لقد بدأت مرحلة إباحة الربا منذ القرون الوسطى التي تمتد من القرن الخامس إلى القرن الخامس عشر، التي أطلق عليها الغربيون عصور الظلام، مقابل عصور النور والعلم في بلاد الإسلام، واستمرت حتى يومنا هذا، ومرت بحالات كثيرة من المد والجزر، من تحرير النشاط الربوي أو الحد منه، حتى شهد القرن السادس عشر اتجاهاً مطرداً في انهيار مذهب تحريم الربا وذلك مع نشأة الرأسمالية التجارية في هذا القرن وما نتج عنها من نمو هائل في نشاط التجارة الخارجية وازدياد الحاجة للتمويل، ومن ثم زيادة القروض بفائدة، وزاد معها سعر الفائدة بصورة مغالى فيها؛ مما دفع بعض مفكري المدرسة التجارية لمهاجمة الفائدة على أنها ربا فاحش، وطالبوا بوضع حد أعلى لها، وكان ذلك مدخلاً لإباحة الربا -من دولة أوروبية لأخرى- بتشريعات قانونية تناسب مصالح الأوروبيين المادية.
إنجلترا ألغت القوانين التي تحرِّم الربا وسنَّت أخرى بإباحته بالقرن السادس عشر
وقد تم إلغاء القوانين التي تحرم الربا وسن قوانين بإباحته في إنجلترا بالقرن السادس عشر، وفي فرنسا تم إقرار التعامل بالربا في حدود خاصة يحددها القانون، من خلال إقرار الجمعية العمومية الصادر في 12 أكتوبر 1789م، وبعدها انتقلت عدوى الربا في أوروبا، وكل ذلك كان وراءه الصيارفة اليهود وبنوكهم في أوروبا لا سيما في القرنين السادس عشر والسابع عشر، في ظل حاجة المنشآت الصناعية للتمويل مع الثورة الصناعية، ومن ثم تحقيق مبتغاهم بالسيطرة على غيرهم من الأمم من خلال المال.
لقد كان الإقراض بالربا محظوراً بشكل صارم من السلطات الحاكمة منذ القرن الثاني عشر حتى السادس عشر الميلادي (أي أكثر من 4 قرون) في أوربا وروسيا والهند والصين وغيرها من دول العالم، أما في ظل الحكم الإسلامي فكان كذلك ممنوعاً بسلطة القانون الإسلامي ورقابة الضمير حتى منتصف القرن التاسع عشر، وهذا يعني أن النظام الاقتصادي الإسلامي -الذي كان يمر بمراحل قوة وضعف- كان له وجوده، بل فعاليته عالمياً لنحو أكثر من 12 قرناً من دون استخدام الفائدة أو الربا، وهذا خير رد على الذين ينظرون لسعر الفائدة نظرة عدم الاستغناء عنه.
سعر الفائدة
إن سعر الفائدة جاء إلى بلادنا مع القهر والعبودية التي وقعت فيها بفعل المستعمر الذي جاء بنظامه المصرفي الذي أسسه اليهود، وقنن فيه الربا ليطبقه في بيئتنا الإسلامية، حتى إنه لم ينتصف القرن التاسع عشر حتى صارت البنوك التقليدية واقعاً فرض نفسه بيد المستعمرين تشريعاً وتطبيقاً؛ خدمة لمصالحهم بالاستثمار في الإنتاج الأولي بالدول المستعمرة وتحويل أرباحهم منها للخارج، وما يرتبط بذلك من تسهيل تمويل عمليات الاستيراد والتصدير من المستعمرات للعالم الغربي والعكس، فضلاً عن تسهيل عمليات الاقتراض من دول الغرب وتحويل الفوائد المستحقة لهم، كل ذلك في ظل قوانين وتنظيمات أجنبية فرضت على المستعمرات فرضاً.
وتوسعت تلك البنوك في أنشطتها، لكن ليس في تمويل الصناعة الناشئة، بل في تمويل المزارعين وأصحاب المساكن، ووضع سيفها المصلت على رقاب المتعثرين بالاستيلاء على أراضيهم ومساكنهم.
