رأيته يقف بعربته التي يجرها الحمار أمام دوّار شقيقي العمدة، أو دوار عائلة حلاوة بلفظ أدق، فالدوار ميراث من أيام جدّنا الكبير عبد الله حلاوة عمدة أجهور الذي تضامن مع أحمد عرابي وقدم له المساعدات في مقاومته للإنجليز الغزاة، ودفع ثمن ذلك عزلا من منصبه ومطاردة في أماكن اختفائه من قبل الحكومة والمحتلين. قلت لعرفان الحمّار:
– ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟
كنا في وقت القيلولة، والجو حار، وشهر يوليه يصهد بنار حامية تشوي الوجوه، وترغم الناس على الاختفاء داخل البيوت، بحثا عن مكان رطب يبرد أجسامهم. لم يجد في سؤالي غرابة، وقال في لهجة لزجة متصنّعا الفرح:
– جئت أدعو حضرة العمدة ليشرفني في بيتي الجديد، ويشاركني فرحة اكتماله.
قلت له بطرف لساني:
– العمدة نائم!
كنت أتميز غيظا، فهو يعلم أن هذا وقت لا يذهب فيه أحد إلى أحد. ثم من جرّأه على الاقتراب من شقيقي العمدة؟ هل هي أمواله التي تكاثرت ويثور حولها لغط كبير؟ من قال إن هذا العربجي يجوز له أن يضع رأسه برأسنا؟ صحيح أنه صار أغنى منا، ولكنه يفتقد الأصول والمكانة والأخلاق أيضا!
أذكر أنه كان معي في الكتّاب، ولكنه تركه ومضى إلى التشرّد. كان اسمه بعد اسمي مباشرة في كشف المدرسة الأولية، فنحن من مواليد سنة واحدة هي سنة 1941 وأنا وهو نشترك في بدء اسمينا بحرف العين، ولكني أسبقه في الأبجدية لأن الباء في اسمي تسبق الراء في اسمه. لم يحضر إلى المدرسة إلا أياما، ولم نعرف له أبا أو أما. كانت تربيه امرأة عجوز، قالوا إنها جدته، وعمل صبيا لتاجر خردة، وتزوج في سن صغيرة، وأنجب ابنته فوزية، ولم يشغلنا أمره كثيرا. وإن شغلنا أمر الدراسة والتعليم. في التجنيد منحوه إعفاء من الخدمة لفرطحة قدميه، ولبست أنا الكاكي، وخرجت إلى الاحتياط، ولم أسعد بالحياة المدنية إلا شهورا استدعوني بعدها للالتحاق بكتيبتي، وبعد أسابيع وجدت نفسي في اليمن، من أجل حماية حكم الثورة بقيادة السلّال. عشت الأهوال بين الجبال والوديان، والبعد عن الوطن سنوات. كان عرفان في ذلك الوقت يدور طوال النهار بعربته وحماره في أرجاء القرى والمدن المجاورة لأجهور، ويعود في المساء لينام في دار يتشارك فيها الحمار مع الآدميين المبيت والمعيشة.
***
قلت لزميلي المجنّد علي الصعيدي حزينا:
– طالت غيبتنا عن الأهل والخلان! متى نعود إلى الوطن؟
كان علي مرحا يحب الضحك، وينسى بالمزاح همومه التي تبدو على ملامحه، ولا يصرّح بها.
عقّب على سؤالي:
– كل طائر سيعود إلى عشّه في يوم ما، فلا تبتئس.
كان على مثقفا، يحب القراءة، وكنا أحيانا نزور صنعاء ترفيها عن وجودنا البائس في أحد المعسكرات بعيدا عن العمران، فنشاهد الدنيا والناس، ونتذوق طعاما مختلفا عن وجبات المعسكر الساخنة والجافة، ونشتري بعض الهدايا على أمل أن نحملها إذا عدنا يوما إلى ذوينا، وكان علي ينتهز الفرصة ليشتري صحيفة أو مجلة أو كتابا يتسلى بقراءته في ساعات البعد عن القتال أو الخدمة. سمعته يقول لي:
– القراءة تنسيني وجوه الزملاء الذين يغيّبهم القتل، أو يئنّون بعيدا في المستشفيات الميدانية نتيجة الإصابات.
وقال لي ذات مرة دون سابق كلام:
– حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل. ولا نعرف لها نهاية.
تصنّعت عدم المبالاة، وقلت له:
– الصبر طيب. وربّك كريم.
