غزة تعني العزة والقوة والمنعة، وهي من أقدم المدن التي عرفها التاريخ، إنها ليست بنت قرن من القرون، أو وليدة عصر من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها، ورفيقة العصور الفائتة كلها، من اليوم الذي سطر التاريخ فيه صحائفه الأولى إلى يومنا هذا(1).
يُطلق عليها غزة، وغزة هاشم، وعزة بالعين بدلاً من الغين!
على الرغم من صغر الحجم الجغرافي لغزة، التي تحمل هذا الاسم، منذ عشرات القرون، فإنها كانت مقصد جيوش وعبور وإقامة الملوك، فهي تقود إلى أفريقيا، ومنها يتم الدخول إلى مصر، وتعتبر بوابة العرب القديمة على البحر المتوسط.
كانت غزة أول مدينة في فلسطين يفتحها المسلمون في عصر الخلافة الراشدة في عام 635م، فدخل الكثير من أهلها في الإسلام، وشهدت المدينة فترات من الازدهار والانخفاض.
فقد احتلها الصليبيون في عهد الدولة الفاطمية في عام 1100م، وظلت تحت سيطرة الصليبيين حتى عام 1187م، عندما استعادها صلاح الدين الأيوبي وظلت تحت حكم الأيوبيين ثم المماليك، وأصبحت عاصمة ولاية بلاد الشام التي امتدت من شبه جزيرة سيناء إلى قيسارية.
وخلال الحرب العالمية الأولى، استولت القوات الإنجليزية على غزة في 7 نوفمبر 1917 حتى مايو 1948م، ويصف المؤرخ مصطفى الدباغ تلك المرحلة من تاريخ غزة، بقوله: «اشتركت جميع مدن وقرى وبدو لواء غزة في الجهاد ضد البريطانيين واليهود؛ ففي ثورة عام 1929م، غادر اليهود الذين كانوا يقيمون في غزة بحراسة الجند، ولم يعد منهم أحد بعد ذلك التاريخ».
وفي عام 1936م، شارك سكان قطاع غزة في الثورة الفلسطينية، والإضراب الكبير الذي استمر 173 يوماً.
وقُبيل انسحاب البريطانيين عام 1948م، وقعت معارك عدة بين أهالي غزة، والقوافل «الإسرائيلية» التي كانت تزود المستوطنات المنتشرة في جنوبي البلاد بالمؤن والعتاد.
غزة، صخرة صلبة أمام المحتل «الإسرائيلي»، فقد عاشت في ظل الاحتلال الصهيوني أحلك أيامها وأكثرها دموية ومعاناة، وفي سرده للمواجهات التي لم تنقطع بين أهالي غزة والفلسطينيين النازحين قسراً فيها وقوات الاحتلال «الإسرائيلي»، يقول الكاتب هارون رشيد: «كانت غزة، ومنذ اللحظات الأولى للنزوح الفلسطيني، بؤرة للتأجج الوطني، فهؤلاء النازحون الذين وفدوا إليها، حملوا في عيونهم وقلوبهم صور مدنهم وقراهم ومزارعهم ومدارسهم، ظلت تُحفزهم على التسلل إليها، والعودة إلى مرابعها».
واليوم غزة هاشم تعيد نفسها ثانية، فهي غزة والعزة والقوة والمنعة والإصرار رغم الحصار، وهي القوة الميدانية لـ«طوفان الأقصى».
وغزة التي وقفت في وجه الغزاة التتار والصليبيين والأعداء بمختلف قواهم ومسمياتهم قادرة على دحر الصهاينة المحتلين المجرمين.
لقد انهارت المنازل والمباني والبيوت والعمارات في غزة، وأهلها ثابتون ثبات الجبال الرواسي!
لقد ذهبت أسر بأكملها، وما تبقى من الناس تلهج ألسنتهم بحمد الله وذكره وتسبيحه ثباتاً واحتساباً ورضاً بما قسم الله وقدره!
لقد دُهش بعض الغربيين من هذا الثبات والصبر والرضا! فدخلوا الإسلام وانشرحت صدورهم للإيمان؛ لأنهم عرفوا أن الإيمان سبب ثبات أهل غزة.
وأبلغ وصف لابتلاء أهل غزة ما ذكره الله في كتابه العزيز: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).
والله أكبر ولله الحمد.
_________________
(1) المؤرخ الفلسطيني عارف العارف في كتاب عام 1943م، وهناك كتاب «تحفة الأعزّة في تاريخ غزّة»، للشيخ عثمان الطباع (ت 1950م)، وهو أحد أبرز المؤرخين الفلسطينيين الذين كتبوا عن غزة، وتاريخها الاجتماعي والثقافي في النصف الأول من القرن العشرين، وأيضاً كتاب «غزة وقطاعها» لسليم المبيض عام 1987م، وتناول في كتابه الجغرافيا وحضارة سكان غزّة من العصر الحجري الحديث حتى الحرب العالمية الأولى في 500 صفحة.