قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ ما الفَقْرَ أَخْشَى علَيْكُم، ولَكِنْ أَخَشَى علَيْكُم أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا وتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ» (صحيح البخاري).
كل الدول والأمم قاطبة في عالمنا اليوم تتنافس على هذه الدنيا الفانية، ومن أجلها سعت بكل ما أوتيت من قوة لفرض سيطرتها على مواردها والتحكم في مقدراتها.
وما النزاعات العالمية والإقليمية إلا نتيجة طبيعية لهذا التنافس غير الأخلاقي وغير الإنساني.
وليت هذه الآفة الفتاكة توقفت عند الحكومات والشركات المتعددة الجنسيات فقط، لكان الأمر في حدود المعقول والمقدور عليه، ولكن هذه الآفة انتقلت إلى كل شعوب العالم، فأصبح همها وديدنها الشاغل كيف يمكنها أن تزيد من مداخيلها المالية وترتقي بمستوى معيشتها المادية، وأصبحت المادة والاستفادة المباشرة وغير المباشرة المشروعة منها وغير المشروعة المحرك والمحفز للعلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، إلا من رحم الله.
وأصبح من آثار هذه الآفة إعادة برمجة العقل اللاواعي لديها لتكون توافه الأمور هي أهم الأمور لديها!
وعلى سبيل المثال وليس الحصر:
– انخفض الوازع الديني والارتباط بدور العبادة بين الناس.
– قل الاهتمام بالعلم والعمل المنتج بين الجيل الجديد.
– ارتفاع جنوني في السلوك الاستهلاكي لدى الناس شيباً وشبابًا.
– تحول ملحوظ في حب تملك الكماليات حتى باتت هي الأساسيات.
– انخفاض روح المثابرة والصبر على الأعمال الشاقة والمفيدة والتحول إلى الأعمال المريحة وغير المفيدة؛ مما زاد من نسبة البطالة بين الناس.
– البحث عن العوائد المالية المرتفعة والسريعة أياً كان مصدرها.
– ارتفاع نسبة العنوسة والعزوف عن الزواج من الطرفين الذكور والإناث.
– عدم إدارة الوقت بما يفيد الإنسان في دينه ودنياه.
– انخفاض ملحوظ المستوى في مكارم الأخلاق، مثل الرضا والقناعة لدى الناس التي من أهم أسبابها وسائل التواصل الاجتماعي التي بلا شك قربت البعيد وأبعدت القريب، كما أنها في المقابل سببت في استفحال مساوئ الأخلاق مثل المقارنة والحسد والغيرة بين أفراد الأسرة والمجتمع والمجتمعات.
وأمثلة كثيرة لا تعد ولا تحصى لا يسع المقال ذكرها كلها.
الأمثلة المذكورة لهذه الآفات موجودة في كل الدول والأمم بدرجات متفاوتة، ولكن في نهاية المطاف هي موجودة لا ينكرها إلا جاهل.
هذه ليست دعوة لليأس والقنوط من وجود الأمل، بل دعوة للتأمل والتفكر ومراجعة للنفس، وقد أظهرت محنة غزة أن شعوب العالم بشكل عام والشعوب الإسلامية والعربية بشكل خاص ما زالت تميز بين الحق والباطل، بين الظالم والمظلوم، بين الخير والشر، بين المعتدي والمعتدى عليه، فهي ما زالت تتفاعل مع المصائب وتسعى لنصرة المظلوم على الظالم، كل حسب استطاعته وقوته، والشعور الإنساني ما زال منتشراً بين أحرار العالم بأمر من الله تعالى وكرمه وفضله.
وحري بنا كمسلمين أن نستغل المصيبة التي نزلت بأهلنا في غزة التي هي في واقع الأمر منحة مغلفة بمحنة أليمة ثقيلة ليرى منا الله تعالى ما يسره، مثبتين ذلك بأفعالنا وموقفنا بأننا نستحق أن نكون مسلمين.