***
انتهت مهمة كتيبتي، وصدرت الأوامر بالعودة إلى الوطن بحرا، ووجدتني وسط صناديق مكتوب عليها “مهمات شهيد”، تمتمت بيقين إنهم “أحياء عند ربهم يرزقون”، رحت أعدّ صناديق المهمات أو الشهداء الملفوفة بالأعلام، وفجأة انفجرت الباخرة واشتعل حريق، يا للهول! رحمتك يا رب! هتفت مذعورا، وقد عادت إلى رأسي أصداء ما سمعته همسا في المعسكر:
“إنهم يغرقون الموتى والجرحى في البحر حتى لا يراهم الناس، ويتأثرون نفسيا، وتنخفض الروح المعنوية للشعب!”. يومها أخذتني العزة دفاعا وإنكارا. قلت لمن يهمس:
– لا يمكن أن يحدث. لا الدين ولا الإنسانية تجيز ذلك. إنها دعاية كاذبة. حرب نفسية يطلقها الأعداء!
ومع تكرار الهمس لم أصدق. نادى مكبر الصوت داخل الباخرة لتسلّم العوامات من طاقم البحارة.. كيف أعوم بيد وأحمل المروحة والجلابية التى اشتريتها هدية لأمى فى اليد الثانية.. كأني أعيش في غيبوبة، لم أدر بالزمان ولا المكان، حتى رأيت أول ضوء مع الفجر، مئات العوامات تطفو وسط البطاطين المشتعلة، وتتسرب الصناديق المكتوب عليها “مهمات شهيد” إلى الأعماق، كما تغطس المحتويات الأخرى: المراوح والراديوهات والمسجلات إلى قاع البحر، وينتشلنا قارب يرفع علما غريبا!
وصلنا السويس أواخر مايو 1967، ثم نقلونا إلى واحة نخل شرق العريش، لنجد بها ما تشتهى الأنفس من البطاطين والكاسيتات والترانز ستور والساعات والمراوح، وأفخم الفساتين.
كان الضباط والجنود يتحدثون عن خطب الزعيم القائد، الذي أعلن بكل قوة قبل أيام: “أنا مش خرع زيّ مستر إيدن!”. راحوا يتوقعون أن نكتسح قوات العدو، وتغني أم كلثوم في تل أبيب، وتنتهي أسطورة الاحتلال ودولته الغاصبة.
***
في شوارع القاهرة قبل فترة جرى استعراض عسكري كبير. قالوا إنهم ضباط وجنود من قواتنا العائدة من اليمن، تعبيرا عن انتصاراتنا هناك، لم أسأل علي الصعيدي عن هذا الاستعراض ولم أناقشه. كنت مشغولا بشراء بعض الهدايا لأمي بدلا من التي غرقت بعد انفجار الباخرة، فلست بحاجة إلى سؤال أو استفسار، فقد رأيت الموت في الجبال والوديان، وعرفت ماذا تعني الحرب في مكان لا تعرفه، وجبهة لا تطمئن إليها.
– هل تعرف يا علي معنى الموت في الغربة؟
ردّ لأول مرة جادا دون أن يمزح:
– فأل الله ولا فالك! قل خيرا أو اصمت.
– ألا ترى الزملاء الذين يسقطون يوميا؟
– الطيران يؤدي واجبه.
– لكنه لا يصيب الأعداء. يختفون في كهوف الجبال، ويخرجون أحياء بعد انتهاء الغارات!
قلت أحاججه:
– حرب عبثية! فيها موت دون انتصار أو هزيمة!
ثم علقت بأسى حين رأيته صامتا تبدو على وجهه حالة من الكدر:
– ماذا لو بنت مصر في اليمن السعيد مدارس ومستشفيات، وجامعات، وأرسلت أطباء ومعلمين وأساتذة جامعات وعلماء دين وخبراء في شق الطرق وبناء المصانع وتحديث الزراعة؟ ألم يكن ذلك أجدى من القتل والقتال؟
رد غاضبا محتدا:
– لقد استنجدوا بنا، فلبّينا!
رأيت أن الحوار قد يتحول إلى شيء آخر ، فلزمت الصمت، وتركته حتى يهدأ..
***
يوم خمسة يونية، سمعنا عبر الإذاعة عن هجوم قوات الاحتلال، تحمسنا للدفاع بشوق جارف. قلت لزميلي وأنا أنتفض فرحا بالانتقام من القتلة الذين ذبحوا شعبنا في فلسطين واعتدوا علينا في 1956:
– هذا أوان الثأر. هذا هو الميدان الحقيقي، وليس جبال اليمن وهضابها ووديانها وكهوفها..
رأيت زميلي بل زملائي ينتظرون المواجهة بشوق، كانت سريتنا تتخندق فى دشمة بعيدة عن خيام الكتيبة، فجأة اقتربت من موقعنا مجنزرات العدو تهزّ الارض، انتظرنا الأمر بالرد، وإذا بالأمر يصدر من الترانزستور بالانسحاب…
يا للهول!
