرب يرتكبها الكيان المسخ بكل وقاحة وشناعة ضد المدنيين من نساء وأطفال وشيوخ؛ فشلالات الدم الزكي غدت في قطاع غزة أنهاراً تجري في شوارعها وأزقتها، وتراكمت جثث المصابين والشهداء تحت الهدم والركام.
وحتى قبور الأموات لم تسلم من بطش هذا العدوان المجرم، الذي استهان بكل القيم الإنسانية، وداسها بأقدام جيشه، وجنازير مدرعاته.
والمساجد هُدمت، والمستشفيات قصفت، والكنائس استهدفت، والمدارس دمرت، والبيوت دكت على رؤوس ساكنيها.
وقد اجتمعت ملة الكفر في صف واحد، بجيوشها وأسلحتها وأموالها، للبطش بجزء صغير من أبناء هذه الأمة، نعم إنه صغير من حيث الحجم والعدد، لكنه، بحول الله وقوته، كبير، وأكبر من كل هؤلاء المجرمين الذين اجتمعوا على حربه.
فإن انتهى أعداؤنا وعلى رأسهم أمريكا من هذا العدوان بنصر على هذه الفئة المؤمنة المجاهدة، لا قدر الله، فإن القادم علينا في كل ديارنا وأوطاننا سيكون قاسياً جداً، وسيتم استهدافنا للتخلص منا، حتى لا تتكرر صورة المجاهدين القساميين والغزيين مرة أخرى، وفي أي مكان كان، وسيكتب علينا مرة أخرى أن نعيش مائة عام قادمة من الذل والهوان، لا قدر الله.
فليس من مصلحة الإسلام، ولا من مصلحة علمائه، ولا من مصلحة شعوبه أن ينتصر العدوان، أو أن تُهزم المقاومة، أو أن تنكسر شوكتها، فإن انكسارها انكسار الأمة، وهزيمتها هزيمة الأمة كلها، بعلمائها وحركاتها وجماعاتها وأحزابها.. وفي الوقت نفسه إن انتصارها انتصار الأمة، وتحقيق الهيبة لها، ولكل مكوناتها.
إن واجب اليوم أعظم، والمفروض فعله أكبر، والمطلوب القيام به أثقل، وفي مثل هذا اليوم يشمر الجادون عن سواعدهم، ويدق المخلصون صدورهم، ويتقدم الغيورون صفوفهم، ويأخذون مواقعهم المتقدمة، في قيادة الأمة وتوجيهها.
في مثل هذا اليوم تعلو رايات المتنافسين، وتزمجر حناجر المجاهدين، ويزأر العلماء مجلجلين، وتلوح في فضاء العزة أذرع المؤمنين: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الجهاد.
سادتنا وكبراءنا علماء الأمة، لا عذر لكم اليوم، إن بذلتم الحد الأدنى من الجهد، لا عذر لكم غداً أمام الأجيال القادمة إن بحثتم عن الأعذار، ولا عذر لكم بعد غد حين تلقون ربكم إن أخذتم بالرخص، ونساء غزة تستصرخكم، وأطفال غزة يموتون قصفاً، ويتضورون جوعاً قبل الموت، لا عذر لكم والدماء مستباحة، والمقدسات تدنس، والأرواح تزهق، لا عذر لكم!
السادة العلماء، الناس لكم تبع، وأنتم فيهم الرأس، وإن ظننتم غير ذلك فقد جانبكم الصواب، فإن تحركتم تحركوا ولو بعد حين، وإن تقدمتم تقدموا وإن تباطؤوا، وإن أقبلتم سيقبلون وإن تأخروا، وإن أعرضتم سيعرضون، وإن ضحيتم سيضحون وإن توجسوا قليلاً.. وإن لذتم بالأعذار لاذوا واطمأنوا، وحملتم حينها وزركم ووزرهم، وإن نحرتم الخوف في نفوسكم إلا الخوف من الله جلت قدرته؛ أقبلت عليكم قلوب الخلق، وتحركت نحوكم عواطفهم، وحينئذ فقط سيزرع الله مهابتكم في عيون خلقه.. فلكم في التاريخ القريب من سير العلماء الربانيين شاهد ومشهود.. فأنتم رأس الرمح في هذه الأمة.. فاعلموا مكانتكم، والزموا مكانكم، وقوموا بواجبكم، وأدوا أمانة الرسالة التي تحملون، نحو هذه الأمة، التي لن تتحرك بالمؤتمرات ولا بالخطابات وحدها، ولا بالشعارات ولا البيانات والكتابات فقط، إنها تنتظر القدوة الفعّال لا القوّال، المجاهد لا القاعد، المضحي لا المتعلل بالأعذار.. فقوموا يرحمكم الله، وأعدوا للسؤال جواباً، حين تقفون بين يدي ربكم جلت قدرته، وتقدست عظمته.
فليس لكم يا سادتنا أن تطمئن جنوبكم في المضاجع، وأطفال غزة ينامون ويصحون إن صحوا سالمين على هدير المدافع، ليس لكم أن تشبعوا بطونكم وبطون أهل غزة خاوية، ليس لكم أن تأمنوا على أولادكم وأطفالكم، وأطفال غزة في فزع وهلع.. ليس لكم إلا أن تنفروا وتحملوا أكفانكم بأيديكم، وتخرجوا حاسري الرؤوس، بالمئات لا بالألوف إلى حكامكم، فإما أن يتحركوا ليس لإدخال المؤمن والمساعدات، لا بل لإيقاف هذا العدوان الغاشم، أو أن يسجنوكم، فلا عذر لكم وأنتم أحرار طلقاء، فإما أن تسجنوا فتُعذروا، وإما أن يتحركوا فتُحمدوا.. والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولن يكون ما بعد اليوم كالذي قبله، فتقدموا وساهموا في صنع ما بعده.