في الإجابة عن سؤال: لماذا دور الشعوب مهم وضروري في مقاومة التطبيع؟ فيمكن أن نشير إلى عدة أمور:
– قضية فلسطين بخلفياتها التاريخية، وبالسياسات الجارية ضدها، ليست فحسب قضية وطن داخل نطاق جغرافي محدد، ولا قضية شعب موجود داخل هذه الحدود؛ إنها قضية أوطاننا العربية جميعًا وقضية شعوبنا العربية والإسلامية كلها؛ لأن أطماع من احتل فلسطين ومن يقف وراءها مخطِّطًا وداعِمًا وممكِّنًا، لا تقف عند حدود جغرافية هذا البلد وحده.
وهذه الأطماع الكبرى تجعل من قضية حضور الشعوب في قلب المعركة، قضية أساسية لا هامشية، وتجعلهم طرفًا أصيلاً في الصراع لا على الهامش، فضلاً عن أن يكونوا في مقاعد المتفرجين.
– إن الأطماع الكبرى تحتاج لجهود مضادة كبرى، مما لا يكفي فيها دور الحكومات وحدها، لا سيما إذا تخلى البعض عن مسؤولياتهم وواجباتهم، فهنا، يكون الحضور أوجب.
– إذا كان المقصود من احتلال فلسطين والخطط التوسعية التي ترتكز عليها مد النفوذ والسيطرة خارج فلسطين، وأن ذلك لا يتم إلا باختراق شعوب هذه الدول المحيطة بفلسطين؛ فإن هذا يعني أن الشعوب هنا طرفٌ أصيل في الاستهداف المقصود، ومن ثم طرف أصيل في المقاومة المطلوبة.
فدور الشعوب لا يمكن أن يغني عنه دور الأنظمة، تمامًا كما أن المشاريع التوسعية لا تكتفي بعلاقاتها مع الأنظمة.
– ثمة أمر ثالث، وهو أن الثقافة الإسلامية ترى في الأمة طرفًا أصيلاً في كل الخطابات الشرعية والتكليفية؛ فالأمة كل الأمة مخاطَبةٌ بإقامة الدين، وبعمارة الأرض، وبحفظ العمران، وبكل الأوامر والنواهي.. وأما المؤسسات التي تنبثق عن الأمة، فهي نائبة عنها وممثِّل لها، وليست بحال من الأحوال بديلاً عن الأمة وعن حضورها وفاعليتها.
ولعل هذه الناحية تشترك فيها وبوجه ما الثقافة الإسلامية مع غيرها من الثقافات التي ترى في «الأمة مصدر السلطات»، وأساسًا لما ينبثق عنها من مؤسسات وهيئات.
وإذا كانت الأمة هي الأساس، وهي المخاطَب الأصيل، فينبغي ألا تُنحَّى عن قضية خطيرة مثل مقاومة التطبيع، بل يجب أن تَحضر وأن تُستدعَى، وأن تتاح لها كل الأطر التي تعلن فيها بحرية عن رأيها وإرادتها، وتمارس ذلك من غير ضغط ولا إكراه.
– بقيت نقطة رابعة، وهي أن حضور الشعوب في مقاومة التطبيع هو ما يكفل إفشال مخططات التوسع ومدِّ النفوذ والسيطرة، من جانب المشروع الاستيطاني ومن يقف وراءه داعمًا وممكِّنًا، بل يكفل أيضًا إبقاء التطبيع الممارَس في المستوى السياسي في حالة جمود وركود، من السهل أن يفقد فيها تأثيره مع الأيام، أو مع توافر فرصة حقيقية للمراجعة.
لهذا، على حركات مقاومة التطبيع أن تشيع هذه الثقافة عند الجمهور العريض، المحب لفلسطين والداعم لها؛ وأن تعمل على إبقاء جذوة هذه القضية حية نابضة بالوعي وبكل ما من شأنه أن يجعله في حالة تنبه دائم لمحاولات اختراق الوعي الجمعي، والحس الشعبي الداعم لفلسطين؛ مهما تخفَّت محاولات التطبيع وراء شعارات أو تسلَّحت بإغراءات.
«الطوفان».. بيئة مناسبة للمراجعة
لا شك أن «طوفان الأقصى» قد تجاوز في تأثيراته وتداعياته ساحة الصراع مع الكيان الصهيوني، إلى الساحة العربية ذاتها، وعلى مستويات عدة ستأخذ في التشكل بصورة أكبر مع الأيام القادمة، حينما يتاح التأمل بدرجة أعمق في هذا الحدث الكبير وما حمل من رسائل ومضامين.
ومما بدأ يتشكل الآن، وبفعل «طوفان الأقصى» وما أعقبه من عدوان صهيوني طال كل شيء في غزة، وبدرجة مغرقة في الوحشية والهمجية والتدمير، هذه المراجعات التي بدأت تشق الطريق إلى «قطار التطبيع»، الذي كان يراد له، من قبل «الطوفان»، الانطلاق وبسرعة جنونية!
والمراجعة هذه المرة بدأت برمز مهم من رموز التطبيع، وهو د. أسامة الغزالي حرب، صاحب الكتابات والمواقف البارزة في هذا الصدد، ففي عموده بـ«الأهرام»، تحت عنوان «اعتذار»(1)، سجل د. الغزالي حرب مراجعة مهمة، واعتذارًا عن موقفه الذي كان اتخذه كواحد من مثقفي مصر والعالم العربي، إزاء الصراع العربي «الإسرائيلي»، بعد نصف قرن من المعايشة ومئات الدراسات والأبحاث العلمية والمقالات الصحفية، والمقابلات الصحفية، والزيارات الميدانية.