يا للعار!
ننسحب والعدو يتقدم؟
وجدنا مركز القيادة فارغاً! الجنود والضباط ينسحبون واحدا واحدا، واثنين اثنين، انسحابا غير منظم، أين ذهبت القيادات والأسلحة والذخائر؟ نواجه الموت المجاني من جديد. هذه المرة على الأسفلت والمدقات وليس في الجبال والوديان، تهاجمنا غارات الأعداء والمطاريد معا! الأعداء يقتلون بغير رحمة، والمطاريد لا يطلبون الا السلاح! نقاوم الغارات والغازات ومنشورات الأعداء! عشرة أيام مشياً على الأقدام. مشاهد الجثث لرفاق السلاح تملأ الطرقات. يلحق بهم من يسقطون جوعا وعطشا، تسمع من يهتف وحيدا..
– انسحاب.. انسحاب.. الزعيم يُدْمن الانسحاب! الموت في الانسحاب…!!
يردّ عليه صوت من بعيد:
– لا يا مُغفّل.. إنه يُدْمن الهجوم على الشعب.. الهجوم على المواطنين!
التراب يغطي الوجوه والثياب أو ما تبقى منها، الأحذية تمزقت. الأقدام حافية دامية. العبور الذليل إلى الضفة الأخرى للقناة…!
***
من القاهرة عدت إلى أجهور. ثلاثون كيلو مترا قضيتها في السيارة مطأطئ الرأس. فكرت أن أزور أقاربي في طوخ- مركزنا، وأقضي عندهم بعض الوقت حتى لا أواجه الناس في القرية وأنا بهذا الحزن. صرفت النظر عن الفكرة. شهادة الرديف في جيبي، وأهلي يقابلونني بأذرع مرخية ووجوه معتمة وزغاريد كأنها صراخ، ولكن ابن أخي سعد حلاوة ومعه الشاب سيد السمكري أعطياني جرعة كبيرة من الأمل. اصطحباني إلى الدوّار، وجاء أخي العمدة حفناوي حلاوة، وراح الثلاثة يتحدثون عن الحرب، وأكدوا أن الهزيمة ليست نهاية العالم، فالوغى كرٌّ وفرُّ، كما ينشد المطرب الشهير في الإذاعة، وتذاكروا الهزائم التي أعقبتها انتصارات ساحقة، وركزوا على غزوة أحد، وما تلاها من انتصارات، ملأت الأرض نورا ورحمة وتسامحا..
قال العمدة حفناوي:
– اليهود لا ينتصرون بقوتهم دائما، بل بخيانة الطرف الآخر!
رد سيد السمكري:
– ولكنهم يعملون جيدا لتجنيد الخونة، وقبل ذلك يمتلكون السلاح ويتدربون عليه تدريبا شاقا، ويعملون بجدية في كل الأحوال!
– على كل حال نحن لسنا أقل منهم.
هكذا أجاب سعد، وأردف:
– كنا نهزل، والعدو يعمل، نهتم بمن يسمونهم أهل الفن ولاعبي الكرة، وهم يبحثون عن أحدث الأسلحة، وأفضل المقاتلين، ولو بالإيجار!
ثم أضاف حزينا:
– كنا ننتصر على الشاشات وفي الأستوديوهات، وننهزم في الميادين والمطارات!
أراد العمدة أن يحوّل اتجاه الحديث كي يخفّف عني، فقال وهو يصطنع ابتسامة باهتة:
– تصوّروا أن أمين الاتحاد الاشتراكي في طوخ طلب منى أن أرشّح عاملا في لجنة العشرين بالمركز، وطرح اسم واحد تعرفونه..
نظروا إليه ليعرفوا من هو، فقال:
– عرفان الحمّار!
ثم أضاف كاشفا عن المفارقة:
– ولكن عرفان رفض، وقال لي: يا حضرة العمدة: أنا أبحث عن أكل العيش، ليس لي في مثل هذه الأمور التي لا أفهمها!
علا طيف بسمة خابية على الوجوه، وتذكرت عرفان ونحن في مركز التجنيد، وهم يمنحونه شهادة الإعفاء لأن قدميه مفرطحتان!
قال سعد بنبرة ثائرة ولكنها خافتة:
– الاتحاد الاشتراكي مأساة لم تتكشف جوانبها بعد. الهزيمة أبرز تجلياتها و.
صمت فجأة حين وقفتُ وطلبت أن أذهب إلى أمي كي أراها، وأعتذر لها عن غرق الهدايا في البحر، وضياعها في صحراء الانسحاب…!