سعر الفائدة جاء إلى بلادنا مع المستعمر بنظامه المصرفي الذي أسسه اليهود
ووصلت الحال ببني جلدتنا ممن رضعوا من ربا المستعمر وانفطموا على سياسته الاستعمارية أن يقفوا أمام كل جهد مخلص للتخلص من سعر الفائدة، فرفعوا شعار «لا اقتصاد بغير بنوك ولا بنوك بغير فوائد»، إلى أن خاب ظنهم وسقط شعارهم، بميلاد المصارف الإسلامية في الربع الأخير من القرن العشرين، وتوالى بعدها انتشار مؤسسات العمل المصرفي والمالي الإسلامي، حتى شهدت حقبة الثمانينيات من القرن الماضي -لأول مرة- حتى يومنا هذا صدور فتاوى شاذة من علماء رسميين تجهر بإباحة سعر الفائدة بمبررات فيها تحريف للكلم عن مواضعه.
لقد كان سعر الفائدة وما زال سبباً رئيساً في ضرب مقدرات أمتنا ورهن إرادتها، وقد كانت القروض الربوية من عوامل انهيار الخلافة العثمانية، ففي عام 1854م وخلال حرب القرم، بدأت الدولة العثمانية في عهد السلطان عبدالمجيد الأول بيع سندات طويلة الأجل في الأسواق المالية الأوروبية.
وفي العقدين التاليين توسع الاقتراض بمبالغ كبيرة من لندن وباريس وفيينا وأماكن أخرى بشروط لا تتفق ومصلحتها بشكل مطرد، وأدت الأزمات المالية عام 1873م إلى توقف الإقراض من قبل الأسواق المالية الأوروبية، كما أجبرت الحكومة على إعلان التوقف التام عن سداد القروض عام 1875 – 1876م (في عهد السلطان عبدالعزيز الأول) التي بلغت قيمتها 200 مليون جنيه إسترليني.
الاقتراض الخارجي
وبعد مفاوضات مطولة تم إنشاء إدارة الديون العمومية العثمانية عام 1881م (في عهد السلطان عبدالحميد الثاني) لممارسة السيادة الأوروبية على أجزاء من مالية الدولة، ولتأمين استمرارية سداد الدين، الذي تم تخفيض قيمته الإسمية بحوالي النصف خلال المفاوضات.
وخلال العقود الثلاثة التالية، وحتى إعلان الحرب العالمية الأولى، كان جزء كبير من عائدات الدولة تحت سيطرة إدارة الديون، وقد استخدم لسداد القروض، وعشية الحرب العالمية بلغ حجم الاقتراض السنوي، وكذلك حجم الدين الخارجي القائم مجدداً النسب العالية غير العادية التي شهدتها الدولة في سبعينيات القرن الماضي.
شعار «لا اقتصاد بغير بنوك ولا بنوك بغير فوائد» سقط بميلاد المصارف الإسلامية
وكان من نتيجة فتح باب الاقتراض الخارجي في عهد عبدالمجيد الثاني بروز الامتيازات للأجانب، وضرب سيادة الدولة؛ وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى ضعفها وإفلاسها ثم انهيارها فيما بعد في العام 1924م.
كما عقدت مصر أول قرض خارجي في تاريخها الحديث في العام 1862م في عهد سعيد باشا من بنك «أوبنهايم» الألماني بمبلغ 2.5 مليون جنيه إسترليني، وبسعر فائدة 11%، ولم يحصل سعيد من هذا القرض سوى على نسبة 84% من القيمة الإسمية بعد خصم العمولات والمصاريف، وبلغ إجمالي حجم الدين المصري نحو 18 مليون جنيه إسترليني عند وفاة سعيد في العام 1863م.
وجاء من بعده الخديوي إسماعيل الذي ورط مصر في مزيد من الديون وأفقدها سيادتها نتيجة إسرافه وسوء إدارته للبلاد، حيث بلغ الدين الخارجي في عهده نحو 91 مليون جنيه إسترليني بزيادة 73 مليون جنيه إسترليني عن عهد سلفه سعيد باشا، ومنها قروض خارجية طويلة الأجل بمبلغ 53 مليون جنيه إسترليني لم يتسلم منها بالفعل إلا 32 مليون جنيه إسترليني؛ أي ما يقل عن القيمة الإسمية بمقدار 21 مليون جنيه إسترليني.
وكان من نتيجة إفراط إسماعيل في الديون التضحية بقناة السويس وبيع حصة مصر في أسهمها لبريطانيا في العام 1875م، ورغم ذلك لم تنفرج الأزمة المالية التي أوقع مصر فيها وفقدَ معها منصبه أيضاً بعد أن أجبره الدائنون على النزول عن العرش في العام 1879م.