ولد الشيخ أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله الجيلاني أو الكيلاني عام 470ه/ 1077م، وهو ينتمي لجيلان العراقية في جنوب بغداد، ونشأ في أسرة صالحة، حيث كان والده أبو صالح معروفاً بالزهد، وكان شعاره مجاهدة النفس، وتزكيتها بالأعمال الصالحة.
وتلقى الشيخ الجيلاني تعليمه في بغداد، وتعلم الفقه وعلوم القرآن، على أيدي ثلة من شيوخ الحنابلة وعلماء الرافدين، ومن بينهم الشيخ أبو سعيد المخّرمي، إذ أمضى الجيلاني ثلاثين عاماً من عمره يُدرس علوم الشريعة وأصولها وفروعها.
وقد سبق جلوس الشيخ عبد القادر للدعوة فترة من التهيئة النفسية، وتشجيع الأصحاب والمحبين، حيث بدأ مجلسه بالرجلين، والثلاثة، ثم تزاحم الناس، حتى صار مجلسه يضم سبعين ألفاً، ثم تزايد الإقبال، حتى ضاقت المدرسة، فخرج إلى سور بغداد بجانب رباطه، وصار الناس يجيئون إليه، ويتعلم على يديه ويتوب خلق كثير. وقد تميزت المدارس القادرية بأمور منها:
1ـ اعتماد التعليم المنظَّم والتربية السلوكية المنظمة:
كان الشيخ أبو سعيد المخرمي، قد أسس مدرسة صغيرة في باب الأزج (حي من أحياء بغداد)، فلما توفي آلت إلى تلميذه عبد القادر الجيلاني، فعمد إلى توسيعها وإعادة بنائها ، كما أضيف إليها عدد من المنازل والأمكنة، التي حوله، ولقد بذل الأغنياء في عمارتها أموالاً كثيرة، وعمل الفقراء فيها بأنفسهم. وروى لنا المؤرخون – أثناء ذلك- صوراً من البذل والتضحية، يكشف عن مدى تعلّق الأتباع بالشيخ، من ذلك امرأة فقيرة قررت المساهمة في عمارة المدرسة، فلم تجد شيئاً، وكان زوجها من العمال فجاءت إلى الشيخ عبد القادر تصحب زوجها، وقالت: هذا زوجي ولي عليه من المهر قدر عشرين ديناراً ذهباً، ولقد وهبت له النصف، بشرط أن يعمل في مدرستك بالنصف الباقي، ثم سلَّمت الشيخ خطَّ الاتفاق، الذي وقعته مع زوجها، فكان الشيخ يشغَّله في المدرسة، يوماً بلا أجرة ويوماً بأجرة، لعلمه أنه فقير لا يملك شيئاً، فلما عمل بخمسة دنانير، أخرج له الخط ودفعه له، وقال له: أنت في حلٍّ من الباقي. ولقد اكتمل بناء المدرسة عام 528هـ/1133م، وصارت منسوبةً إلى الشيخ عبد القادر حيث جعلها مركزاً لنشاطات عديدة؛ منها التدريس، والإفتاء، والوعظ، وأما تمويل المدرسة فقد أوقف الأتباع والأغنياء عليها أوقافاً دائمة للصرف على الأساتذة والطلاب، ومنه من أوقف الكتب لمكتبتها، وكان لها خدم مهمتهم العناية بأمورها وخدمة الأساتذة والطلاب.
وكرَّس الشيخ عبد القادر معظم أوقاته للمدرسة، فكان لا يخرج منها إلا يوم الجمعة إلى المسجد، أو الرباط، ولقد قام أسلوبه في التدريس والتربية على مراعاة استعدادات كل طالب، والصبر عليه، وكان يعتز بمهنة التدريس هذه ويعتبرها، أشرف منقبة وأجل مرتبة، وأن العالِم محبوب من أهل الأرض، وأنه سيُميَّزُ يوم القيامة عمن سواه ويعطي درجات أسمى من غيره.
لقد أمضى الشيخ عبد القادر في التدريس ثلاثاً وثلاثين سنة بدأها عام 528هـ/1133م حتى وفاته 561هـ/1166م، ولا تزال المدرسة باقية إلى اليوم، ولها مكتبة فيها مخطوطات شهيرة ، وتعرف باسم المكتبة القادرية، والواقع أن التحليل الدقيق للنظام التربوي الذي طبقه عبد القادر، يكشـف عن تأثير كبير بالمنهاج، الذي اقترحه الغزالي ، فقد وضع الشيخ عبد القادر منهاجاً متكاملاً، يستهدف إعداد الطلبة والمريدين علميَّاً وروحيَّاً واجتماعياً، ويؤهلهم لحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كذلك توفّر لهذا المنهاج فرص التطبيق العملي في الرباط المعروف باسم الشيخ عبد القادر، حيث كانت تجري التطبيقات التربويّة، والدروس، والممارسات الصوفية ، ويقيم الطلبة والمريدون، وإليك تفاصيل البرنامج المذكور:
2ـ الإعداد الديني والثقافي:
يتحدّد هذا الإعداد بحسب عمر الطالب، أو المريد، وحاله، فإذا كان ممن يقصدون تصحيح العبادة، كالكبار من الناس، والعامة، درَّسه الشيخ عقيدة أهل السنة، وفقه العبادات اللذين تضمنها كتابه (الغنية لطالبي طريق الحق) الذي صنّفه على طريقة كتاب (إحياء علوم الدين) للغزالي واقتفى الموضوعات نفسها، التي عالجها الغزالي في كتابه المذكور، ويضاف إلى ذلك دراسات تستهدف إعداد النابه من الدارسين، ليكون داعية بين الناس، مثل أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووسائله وأساليبه، ودراسات في المذاهب الفكرية المعاصرة، والفرق السائدة، بالإضافة على التدريب على الوعظ والخطابة والتدريس. وأما إذا كان الدارس طالباً من طلبة المدرسة، فإنه يتلقى إعداداً أوسع يتضمن حوالي ثلاثة عشر علماً، تشمل على التفسير، والحديث، والفقه الحنبلي، والخلاف، والأصول، والنحو، والقراءات بالإضافة إلى ما سبق ذكره، على أنه كان يستبعد علم الكلام والفلسفة وينهى عن مطالعة كتبها السائدة، وكان الجمع بين الفقه والتصوف السني شرطاً أساسياً للمريدين، فقد روى ابن تيمية – في مجلدي التصوف وعلم السلوك من الفتاوى – كيفيَّة تقيد منهج عبد القادر بالأصول الواردة في القران الكريم والسنة، والتزامه تزكيةَ النفس في منهاجه التربوي.