***
قضيت عاما أو أكثر في وظيفة مناسبة لمؤهلي المتوسط، تفضلت بها الحكومة، وأخذت أندمج مع الناس رويدا رويدا. عرفت كثيرا من أخبار القرية التي لا تسرّ في غيبتي الكبرى باليمن وأسابيع سيناء. كان معظمها مزعجا! وأهم ما نصحني به أهلي والناس: “الحيطان لها آذان” يعني لا تتكلم في الأمور العامة. هناك من يكتب ويسجّل ويبلّغ. والمنوط بهم ذلك عادة من المنتسبين للاتحاد الاشتراكي. لا يعرفهم أحد بالضبط، ولكنهم قريبون منك. قد يكون أخوك أو عمك أو ابن اختك أو ابنك. الزم الصمت، فقد قبضوا على أحدهم وعرف بعد حين أن ابنه هو الذي كتب التقرير المؤذي ليثبت ولاءه للزعيم والثورة! يا عبد الله: الدنيا لم يعد لها أمان، فخذ حذرك، ولا تضع نفسك في فم الأسد! قلت لأحدهم:
– هل يفعل اليهود ذلك في الأرض المحتلة مع أبنائهم؟ هل يرونهم أشد خطرا منا نحن الأعداء؟
نظر إليّ وعيناه إلى الأرض:
– يستحسن أن تبقى في حالك. وأن يلزم لسانك مكانه في فمك. لا تحاول أن تجعله يطول، وإلا قطعوه!
ذات مساء أرسل إلىّ أخي العمدة حفناوي يستدعيني، قال:
– جاءت إشارة من المركز لتلحق بوحدتك العسكرية.
– معي شهادة الرديف. وقد أديت الخدمة مضاعفة!
– ولكنك ما زلت في فترة الاحتياط، ولا مفر من الذهاب.
قلت معبرا عن رغبتي في زمن يجب أن تسود فيه الاستقامة والرجولة:
– إذا كانوا سيحاربون فما أشد شوقي إلى القتال، ومواجهة الأعداء.
– الله معك.
سافرت إلى الكتيبة. طعّموها بعناصر جديدة، معظمها من حملة المؤهلات العليا. وجدت الأسلحة تغيّرت، وجاءت أجهزة جديدة، وعلاقات أفضل من ذي قبل بين الضابط والجندي، شعارات مختلفة تبدو حقيقية: نقطة عرق تساوي نقطة دم. التدريب الشاق يسهل الانتصار على العدو. الإيمان طريقنا إلى الفوز في المعارك.. كبار القادة المحترفون يزوروننا باستمرار، مشروعات التدريب لا تتوقف، الضباط يأكلون مع الجنود أحيانا.. أيام جديدة وعلاقات جديدة.. علماء الدين غير الرسميين يلقون أحاديثهم تشجيعا وحضّا على الجهاد والبذل، هناك اهتمام محدود بما وراء الجندي: أسرته، وعمله، تطور لم يكن موجودا من قبل.. والأهم رغبة قوية في الثأر.
اشتباكات تلقائية، يقوم بها القادة المحليون، وتسلل وراء خطوط العدو، حكايات وقصص لا تنتهي، يسمونها حرب الاستنزاف، والعدو تزوده الدول الاستعمارية وفي مقدمتها أميركا بأحدث أسلحة القتل والدمار. خسائر كبيرة، وبيوت ومؤسسات يتم تدميرها بطيران العدو، وجرائم قتل المدنيين والأطفال في مدرسة بحر البقر، والسلطة تهجّر سكان مدن القناة إلى الداخل، والغزاة القتلة يقيمون سدا عاليا محصنا على شاطئ القناة أطلقوا عليه خط بارليف، بينما يتحرك وسطاء دوليون مثل المكوك بين القاهرة وتل أبيب، بعضهم يتحرك علنا، وغيرهم يتحرك سرا، ثم مبادرات تتضمن الاعتراف بالكيان الغاصب، وأشياء أخرى، ثم يعلن عن وقف إطلاق النار! عالم من الغيوم والأفكار والحوارات التي يحكمها جلد الذات، دون أن تقترب من القيادات التي صنعت الهزيمة وكانت سببا فيها، ويتقاتل الفلسطينيون مع الأردنيين في غور الأردن، وتجتمع القمة العربية، ويموت الزعيم، وتشيعه الملايين، وتتجاهل الهزيمة أو الهزائم التي صنعها، ويؤبّنه شاعر شهير بقصيدة يعدّه فيها “آخر الأنبياء الذي قتلناه!”، أي نحن العبيد المحكومين بالاتحاد الاشتراكي وكتّاب التقارير، سامحك الله يا شاعر المواقف حسب الطلب!
***
استولت على كياني وفكري الرغبة في الزواج!