ولنتذكر أننا سنقف يوم القيامة بين يدي الله تعالى؛ «إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يقولُ يَومَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أعُودُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لو عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ، وكيفَ أُطْعِمُكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: أَمَا عَلِمْتَ أنَّه اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أنَّكَ لوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلكَ عِندِي، يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ، فَلَمْ تَسْقِنِي، قالَ: يا رَبِّ، كيفَ أسْقِيكَ وأَنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟! قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أمَا إنَّكَ لو سَقَيْتَهُ وجَدْتَ ذلكَ عِندِي» (رواه أبو هريرة، صحيح مسلم).
إني على يقين بأن الله تعالى سيأخذ بيدنا وسيعيننا بحوله وقوته، سيكتب لنا النجاة يوم القيامة لأنه يريد لنا ذلك، وسيعاملنا بما هو أهله وليس بما نحن أهله.
روي عن ثمانية من الصحابة، هم أبو ثعلبة الخشني، وعبدالله بن مسعود، وأبو أمامة، وعتبة بن غزوان، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، ومعاذ بن جبل، ولفظه من حديث أبي ثعلبة عند الترمذي (3058)، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ».
قَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟! قَالَ: «بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ».
وكذلك روي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ أمتي مَثَلُ المطر لا يُدرى أولُه خيرٌ أم آخرُه» (حسن لطرقه، رواه الترمذي).
ولا شك أن مثل هذه الأحاديث إحدى مواضع ودلائل رحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء، وهي بواعث للجد والاجتهاد قدر الاستطاعة، فنحن المسلمين مطمئنون بأن الله سبحانه وتعالى يؤجرنا على السعي وليس على بلوغ الهدف والنتائج!
أصبحت لديَّ قناعة خاصة بأن شعبنا في غزة لهم وضعهم الخاص والمختلف تماماً عن باقي شعوب العالم، فهم حالة فريدة من نوعها، لا ينطبق عليهم ما ينطبق على باقي شعوب العالم والمنطقة، وقد كشفت لنا أحداث السابع من أكتوبر 2023م «طوفان الأقصى» معدن هذا الشعب وصلابته مما يجعلني فعلاً أعتقد وأقتنع بأنهم «شعب الله المختار»، ورأس الحربة التي على يدها سيفتح بها بيت المقدس ليعود «الأقصى» الجريح إلى يد المسلمين بإذن الله تعالى، هو ولي ذلك والقادر عليه، ولكن كيف ذلك؟ إليكم بعض الأسباب على سبيل المثال وليس الحصر:
ذكر الحاكم في «المستدرك» على الصحيحين بلفظ: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب» (قال الذهبي في التلخيص: صحيح الإسناد).
الآن لنسقط هذا الحديث وأحاديث أخرى سأذكرها لاحقاً على واقع أهلنا في غزة لنرى هل يحق لهم أن يسموا «شعب الله المختار» أم لا؟
– أهل غزة يعيشون حالة شِعب أبي طالب منذ عام 2008م تقريباً؛ برًا وبحرًا وجوًا، فقاطعهم العالم أجمع وما زالوا وحاصروهم حصارًا جائرًا لا يقبله أي شخص فيه دين أو أخلاق أو مروءة أو حتى ذرة إنسانية؛ (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الأحزاب: 22).
لا شك أن غزة تعيش غزوة «الأحزاب» بشكلها الجديد عام 2023م، فقد تداعت كل القوى الصليبية واليهودية والصهيونية لمحاربتها، وأحاطت بغزة كالسوار بالمعصم، وما نشاهده عبر وسائل التواصل الاجتماعي من ثبات وعزيمة لدى شعبنا في غزة رغم هذه الإبادة الجماعية خير دليل أنهم مؤمنون حقاً، وأنهم صادقون وواثقون بوعد الله، محركهم الأساسي عقيدتهم الراسخة بنصر الله تعالى لهم إن شاء سبحانه، فقد تربوا منذ صغرهم على مفهوم عميق جداً؛ وهو أنهم جميعاً مشاريع شهادة.