3ـ الإعداد الروحي:
يستهدف الإعداد الروحي تربية إرادة المتعلم، أو المريد، حتى يصبح صفاء بلا كدر، ويصير مع النبي e في عقله ، ومشاعره ، ومعناه ، ويكون دليل قدوته.
ولكي يصل المتعلم إلى ذلك، عليه أن يلتزم السنة في كل شيء، وأن يتصف بصفات أساسها: المجاهدة والتحلي بأعمال أولي العزم.
وكان يرافق الممارسات العملية التي دعا إليها الشيخ دراساتٌ نظريةٌ حول مقصود المجاهدت، والعبادات، التي يمارسها المريد في حياته اليومية، وبذلك أقام التزكية الروحية على قاعدة فكرية، تستهدف إقناع المريد بما يمارسه فكان هناك دراسات حول الأوراد والأذكار، ودراسات عن التقوى والورع، ودراسات عن أحوال النفس ومداخل الشيطان، ودراسات عن الأخلاق، التي يجب أن يكون المريد عليها ويحتوي كتابا (الغنية) (وفتوح الغيب) فصولاً مطولة، مما اعتمده الشيخ عبد القادر في ذلك.
4. الإعداد الاجتماعي:
يستهدف هذا الإعداد: توثيق العلاقات بين الأفراد، والجماعات، والقضاء، على أسباب التفكك الاجتماعي، الذي ساد المجتمع في عصره، والميدان الذي كان يتم به هذا الإعداد؛ هو المدرسة القادرية نفسها، حيث يتدرب المريد على ما يجب أن يتحلى به الفرد خارج المدرسة في المجتمع الكبير. ويشمل هذا الإعداد تنظيم حياة المريد الخاصة، وعلاقات المريدين بالقيادة المتمثلة بالشيخ؛ وعلاقاتهم ببعضهم البعض، وعلاقاتهم بالمجتمع المحيط، أما عن حياة المريد الخاصة؛ فقد حدد المنهاج القادري آداباً تنظم دقائق السلوك اليومي للفرد، كاللباس، والنوم، والدخول، والخروج، والزينة، والجلوس، والسير، والطعام، والشراب، ومعاملة الزوجة والأبناء والوالدين، والإقامة والسفر، وفي جميع هذه الآداب يسترشد بما ورد في السنة النبوية.
كذلك حرص الشيخ عبد القادر أن يبتعد بالمريد عن كل ما يُنزل من مكانته الاجتماعية، كالبطالة والعيش على هبات المحسنين، وسؤال الناس، وحثه على الاشتغال بالكسب، والتجارة، مع مراعاة قواعد الأخلاق والأمانة.
وأما عن تنظيم علاقة المريد والطالب بالشيخ، أوجب على الشيخ أن يعامل مريديه بالحكمة والشفقة، وأن يؤدبهم ابتغاء مرضاة الله، وأن يكون لهم ملجأً وسنداً وراعياً، فإذا لم يكن في هذه المنزلة، فليترك شيخه وليعد إلى شيخ يؤدبه. وحدد القاعدة التي يعتمدها المريد في صحبة الأغنياء والفقراء بما يلي:
“أن تصحب الأغنياء بالتعزز والفقراء بالتذلل.. وعليك بصحبة الفقراء والتواضع وحسن الأدب والسخاء.. وعلى المريد أن يحذر من الضعف أمام عطاء الأغنياء، أو يطمع بنولهم، لأن تملقهم من أخطر الأمور على دين المرء وعلى خلقه، شريطة ألا يحقد عليهم، وأن يحسن الظن بهم، وأن لا يتعالى عليهم”.
استفاد الشيخ عبد القادر الجيلاني (رحمه الله) من جهود الإصلاح، وتراث الإمام أبو حامد الغزال، وحوَّل تلك التعاليم والقيم الروحية إلى مناهج مبسطة، يفهمها العامّة، وطلاب العلم والعلماء، فقد وضع الشـيخ عبد القادر منهجاً متكاملاً لبناء جيل النصر والتمكين في العهد الأيوبي ليكونوا بناة في الأمة على المستوى العلمي والفقهي، والإداري، والاقتصادي، والأمني، والحربي الجهادي.