من سأتزوج؟ وهل الوقت مناسب للزواج؟ يرون أن الوقت المناسب بعد توديع الحياة العسكرية، لو تزوجت الآن، ماذا أفعل بفتاة قد لا تهنأ بالزواج وسط أتون الحرب التي لا يعرف أحد متى تنتهي أو يقف فيها صوت الرصاص وهدير المدافع وقصف الطائرات؟ تصبح الفتاة مشروع أرملة لم تتزوج، وقد تحمل طفلا لا يضمه صدر أبيه أو يهدهده أو يسعد برؤيته وهو ينمو. اقترح أحد أصدقائي “فوزية عرفان” ابنة بائع الخردة، فهي جميلة، وتدرس في الجامعة، وبالطبع سوغ المسألة أن أباها ليس مهما في الموضوع، المهم هو الفتاة. قلت لصديقي:
– ولكن البنت تعيش في وادٍ آخر!
سألني مستوضحا:
– ما ذا تقصد بالوادي الآخر؟
– تعيش في وادي الحب!
– لم أفهم.
– تحب ولدا يعمل صبيا لأبيها. ألم تسمع بذلك؟
– الحب شيء والزواج شيء آخر.
– كلا يا صديقي. الحب هو الزواج ليتحقق التناغم.
– قد تحبك بعد الزواج، وتنسى هذا الولد.
قلت بهدوء وأنا أذكر صديقي بشيء نسيه:
– هل ترى أن أخي حفناوي يقبل بالزواج من عربجي في منزلة خادم لأسرتنا؟
كأنه عثر على إجابة مقنعة:
– لا طبقية في الحب والزواج.
قلت بثقة:
– الإسلام وضع قاعدة جميلة ولكن الناس يتجاهلونها انسياقا وراء عواطفهم، وهي الكفاءة. يجب أن يكون الطرفان متكافئين.
– يقال إن عرفان ينام على ثروة لا بأس بها.
– الكفاءة ليست الفلوس وحدها يا صديقي. هناك كفاءة في الدين، كفاءة في الأخلاق، كفاءة في الروح والعواطف…
قطع حوارنا ما أذاعه الراديو عن ثورة التصحيح، وحسم الصراع بين قادة الاتحاد الاشتراكي والرئيس الجديد، لصالح الأخير، فقد تم القبض على مجموعة من الزعماء الاشتراكيين الموالين للزعيم الراحل، وتقديمهم للمحاكمة، وتعيين وزير جديد للحربية، ووزراء آخرين بدلا من الذين استقالوا. تغيرات وأحوال لا أحد يعلم إلى أين تمضي بالبلاد المهزومة.
***
في ذهابي إلى الكتيبة وعودتي لا أجد في الصحف غير الحديث الماسخ عن “حالة اللاسلم واللاحرب” التي تعيشها البلاد،
قلت لزميلي علي الصعيدي الذي استدعي للكتيبة بعدي بشهرين:
– هل يجوز أن تدخل أل التعريفية على حرف النفي لا، فنقول اللاسلم واللاحرب؟
قال وهو يبتسم، وكأنه لم يبتسم منذ زمان:
– تدخل أو لا تدخل. المهم أن ندخل الحرب لنمسح العار.
تجاهلت الإجابة وحاولت أن أوضح:
– أل التعريفية تدخل على الأسماء فقط، وإذا دخلت على الفعل المضارع كان لها معنى آخر.
نظرت إلى علي فإذا الابتسامة لما تزل مرسومة على ملامحه:
– نقول عدم الحرب، عدم السلم وتنتهي الحكاية يا علي، ونغادر اللغة المهزومة التي اصطنعها أشباه الكتاب والأدباء والسياسيين.
– أين هم وأين نحن يا عم عبد الله؟ هم يردّدون ما تريده السلطة، وينالون العطايا والجوائز. على فكرة: أحضرت فانوسا ألمانيَّا من أيام الحرب العالمية الثانية، لنضيء به الملجأ، كان يستخدمه خالي وهو في حرب فلسطين سنة 48.
تركته وانصرفت وفي داخلي نار تضطرم لا أعرف سببا لها، ولكن الذي أريده الآن الشهادة في مواجهة العدو، أو التسريح من العسكرية، فقد قضيت فيها زهرة عمري، والوضع الحالي سيئ ومزعج ومتعب، وأمنيتي أن أتزوج!!
