عندما وصلت عقارب الساعة إلى الواحدة فجرًا صرخت الطفلة دارين الدلو من أعماق قلبها؛ إذ استفاق جميع من بداخل القسم من جرحى ومرافقين على صرخاتها المدوية، كانت عيناها غارقتين في بحر من الدموع الساخنة، ويدها اليمنى كانت تتحسس قدميها اللتين فقدتا الحركة خلال قصف «إسرائيلي» عنيف خطف أرواح أكثر من 70 شخصًا جميعهم من أسرتها وأقاربها من الدرجة الأولى والثانية والثالثة والرابعة.
تحاول يسرا حمو، خالة والدها، التي ترافقها في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح وسط قطاع غزة بلمس خصلات شعرها الأشقر عَلَّها تخفف من آلامها ومعاناتها ومصابها الجلل؛ تقول: جميع أفراد عائلتها استشهدوا في قصف «إسرائيلي» استهدف عمارة سكنية عبارة عن شاليه في منطقة الزوايدة في منطقة جنوب وادي غزة، التي يزعم الاحتلال بأنها منطقة آمنة.
بلطف تمكنت حمو من تهدئة دارين التي بدا عليها الخوف والقلق الشديد، تقول الطفلة بصوت متقطع مع سرعة عالية للحصول على بعض من الشهيق والزفير: «بدي أوقف على رجليَّ، بدي ألعب زي أصدقائي وأطفال العالم، بديش حدا يضحك أو يتنمر عليَّ، زي ما شفت في الكابوس».
أطفال صغار يلعبون حول دارين، تقول الطفلة لهم: «انتظروا بدي ألعب معكم!»، لتتفاجأ دارين برد أحد الأطفال: «أنتِ لن تستطيعي اللعب معنا أنتِ مشلولة!» فورًا استفاقت دارين من نومها صارخة بأعلى صوتها: «بدي أمشي على رجليَّ»، بسبب هذا الكابوس المرعب.
بداية الحكاية المؤلمة
بدأت حكاية الطفلة دارين الدلو منذ وقت مبكر من حرب الإبادة التي تشنها «إسرائيل» ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، فهي تعيش في منطقة النصر وسط مدينة غزة وبعد ثلاثة أسابيع تقريبًا من الحرب انتقلت كغيرها من العائلات إلى مجمع الشفاء الطبي غرب المدينة كملجأ من القصف «الإسرائيلي» العنيف الذي دفعها وأسرتها بعد أسابيع عدة إلى التوجه جنوبًا في منطقة الزوايدة جنوب وادي غزة.
رغم الهدوء النسبي في أعداد الانفجارات الضخمة التي تشهدها منطقة الزوايدة مقارنة بما تشهده مدينة غزة، فإن الطفلة دارين كانت تشعر بالرعب والخوف وتقول: «منذ وصولنا إلى منطقة الزوايدة كنت أشعر بالخوف فهذا المكان ليس آمنًا كما يدعي الاحتلال «الإسرائيلي» القصف مستمر والانفجارات قوية وأعداد الشهداء كبير.
العائلة بين شهيد وجريح
مرت الأيام صعبة وثقيلة على عائلة الدلو قبل أن يأتي الأجل، ففي وقت قبل أن تُسدل الشمس خيوطها الذهبية، قصفت طائرات الاحتلال «الإسرائيلي» الشاليه الذي كانت تلجأ إليه عائلة الدلو في المنطقة الآمنة، رائحة البارود والدخان تتصاعد بكثافة، صوت سيارات الإسعاف بدت تدوي بقوة في آذان الطفلة دارين.
ما أن رأت سيارة الإسعاف حتى صرخت على المسعف والناس التي هرعت للمكان: «أمي وأبي وأخي وأعمامي وعماتي وأخوالي وخالاتي وأنسبائنا، كلهم تحت الركام»، عادت دارين إلى حالة الإغماء وبعد وقت قليل استفاقت مرة أخرى تقول: «أين أقدامي؟!»، ساعات قليلة قبل أن تُخبرها خالة والدها يسرا حمو بأن أقدامها أصيبتا بكسور وستتعافى بعد وقت من العلاج.
تقول حمو عن حالة الطفلة دارين: الأطباء أبلغونا بأن حالة الطفلة صعبة جدًا وبحاجة إلى وقت، هناك عمليات جراحية عدة لعلاجها من الكسور ثم علاج طبيعي مكثف لتعود إلى طبيعتها، كما أصيبت بكسور في جمجمتها وحروق في أنحاء مختلفة من جسدها.
ومنذ إصابتها تحاول الطفلة دارين كتابة رسائل لوالدتها ووالدها وشقيقها وليد وجميع أقربائها الشهداء تقول: «كتبت لهم رسائل تعبر عن اشتياقي وحبي لهم، وأتمنى أن تصل رسالتي لهم وأن تسمعها أمي الجميلة ووالدي الحنون».
تبتلع الطفلة آلامها وأوجاعها عندما تشاهد شقيقها الوحيد كنان الذي نجا من الموت بأعجوبة مثلها في قصف «إسرائيلي» للشاليه، ففي مشهد مؤلم جدًا قطعت الطفلة حديثها مع مراسلنا واحتضنت شقيقها كنان (5 أعوام) تقبله وتشمه ولسانها يردد: «الله يحفظك ويحميك يا روحي وإن شاء الله تكبر وتثأر لشهدائنا».
وأكثر ما تتمناه الطفلة ذات الـ10 أعوام أن تسافر خارج قطاع غزة بهدف تلقي العلاج اللازم والشفاء بأسرع وقت لزيارة قبور عائلتها ووضع الورود عليها والدعاء لهم بالرحمة والمغفرة من أمام قبورهم، واللعب مع أصدقائها الأطفال والذهاب إلى المدرسة.