وأشار الغزالي حرب إلى ما قام به من زيارة «إسرائيل» بعد مبادرة السلام التي أعلنها الرئيس السادات، وإلى تفاؤله بعد توقيع «اتفاقات السلام» مع الأردن (1994م)، ثم مع منظمة التحرير (أوسلو1، و2)، وما تحمَّله بسبب ذلك من معارضي التطبيع، من المثقفين المصريين، والنقابات المهنية وعلى رأسها نقابة الصحفيين.
ثم يضيف في كلمات مهمة: «إنني اليوم -وقد تابعت بغضب وسخط وألم- ما حدث ولا يزال يحدث من جرائم وفظائع في غزة يندى لها جبين الإنسانية، تُقتل فيها آلاف الأطفال والنساء، وتدمر فيها المنازل والمباني على رؤوس البشر، وتصطف فيها جثث الأبرياء لا تجد من يدفنها، أقول: إني أعتذر عن حسن ظني بـ«الإسرائيليين» الذين كشفوا عن روح عنصرية إجرامية بغيضة، أعتذر لشهداء غزة، ولكل طفل وامرأة ورجل فلسطيني، إني أعتذر!».
هذه المراجعة من رمز ثقافي كبير له تاريخ طويل في الدعوة للتطبيع؛ تنظيرًا وممارسة، لا شك أن لها قيمتها، وأنها ما كان لها أن تصدر لولا «طوفان الأقصى» الذي ذكَّر بحقائق كان البعض يحاول أن يتناساها، أو يضعها في زاوية مهمَّشة من الذاكرة الجمعية للشعوب، ولا شك أيضًا أن الأيام القادمة ستشهد مراجعات أخرى في الموقف من التطبيع ومن قضايا أخرى، كان لـ«طوفان الأقصى» الفضل في وضعها موضع التأمل والاعتبار، وهذه حسنة كبرى من حسنات هذا «الطوفان» المبارك.
«الصحفيين» المصرية.. نموذج رائد
من المؤسسات ذات الدور المهم في مقاومة التطبيع، نقابة الصحفيين المصرية، التي قدمت نموذجًا رائدًا في مقاومة التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأصدرت عدة قرارات في هذا الشأن؛ منذ القرار الأول بحظر التطبيع بين النقابتين المصرية و«الإسرائيلية»، الذي صدر عام 1980م في أعقاب توقيع معاهدة السلام بين مصر و«إسرائيل»، وحتى تأكيد هذه القرارات في آخر جمعية عمومية في 17 مارس 2023م.
وفي هذه المسيرة المتواصلة من قرارات حظر التطبيع، نرصد موقفين لهما دلالة مهمة:
1- بعد صدور القرار الأول في عام 1980م، وكان يقتصر على حظر التطبيع بين النقابتين، جاء قرار النقابة في عام 1985م ليشدِّد على القرار الأول وليفصِّله، بحيث يشمل كل أشكال التطبيع، سواء كان نقابيًّا أو مهنيًّا أو شخصيًّا؛ ليكون بذلك أكثر قرارات النقابات المهنية المصرية تحديدًا في صياغته(2).
2- وقفت النقابة بالمرصاد لكل من خالف قرارها بحظر التطبيع، ووجهت «لفت نظر» لبعض صحفييها؛ ممن سافروا للكيان الصهيوني، أو قابلوا رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو، في أثناء زيارته القاهرة عام 1997م، (وبالمناسبة كان منهم د. أسامة الغزالي حرب)، أو وقّعوا على «إعلان كوبنهاجن».
وجاء في بيان النقابة بشأن هذا الأمر الأخير: «ناقش مجلس نقابة الصحفيين في اجتماعه يوم 23 فبراير 1997م برئاسة الأستاذ إبراهيم نافع، نقيب الصحفيين، توقيع عدد من المثقفين المصريين على «إعلان كوبنهاجن».. ويعلن مجلس النقابة أن الزملاء الصحفيين الذين ساهموا في هذه المحادثات لا يمثلون نقابة الصحفيين وتوجهاتها، أو مسيرتها العربية، ويؤكد المجلس أنه سوف يقف بكل حزم أمام محاولات انتهاك قرارات الجمعيات العمومية للنقابة بعدم التطبيع مع «إسرائيل»، حتى يتم الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، والحصول على جميع الحقوق العربية المشروعة.. وقد قرر المجلس لفت نظر الزميلين لطفي الخولي، ود. عبدالمنعم سعيد اللذين اشتركا في محادثات كوبنهاجن»(3)، ولاحقًا، أحالهما المجلس إلى لجنة تحقيق لتكرار المخالفة.
هذه المواقف المهمة لنقابة الصحفيين المصرية -ولغيرها من النقابات العربية- تؤكد أهمية حضور الشعوب بمختلف المؤسسات الأهلية المعبرة عن نبضها وإرادتها، في قضية العرب والمسلمين المركزية، قضية فلسطين.. وإبقاء التطبيع ضمن المحظورات التي ينبغي عدم التهاون فيها.
_______________________________
(1) «الأهرام»، 19 نوفمبر 2023م.
(2) صلاح عيسى، «الأيام»، 3 يناير 2014م.
(3) شفيق أحمد علي، «الخليج»، 23 يونيو 2011م.