لا يبدو أن هناك تحركا ما، وتحدث الناس أن الرئيس المؤمن يراوغ في هذه المسألة، كان سلفه يجيّش المشاعر بالخطب الرنانة التي تنتهي عادة إلى هزائم قاتلة آخر الأمر. يعتمد على التهويش بالخطب الحماسية وما يتبعها من خطاب دعائي صاخب في الصحف والإذاعة والتلفزيون ويؤكد على النصر الذي لا يأتي أبدا. “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”، كلام جميل يقنعني تماما، ولكن أين هي القوة؟ كانت هناك حالة من اليأس العام تؤكد أن البلاد تمشي على رأسها، والرئيس المؤمن يبدو ضعيفا، والروس يماطلون في الدعم العسكري. الأسلحة التي يقدمونها غير كافية بل غير فعّالة أحيانا، ويقال إنهم يريدون الحل السلمي الذي لا توجد مؤشرات تدل عليه منذ نكبة 48 ولا يريدون حربا، وقد جرى كلام كثير عن قرارات للأمم المتحدة، ومفاوضات سرية، ولكن الغزاة فرضوا أمرا واقعا، وصارت لهم دولة وأضحى لدينا لاجئون في كل البلاد العربية وغيرها، ويبدو أن الأحداث تكرر نفسها، لا سلاح ولا رغبة في القتال. ولا أحد يعلم ماذا سيحدث غدا. واليهود يقيمون المستوطنات في سيناء، والرئيس يتحدث عن الضباب!
***
ذات إجازة جَمَعَنا الدوّار مع بعض الأعيان ورئيس مجلس القرية وبعض موظفيه في مناسبة زفاف أحد الأقارب. وفي انتظار تناول الطعام، جاءت سيرة خالي حمدان- رحمه الله- بعد عودته من حرب 48 فتحدث عنه أخي العمدة حفناوي:
– عاد خالنا كسيرا مهزوما! ولكنه ذكر أن شعبنا شجاع وقادر على هزيمة عصابات الغزاة لو أتيحت له الفرصة.
قال له سعد ابن أخي إدريس:
– بلدنا تحتاج إلى قيادة مخلصة تصارح الناس بالحقائق، وساعتها يبذلون كل غال ورخيص من أجل تحقيق النصر.
عقب حفناوي على كلام سعد موافقا، وقال:
– تصوروا أن المتطوعين في حرب 48 الذين لم يكونوا عسكريين بالأساس، ظهروا بصورة أفضل من الجيوش العربية كلها؟
سألته مندهشا:
– معقول؟ المتطوعون أفضل من الجيوش؟
– أجل! لقد أوشكوا على تحقيق النصر، وكان هناك قادة مصريون محترفون ممتازون مثل اللواء المواوي، والبطل أحمد عبد العزيز، والسيد طه يستعينون بهم في العمليات الهجومية والدفاعية، ولكن المتآمرين جعلوا الجيوش سبب النكبة!
ظهر الأسى على الوجوه التي بدت حائرة، فقال حفناوي:
– لقد توغل المتطوعون من مصر والشام والعراق في المناطق التي تحتلها عصابات الإرهاب الصهيوني، وساندهم اللواء المواوي، وأوشكوا أن يحققوا النصر. ولكن…
صمت حفناوي الذي كان ينقل ما سمعه عن خالنا الراحل، وبعد فترة تغيّرت فيها قسماتُ وجهه، قال:
– فوجئ المقاتلون المتطوعون بتعيين قائد الجيش الأردني، وهو إنجليزي اسمه الجنرال جلوب، قائدا عاما للجيوش العربية السبعة، وكان أول أمر أصدره أن يتراجع المتطوعون، ويقوموا بإخلاء مواقعهم لتحل مكانهم قوات الجيوش العربية، وإذا بالفجيعة تحدث!
قال سعد:
– كيف يا عمي؟ معروف أن الإنجليز متآمرون على فلسطين، وهذا القائد لا بد أن يكون شريكا في المؤامرة!
– العرب طيبون، بل سذج في كثير من الأحيان. يجعلون عدوّهم وسيطا لحل مشكلاتهم، وقائدا لجيوشهم. هل تظن أن الخبيث الاستعماري يمكن أن يكون مخلصا؟
وأردف العمدة حفناوي، والضيوف يستمعون في وجوم:
– نفّذ المتطوعون الأمر، وللأسف لم تتقدم الجيوش العربية، لقد ترك القائد الإنجليزي المواقع المحررة للعصابات اليهودية، فاحتلوها وأحرزوا كثيرا من المكاسب بفضل قيادته الخائنة، وصارت المبادرة الهجومية في أيديهم!
والتفت حفناوي إلى سعد قائلا:
– تصوّر يا بني أن قادة الأفواج المؤثرة تحت قيادة جلوب كان معظمهم من الإنجليز! إني أحتفظ بقائمة القادة الميدانيين الذين لم يكن من بينهم غير ثلاثة ضباط من العرب وكلهم في الجيش الأردني..