– يقولُ نِمْرانُ بنُ عُتبةَ الذِّمَاريُّ: دخَلْنا على أمِّ الدَّرداءِ ونحنُ أيتامٌ، وقد مات أبوهم في الحَربِ في سبيلِ اللهِ والجهادِ، فقالتْ لهم أمُّ الدَّرداءِ: أبشِروا؛ فإنِّي سمعتُ أبا الدَّرداءِ يقولُ: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيْه وسلَّم: «يَشْفَعُ (أي: يُعْطَى الشَّفاعةَ يومَ القيامةِ) في سَبْعينَ مِن أهلِ بيتِه» (رواه أبو الدرداء، صحيح أبي داود).
كما نعلم جميعاً أن مجموع عدد الشهداء في غزة منذ 7 أكتوبر 2023م تجاور 21 ألف شهيد والله حسيبهم، وإذا افترضنا أن منذ بداية عام 2008 حتى 2023م هناك أيضاً 4 آلاف شهيد تقريباً؛ فيصبح العدد الإجمالي 25 ألف شهيد، هذا يعني أن مليوناً و750 ألفاً من أهلنا في غزة يستحقون نيل شرف شفاعة شهدائهم من أصل مليونين من أهلنا في غزة، نزولاً وتطبيقاً لحديث أم الدرداء عن زوجها أبو الدرداء.
– عن أبي عَبْس عبدالرحمن بن جبر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ في سَبِيل الله فَتَمَسَّهُ النَّار» (رواه البخاري).
العالم كله شاهد حجم التدمير والهدم والتنكيل الذي مارسه وما يزال يمارسه الكيان الصهيوني الغاشم على أهلنا في غزة الذي لم يجعل أرجلهم مغبرة فقط، بل أجسادهم بالكامل تلفها الغبار الذي هو في سبيل الله تعالى.
– وروى أحمد (22950) عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن صاحب القرآن: «وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ، مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا».
وقد ذكرت وزارة الأوقاف في قطاع غزة أنه تم تخريج 24 ألف حافظ وحافظة للقرآن في أغسطس 2023م.
نزولاً على حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه هناك 48 ألف أب وأُم سيلبسون تاج الوقار يوم القيامة وينالون شفاعة أبنائهم وبناتهم لحفظهم القرآن، كما ذكّرت الوزارة أن إجمالي الحفاظ والحافظات في غزة يصل إلى 50 ألفاً، في حين أن إجمالي الآباء والأمهات بلغ 100 ألف ممنّ سيلبسون تاج الوقار بإذن الله تعالى يوم القيامة، أضف إلى ذلك فإن عدد الأسر في غزة يقارب 335 ألف أسرة وفق الإحصاءات الرسمية المعلنة من إدارة الإحصاء في غزة؛ مما يعني أن هناك ما يقارب 1.5 حافظ في كل أسرة؛ يعني كل أسرة فيها حافظ، وبعض الأسر فيها حافظان.
– ذكر ابن حجر في «فتح الباري» أن الرباط ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار لحراسة المسلمين منهم، وذكر أن من أقام في أي مكان وإن كان وطنه ينوي بالإقامة فيه دفع العدو فإنه يكون مرابطًا.
وبناء عليه، فنرجو لمن يقيم بالشام بشكل عام وفلسطين وغزة بشكل خاص بنية الرباط والجهاد أن ينال الأجر إذا كان مقيماً هناك بتلك النية.
الخلاصة، إن الشعب الفلسطيني بشكل عام وأهلنا في غزة العزة بشكل خاص يعيشون ما بين فريضة الجهاد والرباط والاصطفاء لحفظ كتاب الله تعالى! ويوم القيامة ستنالهم شفاعة سيد المرسلين أولاً ثم شهدائهم ثم حفاظهم برحمة الله تعالى التي وسعت كل شيء.
كنت أظن أن الشعب الفلسطيني عموماً وأهلنا في غزة خصوصاً محرومون بالمعايير الدنيوية، لأكتشف أننا نحن الذين حُرمنا، وهم الرابحون بالمعايير الربانية.