وطلب أخي العمدة حفناوي من سعد أن يأتي له بكيس قماشي صغير من القطيفة السوداء، يحتفظ به في دولاب جدّي، وفتح حفناوي الكيس، وقال لهم: هذا الكيس فيه قصاصات مما نشرته الصحف أيام حرب فلسطين جمعها خالي حمدان بعد عودته كسيرا مهزوما من الحرب، وأخرج منه قصاصة جريدة مصفرة، وراح يقرأ:
– كان القائد الميداني اسمه نورمان لاش، وقائد اللواء الأول الذي يضم الفوجين الأول والثالث يدعى ديزموند جولدي، وقائد منطقة نابلس العسكرية، الفوج الأول العقيد بلاكدين، منطقة نابلس العسكرية- الفوج الثالث العقيد ويليام نيومان منطقة نابلس العسكرية، واللواء الثاني ويتضمن الفوجين الخامس والسادس العميد سام سيدني أرثر كوك قوة دعم، الفوج الخامس الرائد جيمس هاوكن قوة دعم، الفوج السادس الرائد عبد الله التل- منطقة القدس العسكرية، اللواء الثالث ويتضمن الفوجين الثاني والرابع العقيد تيل أشتون- منطقة رام الله العسكرية- الفوج الثاني الرائد سيلد ميجور منطقة رام الله العسكرية ،الفوج الرابع المقدم حابس المجالي اللطرون، اللد والرملة- اللواء الرابع العقيد أحمد صدقي السيد قوة دعم: رام الله, الخليل, والرملة.
قال رئيس مجلس القرية في تساؤل يحمل بعض الريبة:
– أظن أن الجيش المصري أكبر الجيوش العربية، وكان قادرا على حسم المعركة؟
رد العمدة بثقة من يعرف الحقائق:
– صحيح كان قادرا على حسم المعارك، ولكنه عانى من مشاكل في العتاد والسلاح والتنظيم. ومع ذلك خاض معارك مهمة ومن أهمها معركة نيتسانيم: حيث كان أول انتصار عربي بقيادة اللواء المواوي وهو واحد من أفضل القادة العسكريين المحترفين. فقد رفع العلم المصري على المستوطنة بعد أن فقد العدو ثلاثين قتيلا، وتم أسر 105مائة وخمسة من أفراد عصاباته حيث تم نقلهم إلى القاهرة، ثم خاض الجيش المصري معركة التبة 69 في مكان قريب، ونجح في السيطرة علي كامل الموقع بعد الانسحاب اليهودي غير المنظم.
– ما دور المتطوعين في ذلك الانتصار؟
سأل رئيس القرية وبدا أنه لم يقرأ شيئا عن الحرب، فقال له حفناوي:
– كان المتطوعون مع أنهم ليسوا عسكريين يعوضون نقص السلاح والمعدات بالروح الإيمانية العالية، وكانوا يطهّرون المناطق المحيطة بمستوطنات العدو من الألغام، ويستخدمونها ضد العصابات اليهودية،
استفسر أحد موظفي مجلس القرية العمدة حفناوي:
– سمعت الناس يتكلمون عن أيام المواوي، فهل كانوا يقصدون اللواء المواوي الذي أشرت إليه في كلامك؟
– أجل! اللواء المواوي كان مشهورا لدى عامة الناس في أثناء الحرب وبعدها. كان قائدا فذا، وشجاعا، وجريئا. لم يذكروا لكم شيئا عنه في المدارس، ولم يقولوا إنه قاد الجبهة المصرية في جنوب فلسطين. كان محترفا، تنقصه المعدات والسلاح والذخائر، فكتب إلى المسئولين، وسافر بنفسه إلى القاهرة ليتحدث مباشرة مع وزير الحربية حيدر باشا، ورئيس الوزراء لدعمه بما يريد من عون عسكري، وللأسف لم يجد لديهم دعما أو استجابة، فعاد يعتمد على قوته الذاتية وإمكاناته المتاحة والمتطوعين الذين كانت تخافهم عصابات العدو. واستطاع أن يحقق انتصارات لا يمكن إغفالها.
قال الموظف وهو يخشى أن يظهر في صورة الجاهل بتاريخ بلاده:
– لماذا انهزمنا في الفالوجة؟
لم ننهزم في الفالوجة ولكنها حوصرت بسبب قصور الإمكانات والذخائر، لقد أبلت فيها القوات المصرية تحت قيادة الأميرالاي السيد طه الذي كان يسميه المجاهدون الضبع الأسود، بلاء حسنا وبعد نفاد الذخائر حوصرت القوات من قبل العصابات الصهيونية وسط صحراء النقب. وكان جمال عبد الناصر ومعه عبد الحكيم عامر من الضباط المحاصرين.. وأضاف حفناوي الذي تحول إلى مؤرخ للحرب في فلسطين على طريقته:
– لقد شارك مجاهدون من الأقطار العربية، وبذلوا جهودا جبارة من أجل الأرض المقدسة، وكانوا يتمنون الشهادة على أرضها، منهم اللواء محمود شيت خطاب وكامل الشريف، والشيخ محمد فرغلي، ومصطفى السباعي، ومحمد محمود الصواف، وأبو الفتوح شوشة وغيرهم، والغريب أن كثيرا منهم تعرض للمحاكمة على يد حكوماتهم! كأن جهادهم أوجب عليهم العقاب!
وقطع الحوار الداعي إلى السفرة الجاهزة، وقد شعرت أن معظم الحاضرين قد انسدت نفوسهم، فلم تعد راغبة في تناول شيء!
***
نظر أحد المجندين إلى الشاطئ الآخر وهو يشاهد سيناء لأول مرة من حدائق البلاح، وبدا أنه مستجد على الكتيبة، وسأل القائد:
– معقول يا فندم.. شباب يموت مقابل جبل وصحراء وحبة رمل؟
وضع القائد الحكيم يده على كتف الجندي، ودار معه على أفراد الكتيبة يسأل كل جندي عن قيمة سيناء، سمع من يجيبه بأنها حبة رمل.. فيوقفه على جنب، وبعد يومين تم ترحيل هذا الجندى وسط عشرة جنود إلى مركز الوحدة فى الفيوم.
في طابور التمام قال القائد بحزم:
– يعبر معنا فقط الذين يؤمنون أن سيناء برمالها وجبالها هي جنة الدنيا التي وصفها المولى سبحانه “اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى”، وقال عنها: “ادخلوها بسلام آمنين”، وأقسم بها جل شأنه: “والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم”.
– متى العبور يا سيدي؟
– حلم نحلم به ولكنه لم يتحقق حتى الآن. صديقي حامد الشيمي هتف قبل رحيله:
– متى تدمدم بالرعد.. متى تدمدم بالرعد!
– لم أعرف ماذا يقصد؟ ما هو الرعد الذي يريده؟
– هل أفهم الآن أنه كان يقصد العبور؟ لا أعرف، ولكن الأحوال في القاهرة لا تبشر بشيء على الإطلاق يشير إلى الرعد أو العبور. نتدرب، ونقوم بالمشروعات، ونرفع درجة الاستعداد ونعيدها إلى طبيعتها العادية، والطريف أن بعض الجنود يطلبون ترخيصا بالزواج. كأن الدنيا لا تعلم أن مئات الآلوف ينتظرون العبور على ضفة القناة الغربية ولا يعبرون!
سمعنا عن احتجاج بعض كتاب الحكومة على استمرار حالة اللاسلم واللاحرب، وقد طالبوا بالاستسلام أو الحرب لأن بقاء الوضع على ما هو عليه يحمل الناس فوق طاقتهم، وكانت النتيجة لهذا الاحتجاج فصل الكتاب من الاتحاد الاشتراكي، وحرمانهم من الكتابة، وعدم نشر أخبار عن نشاطهم الثقافي!
تهامس بعض المثقفين بأن دولاب العمل سيتوقف في البلد لأن تجنيد مئات الألوف من الشباب سيؤثر على الإنتاج والإدارة في المؤسسات والشركات والمصالح الحكومية والقطاع الخاص.. حين نقلت ذلك إلى بعض زملائي، رد ساخرا:
– ولكن الملاهي الليلية وشوارع وسط القاهرة وميدان التحرير تغص بالشباب اللاهي الصاخب!
في الكتيبة تسرب خبر يفيد أن الخبراء السوفيات سيغادرون مصر، وسينشر الخبر بعد أيام في الصحف، وينسبونه إلى موسكو.. كان خبرا مثيرا، وطرح علامة استفهام: إذا كان الخبر يتضمن أن السوفيات يسحبون خبراءهم في هذا الظروف، فما معنى الهتاف الصاخب: حنحارب.. حنحارب؟ إن الخبراء عماد الدفاع الجوي والصواريخ والتخطيط، ماذا سنفعل؟ صحيح لدينا محترفون، وقادة ممتازون، وجنود شجعان، كيف سيتحركون؟ وهل سيمنحون العدو- لا قدر الله- فرصة أخرى لتمزيق قواتنا؟
أسئلة، وتخمينات، وتحليلات، وتخبطات.. وصدر القرار بترحيل الخبراء.. ووقع العالم في حيص بيص!
واتخذت قرارا بالبحث عن عروس في أول إجازة طويلة!